“كوين وسليم”.. قصة حب في ظلال عنصرية الشرطة الأمريكية

كل حركة وكلمة وأحيانا كل نفَس يجب أن يكون محسوبا بدقة إذا كنت أمريكيا أسود شاءت له الأقدار أن يقع في أيدي الشرطة الأمريكية، ذلك أن الشرطة يُمكن أن تعثر على أسباب عديدة لتجريمك وعقابك، كما يُمكن أن تتحول تقاربات عادية بين الشرطة والأمريكيين السود لقنابل موقوتة لا تحتاج الكثير من الوقت أو الجهد حتى تنفجر. وعندما تنفجر، فإن ذلك يحدث غالبا بعنف ووحشية صادمتين، لتتغير بعدها مصائر المشتركين في هذه المواجهات.

وهذا كان الحال في الفيلم الروائي الأمريكي “كوين & سليم” (Queen & Slim) الذي عُرض قبل أشهر قليلة من حادثة قتل الأمريكي الأسود “جورج فلويد” على يد أحد عناصر الشرطة الأمريكية، ويتناول العلاقة الإشكالية العنيفة بين الشرطة في الولايات المتحدة والأمريكيين السود، ومفاعيل العنصرية العرقية في مناطق عديدة في الولايات المتحدة على حياة أمريكيين عاديين.

يُجابه بطلا فيلم “كوين وسليم” الموقف الذي يُمثل كابوسا لمعظم الأمريكيين السود، أي التقاطع مع الشرطة الأمريكية في الحيز العام الذي يقود أحيانا إلى مواجهة قد تترتب عليها عواقب. كانت هذه المواجهة مأساوية للغاية في حالة بطلي الفيلم الشابين الذين لم تكن بينهما معرفة حقيقية قبل تلك الحادثة، لكنهما سيمضيان معا برحلة طويلة مُرعبة عبر الولايات المتحدة بحثا عن خلاص مستحيل.

انبطاح على الثلج.. فتيل الرصاصة الأولى

يهتم الفيلم كثيرا بمشاهد المجابهة بين البطلين الشابين والشرطي الذي أوقفهما في الطريق، وتكون مبكرة جدا في زمن الفيلم، فما ستؤول إليه هذه المواجهة سيكون حاسما على صعيد ما يحدث من أحداث لاحقة في الفيلم، وكذلك على صعيد التطور النفسي للشخصيات التي تجد نفسها في مواجهة أسئلة الماضي والمستقبل والعرق الذي تنتمي إليه، بينما ستتواصل في الخلفية طيلة زمن الفيلم المُطاردة الضخمة للشرطة الأمريكية لهما.

بدا الشرطي عدائيا كثيرا، وكأنه ينتظر انفعالا ما منهما ليؤوله وينطلق منه ليمارس مزيدا من الإذلال والقسوة بحقهما، وهذا ما حدث فمجرد أن سأل البطل الشاب عن الوقت الذي ستستغرقه عمليات تفتيش سيارته، وقد كان ينتظر خارج السيارة في البرد، انفجر الشرطي غضبا، وأمره بالانبطاح على بطنه في الشارع المغطى بالثلج.

البطل سليم يُناقش الشرطي الأمريكي الذي أوقفه على الطريق عن الوقت الذي ستستغرقه عمليات تفتيش سيارته

ما يحدث بعد ذلك سيزيد من عمق الهوة التي يسقط فيها أبطال ذلك الموقف جميعا، فعندما تقرر البطلة الشابة أن تترك السيارة لكي تدافع عن رفيقها فإنها تتلقى رصاصة في رجلها، ثم يقود هذا لعراك بين البطل الشاب والشرطي ينتهي بمقتل الشرطي في الشارع الذي كان فارغا تماما من السيارات والمارة.

مجتمع الأمريكيين السود.. ما وراء الشخصيات

تبدأ المشاهد اللاحقة بعد مقتل الشرطي بالكشف التمهيدي عن شخصية البطلين وخلفيتهما الاجتماعية، فالبطل “سليم” (الممثل دانيال كالوليا) شاب طيب نشأ في أسرة متدينة متماسكة، وما قام به للتو يعد غريبا تماما عن منظومته الأخلاقية، حتى أن ردة فعله الأولى بعد الحادثة هو رغبته في الاتصال بوالده والعودة لبيته.

أما البطلة “كوين” (الممثلة جودي تورنر-سميث) فكانت أكثر حدة، فهي محامية تتعاطى مع قضايا الأمريكيين السود كل يوم، وتعرف جيدا تعقيد العالم من حولها، كما أنها تبدو متأكدة أن فرصتهما لإثبات براءتهما ضئيلة للغاية.

بعد أن يقرر البطلان -في أداء حماسي متماسك- ترك موقع الحادثة دون انتظار الشرطة يتحول الفيلم إلى مزيج من أفلام المطاردات والطريق، بيد أن فيلم “كوين وسليم” لا يُضيع ارتباطه بالبيئة الخاصة التي خرج منها أبطاله، وهي مجتمع الأمريكيين السود وحياتهم القريبة دائما من الانفجار، وهذا ما يحدث بصورة دورية في السينما والحياة كما يحدث اليوم في الولايات المتحدة.

على الحافة.. بين ألحان الحب وشرارة الجحيم

كانت وجهة البطلين مدينة أمريكية بعيدة يعيش فيها خال للمحامية الشابة على أمل أن يساعدهما هذا الخال في الهروب خارج الولايات المتحدة، ويقابلان في الطريق إلى المدينة البعيدة نماذج أمريكية مُتنوعة، ويرقصان على حافة رفيعة بين بشارات الحب الذي يُولد بينهما، وبين الجحيم الذي ينتظرهما إذا ألقي القبض عليهما.

علاقة عاطفية وحب يولد على الطريق بين بطلي الفيلم “كوين” الشابة الحادة الطباع والشاب “سليم” طيب القلب

يقع خط مواز لعلاقة عاطفية بين البطلين، أي بين الشابة حادة الطباع والشاب طيب القلب، إلى جانب الخط التشويقي لمطاردة الشرطة لهما، فيسير هذان الخطان بالتوازي، بينما يغلف الخط العاطفي الفيلم بحزن عذب يصل إلى ذروات متقدمة في الربع الأخير في الفيلم، بينما سيتعثر الفيلم ببضعة عثرات درامية في الطريق الطويل إلى تلك النهاية التي ستكون قاتمة وملحمية.

حكم بإعدام رجل أسود.. خسارتان في يوم واحد

في مقهى على الطريق تتبدى الفروق بين الشابين من المشهد الافتتاحي في الفيلم، فلم يكن البطلان يحملان الكثير من التوقعات من لقاءهما الأول، تكشف البطلة أنها كانت تشعر بالوحدة بعد يوم طويل، وأنها أرادت مقابلته لأنها لم تشأ أن تبقى وحيدة في البيت، كذلك الشاب لم يكن يتوقع الكثير هو أيضا، فهو في واحد من المواعيد الغرامية التي تقع عن طريق الإنترنت، ويمكن أن تنتهي بلا شيء.

وإذا بدت القسوة على البطلة المحامية الشابة في المشهد الافتتاحي فهناك أسباب لذلك، ذلك أنها خسرت في يوم الموعد قضية لرجل أسود كانت تدافع عنه، فقد صدر بحقه حكم الإعدام، ثم يتواصل موضوع الخسارة الذي بدأ الفيلم به عبر مشهده المفصلي مع رجل الشرطة، فالهروب بدل مواجهة العواقب على قتل الشرطي هو إقرار بهزيمة أخرى، هزيمة العرق الأسود أمام الأحكام المسبقة والظلم الجماعي.

محطات الطريق.. التقاط أيقونة خالدة في تراث السود

يتقاطع البطلان في طريق هروبهما من الولايات المتحدة بشخصيات عدة، ويقتربان كثيرا من الخطر، ويكاد أن يقبض عليهما في عدة مواضع، وتضيف لقاءات الطريق حيوية إلى الفيلم رغم أن بعضها جاء ركيكا ومقحما ولم يضف الكثير إلى الدراما الخاصة في الفيلم، كما تفتح لقاءات البطلين مع أمريكيين سود سمعوا من الإعلام بقصة قتل الشرطي المجال لحوارات ومواقف مهمة في الفيلم على صعيد العلاقة بين الأمريكيين السود والسلطات.

من اللقاءات الناجحة التي تضاف إلى سوداوية الفيلم وتربطه بالواقع الحالي لقاء مع ابن صاحب ورشة سيارات لجأ إليها البطلان بعد تعطل سياراتهم، وكان الوالد والابن قد سمعا بمطاردة البطلين على أجهزة الإعلام التي ستحيط المحامية الشابة وصديقها الطيب بهالة الأبطال.

يطلب ابن صاحب الورشة مرافقتهما، ويلتقط لهما صورة تتحول إلى أيقونة ضمن أحداث الفيلم، ولعل الصورة الفوتوغرافية ذاتها بجمالها وخصوصيتها ستتحول إلى أيقونة جديدة في تراث الأمريكيين السود الفني.

مسدس الصبي الأسود.. تعددت الأسباب والقتل واحد

يعود الفيلم إلى الابن المراهق في مشاهد منفصلة عندما يشترك في تظاهرة ضد الشرطة في مدينته الصغيرة، ويحاول شرطي أسود تهدئة الفتى الذي كان منفعلا ومتحمسا كثيرا، ويقود هذا إلى مواجهة دموية تنتهي بقتل الشرطي بمسدس الفتى الذي كان يخبئه في جيبه. كان هذا الشرطي الأسود هو الشرطي الثاني الذي يقتل في الفيلم، وإذا كانت أسباب قتل الشرطيين تبدو مختلفة بيد أنها آتية جميعا من عنصرية متجذرة ومجتمع يشرخه غياب التصالح مع ماضيه.

المخرجة الأمريكية السوداء “ميلينا ماتسوكاس” تعتمد بأسلوبها الصوري المميز على الاحتفاء بجمال الأمريكيين السود

يكشف لقاء البطلة مع خالها أسباب حدة شخصيتها إذ إنها عانت من مأساة عائلية لعب الخال دورا مهما فيها. ينجح الخال وقد خدم في الجيش الأمريكي في العراق ويحمل ندوبا نفسيّة من تلك الفترة بتدبير خطة لتهريب البطلين إلى كوبا، لكن هذه الخطة تتطلب رحلة أخرى طويلة بالسيارة، وهذا ما سيؤجل نهاية مغامرة البطلين، وتأتي صادمة كثيرا لكن متوقعة.

“ميلينا ماتسوكاس”.. احتفاء بجمال البيئة الأمريكية السوداء

يعتبر فيلم “كوين وسليم” هو الأول للمخرجة الأمريكية السوداء “ميلينا ماتسوكاس”، فبعد أن أخرجت حلقات عديدة من المسلسل المتميز “متزعزع” (Insecure) لشبكة “أتش بي أو” الأمريكية؛ تواصل المخرجة في باكورتها الإخراجية تأصيل أسلوبها الصوري المميز الخاص الذي يحتفي بجمال الأمريكيين السود كأفراد، ويهتم بعلاقاتهم مع المحيط من حولهم، فتبدو الألوان في أعمال المخرجة حارة وحيوية، والهوية البصرية للمكان والأشخاص واضحة ومتدفقة.

ولعل أسلوب المخرجة ومرجعياتها المتجذرة في حياة الأمريكيين السود هي التي جذبت إليها المطربة الشهيرة بيونسيه، فأوكلت لها إخراج فيديو كليب لها في فيلم تسجيلي عن المطربة، والمخرجة واحدة من الأسماء الواعدة من مجتمع الأمريكيين السود، والمشغولة بالبحث عن هوية صورية وجماليات هذا المجتمع، إذ تجذب أحيانا –كما هو الحال في فيلم “كوين & سليم”- الانتباه إلى القصة والدراما.

ركوب الخيل.. تحقيق الأمنية الأخيرة

هناك مشاهد رائعة عديدة تبيّن أسلوب المخرجة الصوري الخاص كالمشاهد التي بدل فيها البطلين ثيابهما وارتديا ملابس جديدة في إشارة إلى التبدلات النفسية التي يمرون بها، وهناك مشهد التقاط الصورة التي ستصبح شهيرة للبطلين حيث جردت المخرجة ذلك المشهد من الألوان الحارة الغامقة، وبدا قريبا من الأسود والأبيض.

تُغلف المخرجة النصف الثاني من الفيلم بشجن وحسرة كبيرتين يرتكزان على أداء واعٍ للممثلين الرئيسين، إذ إنهما يعرفان في قرارة أنفسهما أن نهاية عنيفة تنتظرهما، يرغب “سلم” في واحد من مشاهد الفيلم الآسرة بركوب حصان كان في حقل مرّا بقربه لأنه لم يركب حصانا في حياته من قبل، رفضت “كوين” في البداية لكنها عادت ووافقت وهي تتأمل رفيقها بحزن هائل، وكأنها تذكرت فجأة أن هذه الأمنيات الصغيرة ستكون الأمنيات الأخيرة له في حياته.

خلع رداء الضحية.. غوص في ظروف مجتمعية معقدة

يجتهد الفيلم في الابتعاد عن تقديم الأمريكيين السود كضحية فقط، فتراه يبحث في الظروف المُعقدة للمجتمع الذي تدور فيه أحداث قصته، ويتجنب التنميط والتبسيط، فإذا كانت بداية الفيلم تمثل إدانة قانطة ضد العنصرية الممنهجة إلا أنه سرعان ما يوجه المرآة للمجتمع الأسود نفسه ويعامله ببلوغ.

فالشخص الذي كان من المفترض أن يساعد البطلين في هروبهما من الولايات المتحدة وهو أسود قام بعد ذلك بالإبلاغ عنهما للظفر بمكافئة الشرطة المالية، كما تفصح سلسلة المشاهد التي رافقت الفتى المراهق الذي قتل شرطيا أسودا عن مفاعيل العنصرية وآثارها المدمرة على الجميع.

قدمت السينما الأمريكية في الماضي أفلاما عن مطاردات الشرطة الأمريكية لشخصيات تتأرجح بين الخطيئة والبطولة، مثل فيلم “بوني وكلايد” (Bonnie and Clyde) وفيلم “ثيلما ولويز” (Thelma & Louise)، وتنتهي هذه الأفلام دائما بالنهاية ذاتها عندما يكون موت الأبطال العنيف تكفيرا عن اضطراب وغياب العدل عن العالم الذي أتت منه.

ينضم فيلم “كوين وسليم” إلى مجموعة الأفلام هذه، بيد أنه يحافظ على هوية وبصمة خاصة مستمدة من تجارب حقيقية يسهل التعرف عليها والتعاطف معها.


إعلان