“رسائل غارقة”.. رحلة الموت بحثا عن حياة الضفة الأخرى
بين عامي 2014-2016 أودى ممر قصير بين تركيا واليونان -لا يتجاوز طوله 9 كيلومترات- بحياة أناس كثيرين، وفرّق عائلات عدة، وقد أصبح هذا الممر أكبر طريق للهجرة نحو أوروبا على مدى الأزمان.
ويكشف فيلم “رسائل غارقة” -الذي أُنتج بشراكة بين الجزيرة الوثائقية ووزارة الثقافة الإسبانية- عن مأساة الهجرة التي تفاقمت في السنوات الأخيرة، فقد مات مهاجرون في البحر خلال محاولاتهم اليائسة للوصول إلى أوروبا. وفي حين شكّلت سفن الإنقاذ التابعة لمنظمات غير حكومية أملا وحيدا في إنقاذ بعض من غرقت مراكبهم، فإن آخرين كثرا لم يحالفهم الحظ في النجاة؛ فغرقوا وغرقت معهم رسائلهم.
صُور الفيلم بكامله في البحر، ويرافق سفينة الإنقاذ الإسبانية “أذرع مفتوحة” (Open Arms) في مهمتها الأكثر إثارة، حيث تكافح لإنقاذ 550 شخصا من لاجئي البحر الأبيض المتوسط بعد تحطم مركبهم في المياه الليبية.
وينطق فيلم “رسائل غارقة” على لسان طفلة كانت من ضحايا المراكب الغارقة في المتوسط، تقول إنه لا يوجد طفل يريد الرحيل، لكن القصف الذي دمر بيتهم ومدرستها دفع أسرتها إلى ركوب البحر أملا في نجاة لم تحصل، وبدلا من ذلك بدت وكأنها تروي قصتها وقصص غيرها من قاع البحر.
“في البداية، كانت أوروبا قريبة، كنا نسميها لسبوس. قِيل إننا حالما نصل هناك، يصبح الوصول إلى ألمانيا سهلا.. جربت أنا وأمي ذلك الطريق، مثل أمهات وبنات أخريات قبلنا، لكن شاء القدر أن يتفرقن. كتبت بعض الأمهات رسائل لم تصل قط، لذا من هنا من القاع، سأسرد لكم قصصهن.. قصتنا جميعا”.
ومن بين هذه الرسائل، رسالة أرسلتها أم عراقية إلى ابنتيها سارة وهاجر تحكي ما حدث لها بعد أن فرت من جحيم الصراع في العراق لتجد ما هو أشد في رحلة المعاناة داخل البحر.
“ما مررنا به أسوأ من حالنا في منزلنا”
في عام 2016، أُبرمت اتفاقية بين أوروبا وتركيا جعلت من المستحيل تقريبا على المهاجرين الوصول إلى اليونان، وحينها أصبحت ليبيا مركزا للاتجار بالبشر، ونقطة انطلاق إلى أوروبا، وأصبح البحر المتوسط أكثر طرق الهجرة غرقا للمهاجرين الذين لم تُسعفهم قوارب الإنقاذ.
كان على المهاجرين البحث عن طريق جديد للهرب، إلى أن وجدوا طريقا آخر أخطر من الأول يمر عبر مضيق صقلية.
بلغت راوية الفيلم عشر سنين وهي في طريق الهجرة.. “ما مررنا به أسوأ من حالنا في منزلنا، كنت على متن قارب يجرفه البحر، لم نر سوى المياه، وقارب آخر كان قد انطلق مع انطلاق قاربنا، كان هذا القارب الأحمر، كنا نتحدث عنه كثيرا، كان من المهم أن يجدنا هذا القارب”.
وتشير الطفلة في ذلك إلى سفينة منظمة “أذرع مفتوحة” (Open Arms) التي سعى فريقها لإنقاذ أكبر عدد من المهاجرين الموجودين في عرض البحر، مستعينا بمروحية.
“نهرب من الموت لكنه يسافر معنا أحيانا”
تروي الطفلة ما حصل قائلة: بدأت المياه تتسلل إلى قاربنا، كنا متلاصقين لدرجة أنني لم أستطع التحرك، لم أكن أسمع سوى صراخ، لم نعد نستطيع رؤية القارب الآخر، كنا نغرق، لن نصل إلى ألمانيا.
وفي هذه اللحظات أيضا كان فريق الإنقاذ يُعلن أنهم على بعد مسافة قريبة من الهدف لكنهم لا يرون شيئا. “وجد القارب الأحمر قاربا آخر خشبيا مثل قاربنا، لكن ركابه كانوا محظوظين أكثر منا”. ورغم ذلك فإن أحد أطفال هذا القارب كان قد فارق الحياة.. “مثلنا تماما، لن يرى هذا الطفل أوروبا أبدا، نهرب من الموت لكنه يسافر معنا أحيانا”.
أخيرا تصل قوارب الإنقاذ، يخبر فريق الإنقاذ المهاجرين المتطلعين بشغف إلى النجاة أنهم ستوزع سترات النجاة عليهم، وأن عليهم أن لا يتدافعوا، وتبدأ عمليات الإنقاذ وإسعاف المرضى ومن فقدوا وعيهم، وبينهم واحد أصيب بنوبة قلبية، لكن يبدو أن الموت كان أسرع إليه منهم.
“عندما تكون على متن القارب، تفكر أحيانا في أن المكان الذي ستصل إليه لا يهم، لأن المهم هو الوصول ذاته، لكن هذا غير صحيح، فالمكان مهم، أوروبا هي وجهتنا، ما لا نعرفه هو ما ينتظرنا هناك، نسمع الكثير من الأمور، قبل مغادرتنا، قالت والدتي إنها تعرف أناسا في أوروبا غير سعداء هناك. تصورت أن هذا غير ممكن، وإلا فلماذا نذهب إلى هناك؟ ثم تذكرت دوائر القصف والقنابل، وفكرت في أننا سنكون في حال أفضل في أوروبا”.
“أتمنى أن ترى هذا العالم وتفهمه”.. رسالة إلى الجنين
ومن بين “الرسائل الغارقة”، رسالة كتبتها حواء إلى طفلها الذي لم يكن قد وُلد حين بدأت رحلتها: “طفلي العزيز، سأخبرك القصة كاملة عندما تأتي إليّ هذا العام، آمل أن تذهب إلى مدرسة لائقة، أتمنى أن ترى هذا العالم وتفهمه يوما ما، لأني لا أفهمه”.
وتحكي حواء رحلتها التي بدأت بالوصول إلى ليبيا حيث باعها المهربون كأمَة لرجل غيّر اسمها وأسماء 500 امرأة أخرى، قبل أن تصل إلى فرنسا. وفي باريس لم تجد حواء الجنة الموعودة، بل وجدت نفسها تنام في العراء وتعاني من الصقيع، بلا طعام مناسب أو مرحاض لائق.
تحكي حواء قصتها لابنها معتقدة أنها قد وصلت إلى وجهتها، لكنها ستنسى هذا الجزء من الرحلة قريبا، لأنها حين تصل إلى أوروبا بعد 12 يوما في البحر ستكتشف أن أمامها رحلات أخرى كثيرة.
“أثناء الليل مات طفل آخر”.. ظلمات بعضها فوق بعض
يتواصل طاقم سفينة الإنقاذ مع خفر السواحل الإيطالي معلنا أن على متن سفينته 551 شخصا، ومعهم جثتان أيضا لطفل وشاب، ونظرا لأنهم لا يملكون ثلاجة لوضع الجثتين، فإنهم يطلبون نقلهما إلى سفن خفر السواحل.. وبعد حين، يأتيهم الرد: “لا يمكننا أخذ الجثتين لأننا لا نمتلك ثلاجة”!
وكأن أهوال البحر بظلماته التي يعلو بعضها بعضا لا تكفي هؤلاء المهاجرين، فها هي واحدة منهم يعتريها مرض شديد، ويلتف الجميع حولها محاولين إنقاذها.
تقول الطفلة: يقال إن الناس في أوروبا يعالجون الجروح التي أصبنا بها في بلادنا أو خلال الرحلة، لكن هذا ليس الجزء الأخير من الرحلة، كما أن هذه الجروح لن تكون الأخيرة.
يطلب خفر السواحل الإيطالي من نظيره الليبي السماح له بالاقتراب من سفينة “أذرع مفتوحة” (Open Arms) من أجل تقديم المساعدة الطبية والإجلاء الطبي. وأخيرا يجري نقل الجثتين.
يعتري الوجوم وجوه العاملين على سفينة الإنقاذ، بعد أن فقدوا اثنين من المهاجرين، ويزيد من صعوبة الأمر سوء الأحوال الجوية التي تحول بينهم وبين التوجه إلى ميناء آمن في جزيرة صقلية، كما أنه لم يعد بإمكانهم نقل المهاجرين إلى سفينة الإنقاذ “أكواريوس”، فقد امتلأت بالفعل، ولم يبق أمامهم إلا نقلهم إلى سفينة “سي واتش 3” المهيأة لمواجهة ظروف الطقس السيئة.
تتحرك السفينة في برد قارس وأمواج عاتية تبلل أجسام المهاجرين الضعيفة.. “عندما يتسلل البرد إلى أجسامنا، يصعب علينا تحمله، أثناء الليل مات طفل آخر، وكانت الأم ترتجف”.
“يدرك الجميع هذا الأمر عندما يصلون”.. وهم الفردوس الموعود
وصل اللاجئون أخيرا إلى ما ظنوه جنتهم الموعودة؛ باريس، لكن الأمر لم يكن كذلك، فقد تعرضوا لمواجهات مع الشرطة واعتراضات من السكان أرقت مضجعهم وحرمتهم حتى من النوم في العراء. تقول واحدة من اللاجئين: عندما ينام الناس يأتي رجال الشرطة ليلا ويقولون: انهضوا وغيروا أماكنكم. وعندما نذهب إلى مكان آخر، يأتي رجال شرطة آخرون أيضا. إذن إلى أين نذهب؟ لن نغادر أماكننا، إذا أرادوا مساعدتنا فليعطونا منزلا، نحن بحاجة إلى منزل وبحاجة إلى مساعدة.
تتعجب الطفلة المهاجرة من قسوة العالم: عندما نغادر بلادنا، لا نتخيل أبدا أن حاجتنا إلى ملجأ قد تزعج الناس، يدرك الجميع هذا الأمر عند وصولهم فحسب.
من جديد، اضطر المهاجرون إلى المغادرة، فركبوا سفينتهم، وقد تحسن الطقس أخيرا، وتجمعوا على ظهر السفينة يغنون أهازيج حفظوها من الأيام الخوالي، فلا بأس بقليل من اللحظات السعيدة وسط هذه الأهوال.
قبض على حواء مع آخرين كانوا ينامون في شوارع باريس، وأُعيد معظمهم إلى إيطاليا التي هي أول مكان عرفوه في أوروبا، وقد أتلف المطر رسالة حواء. احتج المهاجرون ومناصرون لهم على ذلك في شوارع باريس رافعين لافتات كُتب عليها: “نداء استغاثة من أجل الإنسانية” و”نفي قسري محزن” و”العار لفرنسا”.
وصل عدد من المهاجرين إلى إيطاليا، لكن معظمهم واصل رحلته إلى أماكن أخرى في أوروبا.
في عام 2017، بدأت إيطاليا، بدعم من الاتحاد الأوروبي، في تدريب خفر السواحل الليبيين لمنع المهاجرين من الوصول إلى أوروبا. ويتواصل الضباط الإيطاليون والليبيون من خلال رموز مشفرة عبر الراديو حول مواقع قوارب المهاجرين، وهكذا تبدأ المواجهة بين زوارق الدوريات العسكرية الليبية وسفن الإنقاذ التابعة للمنظمات الأوروبية غير الحكومية.
ورغم كل هذه الصعاب، استمرت محاولات المهاجرين الوصول إلى فردوس أوروبا عبر هذه المسارات المحفوفة بالخطر، ويعتمد المكان الذي يصل إليه كل منهم على قدره.
“احتجزنا في أماكن بلا نوافذ”.. خيارات اللاجئين المرة
من جديد، تبدأ سفينة “أكواريوس” عملها محاولة إنقاذ قارب مهاجرين، لكنها تصطدم في مسعاها هذا بسفن خفر السواحل الإيطاليين الذي يطلبون منها إعادة المهاجرين إلى ليبيا. أما خفر السواحل الليبية فطلب من “أكواريوس” عدم نقل المهاجرين والابتعاد تماما عن المياه الإقليمية، قبل أن يحرق قاربا تركه مهاجرون أنقذتهم “أكواريوس”.
أصبح اللاجئون أمام خيارين أحلاهما مر؛ إما الكفاح من أجل نقلهم إلى أوروبا، أو إعادتهم إلى ليبيا في رحلة عذاب جديد، وكلا القاربين -الإنقاذ والاعتقال- مدعوم من أوروبا.
تقول بطلة “رسائل غارقة”: إن أوروبا التي تداوي جراحنا هي نفسها التي تُعقّد رحلتنا وتجعل الوصول مستحيلا في الكثير من الأحيان.. لطالما حدثتني أمي عن القدر، أخبرتني أنه السبب الذي يجعل بعض الناس أمثالنا يولدون في أماكن خطيرة، ويجعل آخرين يعيشون بسلام في أماكن مختلفة حول العالم.
أخبرتني أن السلاحف عند الولادة تستعد للسفر عبر قاع البحر، ولكن عندما يحين الوقت لتضع بيوضها، فإنها تتمكن بطريقة غامضة من العثور على نفس الشاطئ الذي وُلدت فيه. وكالسلاحف، نحن الذين نصل إلى أوروبا نريد العودة إلى بلادنا يوما ما، أظن أحيانا أنه إن أخبر أحدهم الناس في أوروبا عن الأهوال التي عانيناها فلن يصدقوها، وإلا فلن يعيدوننا إلى الجحيم، لقد كنا جميعا هناك ولا نريد العودة.
أعاد خفر السواحل الليبية بعض المهاجرين إلى مدينة بني وليد على بعد 170 كم جنوب شرق طرابلس. تقول إحدى المهاجرات: احتُجزنا في أماكن بلا نوافذ، لم يكن هناك ضوء، وإن دخل الضوء فالسبب أن رجلا فتح الباب وجاء ليؤذينا، لم يكن أحد يصرخ هنا لأنه إن فعل كان الرجل يضربنا بقوة أكبر، من كان يملك عائلة في بلاده، كان يتصل بها ويطلب المال، وإن لم تدفع، كان الرجال يغضبون جدا.
ويروي مهاجر احتُجز سابقا ما يحدث قائلا: عندما نقول لهم غدا أو بعد غد ويأتي الموعد فإنهم يضربونك، هم ليبيون، لكنهم يستخدمون سجناء آخرين غالبا من السودان والصومال للقيام لهم بالمهمة.
“بدأتُ أنزف حتى فقدت طفلي”.. شهادة الجاني والمجني عليها
يقول أحد القائمين على تسفير المهاجرين الحالمين بالوصول إلى أوروبا إنهم يضعونهم فيما يُشبه المعسكرات حتى تجهيز القوارب التي تنقلهم.. “في الواقع المال هو كل شيء، وقد يفعل أي أحد أي شيء مقابل المال، إن لم تلتزم بالاتفاق فقد أفعل أي شيء لأنني أريد أموالي، أعني بهذا أنهم قد يُستعبدون أو يُحبسون أو يُعذبون أو يُباعون”.
أمور تحدث بالفعل وليس على سبيل التهديد؛ تقول واحدة من اللاجئات إنها حُبست وعُذبت من قِبل ليبيين.. “طلبوا مني دفع 3 آلاف دولار، لكني لا أملك نقودا، اتصلت بأخي وكان لديه بعض المال ليرسله لي، وحين دفعت قال الرجل أين باقي المال؟ فقلت إنني لا أملك مالا، فكانوا يأخذونني كل صباح ويصلونني بأسلاك لصعق قدمي بالكهرباء، وذات يوم حاولوا اغتصابي، كنت حاملا ورفضت، عندئذ أخذوا عصا حديدية وضربوني على بطني مرارا، بدأت أنزف حتى فقدت طفلي. وتكشف هذه اللاجئة عن يديها وساقيها وقد أحرقت جميعا، في مشهد قد لا يُصدق أن يفعله إنسان بآخر من بني جنسه.
“نحن مثل الرسائل لن نتمكن من الوصول إلى وجهتنا”
تقول بطلة فيلم “رسائل غارقة”: أعادهم القدر إلى ليبيا، لطالما سمعنا أن علينا أن نكون شجعانا لأنه في يوم من الأيام سيحين دورنا، لهذا السبب يحاول الناس مرة أخرى، فإما أن يصلوا إلى أوروبا، وإما أن ينتهي الأمر بهم محتجزين في ليبيا، لا بديل.
وتختم بطلة الفيلم حديثها عن أيام الألم والمعاناة والخوف من المجهول والغرق قائلة: يُقال إنهم يُسمون أولئك الذين غرقوا منا بالمختفين، لأنهم لم يعثروا على جثثنا، فهم لا يحسبوننا؛ ولسنا على قوائم الذين ماتوا أثناء الرحلة، نحن مثل الرسائل لن نتمكن من الوصول إلى وجهتنا، ومع ذلك، فإن الفرار كان منطقيا. أنا أسامحكم.
يُذكر أن فيلم “رسائل غارقة” فاز بجائزة الجمهور في مهرجان مالقة السينمائي في نسخته الـ23 المنعقدة بين 21-30 من أغسطس/آب 2021 في مدينة مالقة بإسبانيا.
والفيلم من إخراج الإسبانية “إيزابيل كويكسيت” التي أهدته إلى ابنتها قائلة: إلى ابنتي “زوي” وجميع الأطفال، لكي تكون لديهم الطاقة والأمل لتغيير الأمور عندما يكبرون.