“دراهم الملح”.. قصص من كفاح نساء الريف المغربي

تمتد الطريق الطويلة والوعرة بين المنعرجات الجبلية، لتسلكها نساء ودواب الدوار باتجاه السوق الأسبوعي الذي يشكل فضاء للقاء الناس ومصدرا لرزق الكثيرين، حيث يبيعون ما عملته أيديهم بأثمان بخسة، لكنها على كل حال تسد الرمق وتسدد الديون وتقضي الكثير من المآرب والحاجيات.

هناك دابتان خبرتا تلك المنعرجات منذ زمن طويل، تصطك الأحجار تحت حوافرهما بشكل مسموع، تتمايلان دون أن تسقطا بفعل ما تحملانه من أثقال، وحين تستوي الطريق في المنحدر، تسرع الحركة بلا سوط، فتتبعها نساء قويات يحدوهن أمل بيع ما تحمله الصهوات، والعودة إلى الديار مبكرا فرحات مستبشرات وحامدات رب العالمين.

تكاد مثل هذه المشاهد أن تتكرر بشكل يومي من عمق تلك الدواوير في قرى جبال الريف شمالا، في رحلة باتجاه المدشر القريب لطحن الشعير وشراء الحاجيات من زيت وسكر وقنينات الغاز، فضلا عن الخضراوات والشاي وتعبئات الجوال وأكياس الملح التي تباع بثمن زهيد.

نساء الريف.. صلابة الجبال في وجه عواصف الفقر

تشكل مادة الملح في جماعة بريكشة بإقليم وزان التي تبعد عن مدينة شفشاون نحوا من خمسين كيلومترا شمالا مصدر رزق الكثير من نساء المنطقة، لكن الحصول عليها يبقى عملية صعبة تحتاج إلى كثير من القوة والصبر والعمل المُضني والمعاناة.

يعد فيلم “دراهم الملح” -من إخراج مريم عدو وإنتاج قناة الجزيرة الوثائقية- أحد الأفلام الاستكشافية للمغرب العميق، حيث ترحل الكاميرا بالمتلقي إلى عوالم جبلية مدهشة تطرح في الصميم أسئلة الصراع من أجل الحياة والكثير من القيم الانسانية، وتكرس الدور الذي تلعبه المرأة الريفية في الحياة بشكل عام.

إحدى نساء “دراهم الملح” تستعد للخروج إلى العمل في أحواض الملح

يستهل الفيلم ببانوراما طبيعية على الطريق باتجاه وزان وشفشاون، وذلك في إحالة رمزية إلى عين المكان ومربط الفرس والحكاية التي تسردها نساء الملح بدراهمها المعدودة، سواء في أحواض الملح والسوق، أو في الطريق العام وهنّ يعرضن ورود الملح الأبيض.

عند الصباح تستعد امرأة قروية ليوم جديد بحثا عن مذاق جديد لملح حياتها، فتفطر مع زوجها على شاي وخبز يسمونه “حرشة”، ثم تتوجه إلى مشتل المذاق الرفيع مع بهائمها لإنتاج أكوام صغيرة من الملح، وبعد ذلك يجري نقلها إلى السوق لبيعها في سوق الملاحات.

استطاع الفيلم في معظم مشاهده إبراز صلابة المرأة وقوتها في مواجهة الطبيعة وصروف الزمان، وتحديها للفقر والمعاناة والتهميش والمرض، ومساعدتها لأسرتها، من خلال الخروج إلى العمل في مشاتل الملح كحلّ عملي للتصدي للفقر، وتحسين وضعها الاجتماعي المتردي.

من التوت إلى الملح.. هجرة من اليورو إلى الدرهم

في حكي النساء وهن يعملن دون كلل بأحواض الملح، تتبادل الكثير من الهموم والمواجع والأسرار، لعل أبرزها حكاية سيدة عملت في حقول التوت البري في الأراضي الإسبانية، ثم عادت إلى أرض الوطن للعمل في أحواض الملح، وفي ذلك حمولة اجتماعية ووجدانية كبيرة.

في هذا السياق تبرز فكرة الغربة والشوق إلى الأهل والوطن من خلال تذكير السيدة التي عملت في مزارع إسبانيا صديقتها بمكالمة هاتفية سابقة معها، ثم ذرفت الدموع لمجرد رؤية صورتها على الهاتف، مما يوضح قيمة الشوق للوطن بالنسبة لهذه السيدة التي فضلت دراهم الملح الزهيدة على عملة اليورو المرتفعة مقارنة مع الدرهم.

رحلة الملح من الجبل إلى السوق، حيث تقوم المرأة الريفية بالعمل فيه بحثا عن دراهم معدودات

في أحواض الملح وتحت شمس حارقة تعمل النساء بشكل جماعي، حيث يحملن الماء في دلاء ويكنسن الأرض لتنقيتها، ويجمعن الملح على شكل أكوام صغيرة، ثم يعبئنها في أكياس، وبعدها يتوجهن على ظهور الحمير باتجاه السوق لبيعها هناك، وسط منافسة قوية بين باقي نساء الدواوير المجاورة.

هنا ينجلي عنصر العمل الجماعي لهؤلاء النساء مهما كانت الاختلافات بينهن، كاحتجاج واحدة على حضور امرأة متأخرة للعمل، فما يجمع سيدات الملح هو عرق مالح واحد يتصبب من جبينهن، وملح طعام واحد يتقاسمنه تحت ظل شجرة وهن يتناولن الكسكس المحلي، وحلم واحد لتطوير المنتج وكسب أرباح تعود على الجميع بالخير والبركات.

من الجبل إلى السوق.. رحلة الملح بعين المخرجة

بين الفينة والأخرى كانت كاميرا الفيلم تركز على بياض الملح ورحلته المالحة من الجبل إلى السوق، ثم إلى المدينة، وداخل مكتب رئيس البلدية، ثم إلى الطريق العام، وتلتقط صورا ليست أقل أهمية من موضوع الفيلم الرئيسي.

وتلك قصص قصيرة تريد بها المخرجة لفت الانتباه إلى قضايا ومواضيع أخرى تستحق الكثير من المعالجة الخلاقة والتمحيص.

خلال موسم قطف الزيتون في المغرب، حيث تنتهي النساء الريفيات من جنيه لتبدأ رحلتها في أحواض الملح

إلى جوار أحواض الملح تبرز صور أخرى لعالم الريف الشمالي، ومنها عمليات حرث الأرض والرعي وحصاد المحاصيل على الطريقة التقليدية، وجني الزيتون، وجلوس الناس في المقهى، ومظاهر السوق القروي، فضلا عن مربط الدواب، ومنها البغال التي تظل وسيلة النقل المثالية في مناطق جبيلة وعرة لا يستقيم معها المسير.

إن تركيز الكاميرا على العديد من تلك الصور والمشاهد المكتنزة من ناحية المعنى هي إشارة رمزية إلى أن المرأة الريفية التي تعمل في أحواض الملح بحثا عن دراهم معدودة، ليست وحدها في هذا العالم، بل هي جزء من منظومة حياة ترتبط بشبكة من الأنساق من أمكنة وأزمنة وإشكاليات وقضايا تحتاج إلى بوح طويل ولقطات.

رفيقة الدرب العاملة.. نظرة المجتمع الريفي لنساء الملح

المرأة -كما جاء في حديث النساء أثناء جني الزيتون والمطر يهطل عليهن وهن مبتسمات- دائمة العمل كالنملة، ففي موسم الصيف بدءا من شهر مايو/أيار ولمدة تزيد عن ستة أشهر تعمل في أحواض الملح، وبعدها ترافق الزوج في كل أعباء البيت، وهذا هو قدرها.

في إحدى المشاهد تقول بائعة الملح إن “الملح فيه السُكّر”، في إشارة إلى أن هناك ملحا لا توجد به إلا الحلاوة، وهي بذلك تشجع الزبون على اقتناء ملحها الأصلي كطريقة ذكية لتسويق منتوجها، كما يبرز هذا المعطى في عدة مشاهد أخرى، من خلال انتقالها إلى مدينة وزان لبيع أكياس الملح بثمن زهيد جدا.

نساء الريف المغربي خلال اشتغالهن في أحواض الملح بمنطقة بريكشة

خروج المرأة إلى العمل في القرية صورة واضحة تحمل الكثير من المعاني، أولاها أن الرجل متحرر للغاية وراضٍ عن تصرفات رفيقة الدرب، فهو يشجعها على العمل، وهي بذلك تعينه على أعباء الحياة، وتلك صورة قوّت من شخصية المرأة في المجتمع.

وفي الواجهة الأخرى من المجتمع الريفي القروي، هناك الكثير من الأزواج الذين يفضلون أن لا تخرج النساء للعمل والذهاب إلى السوق والاختلاط، وهذه إشكالية أخرى كشفها الفيلم بطريقة مغايرة.

أهازيج في مواقع العمل.. كسر الملل وبناء المودة

يفتح فيلم “دراهم الملح” الباب على كنوز إنجاز أفلام أخرى تعالج نساء الظل اللاتي لا يخرجن إلى المزارع أو إلى أحواض الملح، وهل هن سعيدات بفتوى الزوج بحرمانهن من الاشتغال في الطبيعة وماذا يفعلن؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تفصح عن تنوع العادات والتقاليد في مجتمع قبلي ريفي أصيل.

نساء أحواض الملح يعملن فرحات وهن يغنين في بعض الأحيان، فتلك طريقة ترفيهية لمحاربة الملل طوال الوقت، وخلق أجواء احتفالية وحميمية بين النساء، في الوقت الذي تتسم فيه بعض مقرات العمل بالعصبية والخلافات والأحقاد والمكائد.

نساء الريف المغربي يعرضن مادة الملح في السوق الأسبوعي ليتم بيعها بدراهم قليلة تعيش بها أسر كثيرة

تسود بين كل نساء أحواض الملح روح المحبة والانسجام، لأن هدفهن واحد، وهذا ما حقق لهن نتائج ومكاسب جيدة، فكل ما يشغلهن هو العمل والتفكير في تطوير منتوجهن وتحقيق أرباح مهمة.

بدأت العملية في أحواض الملح لأن العملية صعبة لا تدر على النساء أرباحا معقولة، لذا فكرت النساء في الجمعية والتعاونية ولقاء رئيس البلدية للبحث عن بدائل معقولة لتسويق المنتوج، وهو ما تكلل بمنحهم مكانا على الطريق، وهو مكسب مُشجع للغاية، وسيزيد من أرباح النساء الصبورات.

ركزت الكاميرا بطريقة ذكية في أكثر من مشهد على صور ظلال النساء المنعكسة على أحواض الملح بشكل مقلوب، وهي طريقة تحمل الكثير من التفاؤل في تغيير حال هؤلاء المعذبات في الجبال، وهو ما حصل في المستقبل بعد لقاء رئيس البلدية وتسويق منتوجهن عن طريق التعاونية، وعلى الطريق للعابرين والسياح الأجانب لزيادة الأرباح.

منتجات الأرياف.. كنوز على قارعة طريق السائحين

الماء أصل الحياة، والأمطار التي تهطل على منطقة بريكشة تزيد من صبيب العين المالحة التي تنبع من إحدى الفجاج هناك، حيث ماء المطر الذي يقوّي مجرى العين، ثم العين التي تقوّي أحواض الملح، ثم الملح الذي يُباع في السوق بدراهم قليلة تعيش بها أسر كثيرة.

كشف فيلم “دراهم الملح” عن جانب كبير من معاناة نساء في المنطقة الريفية، فضلا عن كنوز طبيعية منها الملح، ويجب استثمارها بطريقة عقلانية حتى يستفيد منها أهل المنطقة دون الحاجة إلى التفكير في الهجرة، سواء إلى المدينة، أو تجريب مغامرة غير مضمونة في مياه البحر الأبيض المتوسط أو المحيط الأطلسي تقود إلى الفردوس المفقود.

على قارعة الطريق تُباع الكثير من المنتجات مثل الحليب والألبان والسمن وعسل النحل التي تدرّ أرباحا إلى أهالي الدواوير الجبلية

كما يكشف الفيلم في الجانب الآخر من بيع الملح عن الكثير من المنتجات الأخرى التي تُباع على قارعة الطريق، ويعيش منها الكثير من الأسر الفقيرة، ومنها الحليب والألبان والسمن وعسل النحل والأعشاب الجبلية البرية التي تستعمل كوصفات طبيعية للكثير من الأمراض.

كما تباع منتجات أخرى تدرّ على أهالي الدواوير الجبلية أرباحا، ومنها بيع البيض والحجل والدجاج والخبز والخضراوات، فضلا عن الفواكه الموسمية، وأحجار الكوارتز التي تُستخرج من أعماق الجبال.

صراع المراعي.. عباءة الأخوة أكبر من قمصان العداء

أبرز الفيلم الدور الذي تلعبه المرأة إلى جانب الرجل في عدد من المناطق الريفية، خاصة في وزان وشفشاون وتطوان وسوق أربعاء الغرب وباب برد ومرتيل الفنيدق وغيرها، حيث المرأة قنوعة متشبثة بأرضها وهويتها، دون التفكير في الهجرة، على عكس الشباب الذين يفضلون الهجرة بحثا عن حياة أسهل بلا ملح ولا عذاب، ولا رعي ولا وحل.

النساء الريفيات يبعن الملح على الطرقات، لتظهر كل واحدة منهما بمظهر المرأة النموذج التي يُحتذى بها في حب الأرض

كشف الفيلم أيضا بصورة راقية للغاية عن روح الصداقة والأخوة التي تجمع نساء منطقة بريكشة، ومن الضروري أن تجمعهن وشائج محبة صادقة، خاصة أن المناطق مُجاورة، وتشهد الكثير من الأحداث والقضايا التي تصل إلى ردهات المحاكم، لعل أبرزها قضايا الصراع على مناطق الرعي وحدود الأرض وغيرهما، وهو ما يخلق عداوة تدوم لأعوام.

وشكل لقاء النساء مع ممثلي البلدية مكسبا كبيرا بالنسبة لنساء غير متعلمات من أجل تطوير منتوجهن المجالي، والبحث عن أسواق وفضاءات قانونية لبيع الملح، حيث كن فرحات، وظهر ذلك جليا من خلال نقاشهن مع المسؤولين، وملامح وجوههن المتهللة.

يوم الانتظار الملح الطويل.. حياة مالحة بطعم السكر

أعطت المرأة الجبلية من خلال هذا الفيلم العبرة للآخر، والنموذج الذي يحتذى به في حب الأرض والبقاء في مسقط الرأس، دون التفكير في الرحيل أو البحث عن أعمال أخرى في المدينة، لعل أحطها العمل كخادمات في البيوت مع الكثير من الاستغلال الفظيع، أقبحه راتب زهيد واستعباد واستغلال جنسي في بعض الأحيان.

كما أبرز الفيلم قوة ونضال وصبر المرأة الجبلية وتشبثها بالأمل في المستقبل، حيث النضال والاستماتة التي تفوت همّة الرجل، وبرز ذلك في الكثير من الصور، لعل أقواها إصرار زوجة على الذهاب إلى السوق لبيع الملح رغم هطول المطر، ورغم نهي زوجها إياها عن ذلك فإنها تخرج متوكلة على الله، بينما يبقى الرجل حبيس المنزل لمشاهدة التلفاز.

هكذا شكل الملح بالنسبة لكثير من نساء منطقة بريكشة سُكّرا به يحلي كاس شاي الكثير من العائلات، وذلك بعد أطول يوم في التاريخ يبدأ مع الساعات الأولى من الصباح، ويستمر طوال النهار تحت شمس حارقة، في انتظار تبخر الماء وبقاء ذرات الملح البيضاء، كصورة صافية لكفاح أيادٍ لطيفة مُتشققة تتحدى شظف العيش بهمة عالية.

إن الفيلم في أبهى معانيه الفنية الشاعرية سفر مُرّ على ظهور دواب بين الفجاج تارة، وأخرى إلى المدينة المجاورة بحذاء واحد يصلح لكل الطرقات، أو على الطريق في انتظار من يتذوق حلاوة الملح، ويرمي للنساء بدراهم لا تسمن ولا تغني من جوع.

“دراهم الملح” هو حياة مالحة بطعم الصبر والأمل ومرارة حياة لنساء يقهرن الزمن بتجلدهن الطويل بلا تبرم ولا أنين، إنه معاناة نساء كادحات كدحا، وطريقة مثلى للاستفادة من الطبيعة، وابتكار وسائل عيش بديلة مهما كانت عائداتها بسيطة. إنه تحد رائع لنساء قويات قُدّر لهن أن يتذوقن ملوحة الحياة، ويناضلن بشرف بحثا عن حلاوة العيش.


إعلان