“طبيب الأمل”.. جراح مغربي تعرفه المخيمات وساحات الحرب

“عندما تستيقظ بحافز إنقاذ أرواح الناس فأنت في نعمة”. عبارة مليئة بالإيمان والقناعة ونكران الذات وحب الخير للناس، صادرة عن طبيب أراد أن يؤدي رسالته ويحترم قسمه، ليكون إحدى أدوات رب العالمين في إسعاد الناس وتقديم العلاج لهم، وإشعارهم بأن الدنيا لا يزال فيها الخير والخير الكثير.
“طبيب الأمل” فيلم وثائقي من إنتاج الجزيرة الوثائقية، يروي قصة الدكتور زهير الهنا الطبيب المغربي الذي يحمل الجنسية الفرنسية، وقد درس في فرنسا الجراحة النسائية والتوليد، ولكنه قرر أن يعود إلى بلاده والشرق الأوسط وأفريقيا، لينقل خبرته وما تعلمه إلى أبناء وطنه وجلدته ودينه.
“الاستثمار في القابلة استثمار في المجتمع”.. صراع من أجل الحياة
يرى الدكتور زهير الهنا أن كل مولود جديد هو انبعاث جديد للحياة والأمل لا سيما في وقت المآسي والحروب، وقد ذهب إلى فلسطين وغزة عدة مرات، وعندما عاد من القطاع قرر أن يكرس 80% من وقته وجهده في سبيل الله.
يقول الدكتور: عندما تكون طبيبا أو جراحا، فأنت في أول طابور الصراع من أجل حياة الأطفال والأمهات، وخاصة في الظروف الصعبة والمعقدة والأماكن النائية، فمساعدة هؤلاء وتقديم العناية الطبية لهم والمساهمة في الحفاظ على حياتهم، تعني أنك تدخل في صراع للبقاء، ولا تختلف الحرب عن الولادة، ففي الأولى تساعد الناس على البقاء على قيد الحياة، وفي الأخرى تساهم في قدوم حياة جديدة إلى هذه الدنيا.
ولهذا فإن الدكتور زهير يصر على مواجهة الصعاب والتوجه للأماكن النائية والصعبة في بلاده، كما يعمل -في الوقت الراهن- على تدريب القابلات وإقناعهن بأفكاره، لأن “الاستثمار في القابلة استثمار في المجتمع، فأنا طبيب نسائي، والمريضات من النساء، والقابلات نساء، والممرضات نساء، فلا مفر من النساء”.

جنوب المغرب.. محطة التدريب الأولى
كانت منطقة زاكورة في جنوب المغرب أولى محطات الطبيب زهير الهنا، وهي منطقة نائية بعيدة عن العاصمة، ويجري الطبيب عمليات جراحية نسائية وتوليد نساء أخريات إضافة لتدريب الجراحين الشباب والقابلات القانونيات لتأدية هذا الدور لأنني “لا أستطيع أن أكون معهم في كل الأماكن”.
وينتقل الدكتور من مريضة إلى أخرى للاطمئنان عليهن، ودائما ما يسمع الدعوات له بالصحة وطول العمر.
ويحاول الدكتور تعليم القابلات الاعتماد على أنفسهن ومعالجة المشاكل بسرعة وبحرفية، وخاصة عندما يواجهن مشاكل خلال الولادة، ويصر على عدم التذرع بعدم وجود إمكانيات أو معدات، فالأهم “أن يؤدي الطبيب دوره في إنقاذ حياة المريضة والطفل”.

“الشام دمرت”.. جولة تدريبية في المستشفيات والمخيمات
في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 زار الدكتور زهير منطقة ديريك المالكية في شمال شرق سوريا برفقة جمعية خيرية، وهذه أول مرة يأتي فيها لهذه المنطقة، وقبل ذلك زار منطقة شمال غرب سوريا وأقام ورشات تدريبية لأطباء شباب وقابلات قانونيات.
وكما فعل في شمال غرب سوريا من ورش ومحاضرات كرر الموضوع في المالكية، وحضرت عشرات القابلات القانونيات ورشة تدريب عملية، وهن قادمات من مختلف مدن ومناطق سوريا.
وبعد الانتهاء من الورشة، قام الدكتور برفقة أطباء في الجمعية بجولة في شمال شرق سوريا، للتعرف على حاجيات مستشفيات الولادة والمراكز الصحية وكيف تسير الأمور وطريقة علاج النساء والرضع.
وخلال جولة في مدينة الرقة السورية، يتحسر الدكتور على الدمار الذي حل بها معلقا بألم أن “الشام دمرت، ولكن لا بد من أن تعود إلى سابق عهدها عاجلا وليس آجلا”.
كما زار مخيم عين عيسى في الرقة للاطمئنان على صحة النازحين فيه القادمين من محافظة دير الزور.
ويقص الدكتور زهير أنه في 2014 زار مخيمات اللاجئين السوريين في لبنان، وتعرف على أطباء في إحدى الجمعيات الخيرية الأجنبية، وبدأ منذ ذلك الوقت في تقديم ورش تدريبية.

“للمغرب وأهله الحق في أن يفتخروا به”.. إنقاذ محظية من براثن الموت
بعد انتهاء مهمته الإنسانية في سوريا، سافر الدكتور زهير إلى تركيا، وتحديدا مدينة كرخان، لزيارة طفلة تدعى محظية كان قد أجرى لها عملية معقدة في إدلب عام 2015، واستقبله والد الطفلة باسم البكري الذي روى قصة مأساوية ذهب ضحيتها زوجتاه وأصيبت بناته الخمس، وكانت إصابة محظية وحدها خطيرة، وكانت بين الحياة والموت عندما وصلت إلى المستشفى في إدلب، وقد صادفت وجود الدكتور زهير حينها هناك، فأجرى لها عملية أنقذ حياتها بها ولكنها أصيبت بالشلل وأصبحت تتحرك على كرسي.
وكان يسعى الدكتور زهير لمساعدة الطفلة لتسافر إلى أوروبا لاستكمال علاجها، خاصة أن هناك شظية لا تزال داخل جسمها.
ويقول أحد أصدقاء الطبيب زهير بعد أن التقى به في مدينة الريحانية التركية إنه “كان يأمل أن يستقبله في سوريا فهي تشتاق له، لأنه زرع فيها زرعا طيبا، الدكتور زهير ليس طبيب الفقراء فحسب، بل هو أب لكل المظلومين والمضطهدين في هذا العالم، وكانت زيارته لسوريا ناجحة لأنها أسفرت عن تأهيل عدد لا بأس به من الأطباء والقابلات، واكتسبوا مهارات عملية وعلمية ساهمت في رفع مستواهم، والدكتور زهير كبير في أخلاقه، فهو يذهب لمناطق خطيرة بغية مساعدة الناس وتطويرهم وتخفيف آلامهم، ليس هناك أي شيء يمكن أن يوفيه حقه، وللمغرب وأهله الحق في أن يفتخروا به”.

“إن هذه الأرض مليئة بالدماء”.. رحلة إلى خطوط المواجهة الأمامية
يتحدث أحد أصدقاء الدكتور زهير عنه قائلا: دخل الدكتور إلى سوريا في ظروف قاسية، وبينما كان بعض الأطباء السوريين يتخلون عن واجباتهم ويفرون من البلاد، وصل إلى البلاد ولم يكتف بالمستشفيات والمراكز الصحية البعيدة عن القصف، بل ذهب لخطوط المواجهة الأمامية.
ويروي الدكتور زهير قصة دخوله إلى سوريا قائلا: دخولي إلى سوريا كان بالتهريب، ولم تكن هناك أي شركة تأمين، لأنها جميعها رفضت التأمين على حياتي في سوريا، وكان دائما ما يطلب مني أن أتوجه إلى حلب، ولكن الظروف الأمنية والعسكرية كانت صعبة جدا، ففي إحدى المرات كنت أنا والسائق وزميلة طبيبة، وكان على السائق أن يقود ببطء، لأن الطريق غير معبدة، وقال لي السائق إن هذه الأرض مليئة بالدماء لأنه سقط عليها مئات الشهداء برصاص القناصين”.
ويتابع أن “الحرب والأزمات هي فتنة أي أنها (فتنة الذهب) وهي تفرز الرجال، فمن خلال خبرتي في التدريب التي حصلت عليها بسوريا، عدت إلى المغرب عام 2016 وتعاونت مع أحد المحسنين وبدأنا ندرب القابلات، واتسعت هذه الورشات لتنتشر في جميع أنحاء المغرب، وتلقيت عشرات الدعوات لإقامة ورشات، كما أنشأت مركزا في الجديدة (80 كيلومترا عن الدار البيضاء)، وخلال 3 سنوات دربت 600 قابلة في المغرب، وما تعلمته في سوريا نقلته أيضا إلى اليمن”.

“نصيحتي للشباب أن يبقوا في أوطانهم”.. شتاء إنساني في اليمن
في ديسمبر/كانون الثاني 2018 وصل الدكتور زهير إلى مدينة مأرب اليمنية وأقام هناك عدة ورشات لتدريب القابلات القانونيات على الطرق الحديثة في الولادة، وخلال الورشات أعطاهم إرشادات بسيطة قد تساهم في إنقاذ 90% من الأطفال.
واستضافت إذاعة مأرب المحلية الدكتور زهير وقدمته على أنه “مغربي الأصل وفرنسي الجنسية، واستشاري جراحة نسائية وولادة، ولديه خبرة عريقة في العمل الإنساني والطبي، واشتغل مع جمعيات خيرية في بلاد أفريقية مختلفة، وعمل في أفغانستان وتنقل في الشرق الأوسط بين سوريا ولبنان وفلسطين، وحضر حروب غزة الثلاثة، ويحاول أن ينشر ثقافة التطوع والعمل الإنساني في العالم العربي”.
وفي المقابلة ذكر الدكتور زهير أنه منذ بداية الأحدث في اليمن ثم تدهور الوضع للحرب، كان يحاول القدوم إلى هذه البلاد، “ويبدأ دوامي من الساعة 8 صباحا ولا ينتهي قبل 8 مساء، ويكون مزدحما بالورشات التدريبية والعمليات الجراحية والولادة”، ويعتبر أن الاستثمار في الإنسان هو المكسب الأول وأهم من المعدات والتقنيات الحديثة، لأنها من غير إنسان لا قيمة لها، فإنسان ماهر مع معدات بسيطة أو متوسطة يمكن أن يقدم خدمات كبيرة جدا.
وقدم نصيحة للشباب أن “يهتموا بالدراسة لأن العلم هو الأساس، إذ يغير وجه المجتمع ويعطيه القوة والمستقبل الزاهر، هناك أشخاص تترك الأوطان وترحل، وآخرون ينهزمون، وبعضهم يواجهون، نصيحتي للشباب أن يبقوا في بلادهم ويواجهوا ويحافظوا على أملهم بوطنهم ومستقبلهم”.

“فطرة يجب أن ننميها بالعطاء”.. شغف تغيير حياة الآخرين
عاين الدكتور زهير الهنا خلال زيارته لليمن عددا من المريضات في مستشفى كارا، وقدم الأدوية والعلاجات اللازمة لأخريات، وأجرى على مدى ثلاثة أيام عدة عمليات جراحية، وأبدى استعداده لتعليم الأطباء الجراحة بالمنظار عندما تتوفر الأجهزة المطلوبة.
وكما فعل في زيارته لسوريا فعل في اليمن، فقبل ختام زيارته زار مخيم النازحين في سيئون بمحافظة حضرموت حاملا معه مساعدات عينية وغذائية.
ويقول إنه ليس من الضروري أن يكون لديك نفوذ لكي تغير في حياة الآخرين، فحب الخير للناس هو “فطرة يجب أن ننميها بالعطاء”.
ويختم الدكتور زهير أنه يريد في المستقبل الاستمرار على نفس هذا الدرب والخير وبنفس الطريقة، والمستقبل هو تبليغ رسالة، ففي الرسالة وتأديتها هناك متعة لا مثيل لها ولا يحس بها إلا الذي يمارسها.