“قريبي الإنجليزي”.. مغترب في بريطانيا يحاول أن يعود جزائريا

عام 2001 وصل الجزائري فهد إلى بريطانيا حاملا معه تطلعات وأحلاما كبيرة، وأملا في أن يصنع لنفسه حياة أفضل في غربته البريطانية.

وفي خضم أزمة منتصف العمر طرأت تغييرات كثيرة على مسار حياته أجبرته على طرح سؤال صعب على نفسه: هل سيواصل أسلوب حياته البسيط والمجهد في العمل لساعات طويلة، والعيش بين المنزل والمطعم الذي يعمل فيه وتناول الوجبات الجاهزة وطهي الطعام لنفسه، أم يعود للجزائر ويحاول افتتاح مشروع لنفسه والتأقلم مع الحياة مجددا في مسقط رأسه؟

فيلم “قريبي الإنجليزي”

إنها قصة هجرة، ولكن من منظور شخص يريد العودة، وقد قدمها الفيلم “قريبي الإنجليزي” الذي عرضته الجزيرة الوثائقية، حيث يُجسد معاناة المواطن العربي بين جحيم الأوطان ونيران الغربة والتيه في دروب الحياة والعجز عن اتخاذ القرار المناسب.

“أريد العودة إلى الجزائر”.. هواجس 17 عاما من الغربة

كان فهد حين قدومه عام 2000 ينام في الشارع قبل أن يجد عملا في مطعم، وبعد شهرين استأجر غرفة ليسكن فيها، ثم زار صديقا له كان يعيش خارج لندن، فأحب المكان وانتقل للعيش في منطقة “غريمبسي”، وهناك استقر ووجد عملا والتقى بفتاة وتزوجها.

ما زال فهد حتى الآن يعيش بين العمل والمنزل، ويبدأ يومه في الغربة الساعة 5 فجرا بممارسة الرياضة، قبل أن يحضر فطوره وحيدا، ثم يجهز نفسه للذهاب للمطعم الذي يعمل فيه.

يقول فهد: أريد العودة إلى الجزائر لأفتتح مشروعا تجاريا، تعبت من بريطانيا والغربة فيها، غادرت الجزائر منذ 17 عاما، وقد أصبحت طاهيا ماهرا، أفكر بالعيش بالقرب من والدتي لأستمتع بوجودها قليلا، فهي تتقدم بالسن وأنا بعيد عنها.

“الآن أريد أن أغير حياتي”.. طلاق في سبيل العودة إلى الجذور

بعد 14 من زواجه بالسيدة البريطانية اكتشف فهد أنه يريد الانفصال والزواج من فتاة جزائرية ليعيش حياة الزواج التقليدية، ويؤكد أنه وصل لمرحلة كره فيها حياته في المنزل. يقول متحدثا عنها: لم تتسبب لي بأي أذى، ساعدتني كثيرا وأنا أيضا ساعدتها، ذهبنا في عطلة إلى تونس ومصر، والآن أريد أن أغير حياتي.

وواصل: ربما يكون طموحك وطموحي مختلفيْن، لنفترض أنك متزوج، هل أنت مستعد للعودة إلى البيت والطهي لنفسك أو تناول الطعام دائما في الخارج، أم تفضل وجبة صحية من إعداد زوجتك، وامرأة تحافظ على بيتها؟ أود العودة إلى وطني، فهل سأقضي كل حياتي في الغربة؟ إذا كان لدي مشروع في بلادي فإنني سأتخلى عن كل شيء هنا بما في ذلك أوراق الإقامة، فأنا لست بحاجة لها، يمكنني الرحيل الأسبوع المقبل لدي منزل جاهز ومجهز بكل شيء.

عاش مغتربا لسبعة عشر عام قبل أن يقرر فهد العودة للبحث عن زوجة من بلده

وأضاف: أخبرتها عدة مرات برغبتي في الرحيل وسنبقى أصدقاء وأدعمها إذا لزم الأمر، وافقت ظاهريا ولكن داخليا لم تكن مقتنعة، تزوجنا منذ 14 عاما، ومن الصعب أن تتقبل فكرة أن نفترق بهذه الطريقة.

وبعدها ترك فهد منزل الزوجة وانتقل للعيش مع أصدقائه وبدأ يحزم أمتعته تمهيدا لزيارة إلى الجزائر، على أمل أن يجد هناك فتاة يتزوجها ويعيش معها ما يقول إنه “حُرم منه مع زوجته البريطانية”.

وفي حديث مع والدته -قبل قدومه إلى الجزائر- قال لها: اطلبي ما تشائين وأنا آتيك به، فكان طلبها الوحيد أن يعود سالما غانما لبلاده.

وليست مشكلة السفر من بلاد لأخرى أو مدينة لأخرى حكرا على فهد وأقرانه من القادمين من أفريقيا والعالم العربي بل حتى على البريطانيين أنفسهم، إذ دار نقاش بين أصدقاء فهد عن صعوبة إيجاد المرء وظيفة في مدينته والتنقل لمدينة أخرى من أجل إيجاد فرصة عمل والعيش وحيدا بعيدا عن بيته وأهله.

“أرى مستقبلي في الخارج”.. رؤية الجيل الجزائري الجديد

عند عودة فهد إلى الجزائر شرع مباشرة بالبحث عن عروس وخطب إحدى الفتيات بنية الزواج بها، وقام بتسريع الخطوات لإتمام الموضوع وحجز قاعة العرس وكل التفاصيل الباقية، غير أن خالة فهد لم تكن مقتنعة بهذا المسار، وكانت تشكك بنوايا العروس.

وخالة فهد هذه لديها صبي يبلغ من العمر 10 سنوات، وقد طرحت على ابنها سؤالا جوهريا ويدور في خاطر كل جزائري، ألا وهو كيف ترى مستقبلك؟ وهل هو داخل بلادك أم خارجها؟

وجاء جواب الطفل صادما بالقول: أرى مستقبلي في الخارج، مرتاح الآن في بلادي لأنني طفل ولكن عندما أكبر لن أشعر بالراحة في الجزائر.

حزم المتاع من أجل العودة إلى الوطن والبحث عن عروس من الوطن

ويسأل والدته عن معنى كلمة “حراقة” ليأتيه الجواب أنك “تسافر بجواز سفر أو أي أوراق مزورة ثم لا تعود أبدا لبلادك، لا تخف من الشرطة، لن تبحث عنك أو تلقي القبض عليك إذا أحسنت التصرف ولم تكن تكذب أو تسرق أو تسطو، كن مستقيما، اذهب للعمل ثم عد لمنزلك.”

أما بالنسبة للحصول على الإقامة والجنسية، فتقول الوالدة: ليس الأمر بهذه السهولة، عليك التخطيط بشكل جيد وتجهيز أوراقك، ثم تجد امرأة تتزوجها حتى تحصل على الإقامة.

وعن الطريقة التي سيتقرب بها من عروسته المستقبلية، يقول الطفل إنه “سيدخل على حسابها في فيسبوك ويتقدم لطلب الزواج منها وإن وافقت سيجمع المال ليتزوجها”.

“من المستحيل أن تترك الجنة وتأتي إلى الجحيم”.. معركة القناعة والرفاهية

يعود الفيلم إلى رفض خالة فهد لخطوته بالزواج السريع والمتسرع، فتقول متحدثة عنه: بنى فهد نفسه بنفسه وتعب كثيرا في الغربة، والآن يريد أن يتزوج ويستريح، لكن منذ عودته لم يقابل خطيبته.

وتخاطبه مباشرة: أنت مستعجل يا فهد كما لو أنك تجلس على النار، تكيفت مع حياتهم (في بريطانيا) وتريد أن يكون كل شيء مثاليا، من المستحيل أن تترك الجنة وتأتي للجحيم، لذا أنصحك بعدم العودة (إلى الجزائر)، لقد بنيت حياتك في الغربة فأين المشكلة؟ وضعك جيد، يمكنك أن تذهب وتأتي كما تشاء بالجو والبحر، ماذا تريد أكثر؟ كيف ستعيش هنا في ظل نقص الخبز، ومع جار يلقي قمامته عليك، من المستحيل أن تمسح حياتك هناك (في بريطانيا) بيوم واحد، أنا أريدك أن تمتلك مشروعا هنا وأن تستمر هنا ويمكنك الرجوع في أي وقت.

ويجيب فهد: أريد أولا افتتاح مشروع قابل للاستمرار حتى أتمكن من تأمين دخل أعيل فيه نفسي وعائلتي، فإذا نجحت في أن أفتتح هذا المشروع فسأعود نهائيا إلى الجزائر وأعيش هنا، سيكون لدي منزلي وسيارتي وعملي الخاص وعندها سأكون راضيا ولا أطلب شيئا إضافيا.

النصيحة بعدم العودة للجزائر لا تتعلق بالإمكانيات المالية والكماليات والملايين في المصرف.

فخ الزواج الرمادي.. عودة غاضبة إلى بريطانيا تفسد الحفل

يصر فهد على الاستقرار في الجزائر والزواج بها، لكن لخالته رأيا آخر ووجهة نظر أخرى، إذ تقول: المشكلة أنك لن تتحمل العقليات هنا، دعني أشرح لك، لا يتعلق الأمر بالإمكانيات المالية والكماليات والملايين في المصرف بل بالانسجام مع العقليات الموجودة في المجتمع حاليا، فأنت اعتدت على عقلياتهم (البريطانيين). ما أحاول أن أوضحه لك هو أن تنشئ مشروعا وتسند تدبيره لشخص مجتهد وجاد وأمين، فأنت تأتي وتذهب لذا لن تكون قادرا على العيش هنا ثانية واحدة.

الخالة تناقش مع ابن أختها فهد صفات العروس التي يريدها وتظن أنها ربما تريد منه زواجا رماديا

أما بالنسبة للزفاف فاعترضت الخالة على موعد الزفاف والطريقة التي يعامل بها فهد من قبل أهل العروس وقالت: ما خطب هذه الخطيبة التي لم نرها مطلقا؟ تبدو وكأنك أنت تبحث عن عذر للتأجيل.

وأشارت الخالة إلى مسألة ما يسمى بالـ”زواج الرمادي”، أي أن الخطيبة تستغل فهد لتحصل على أوراق الإقامة البريطانية ثم تتركه لاحقا، ولفتت إلى أنه “يبدو لي أنها (الخطيبة) تخطط لأمر كبير بينما أنت غير منتبه له، وكل ما تريده هو الأوراق فقط.”

يصمت فهد، ويفكر بما قالته خالته ثم يترك منزلها غاضبا ويعود إلى بريطانيا بعدما ألغى حفل زفافه، ويقول -في اتصال مع أحد أصدقائه- إن الإلغاء “لأنها سببت لي الصداع وكانت تخلق أعذارا كثيرة وبتفاصيل مختلفة”.

وبعد عودته لبريطانيا مجددا، خف حماس فهد في موضوع العودة لوطنه وقال إنه سيركز على عمله فقط وعاد لحياة “الروتين”. فهو يذهب إلى العمل ثم يعود للمنزل، يأكل الوجبات الجاهزة أو الطعام الذي يطهيه بنفسه.

“آه يا غربتي في بلاد الناس”.. عودة المغترب إلى المربع الأول

يقول فهد إن مشاعره متناقضة، فأحيانا يريد العودة وأخرى يشعر بالخوف، وأحيانا يفكر بالعثور على زوجة من بريطانيا، “لقد عشت مع امرأة بريطانية 14 عاما وكانت طيبة جدا، ولم أواجه أي مشكلة معها، كان الاحترام متبادلا بيننا، ولم نتشاجر إلا قليلا، أشعر بالملل وأريد التغيير ولكن لا أعرف كيف أفعل ذلك”.

ويعود فهد للسيناريو السابق مجددا، وهو البحث عن فتاة جزائرية ليرتبط بها، ويعاود الاتصال بخالته ليأخذ رأيها ويخبرها أنه خطب فتاة أخرى متعلمة ولكنها لا تعمل.

للغربة ضريبة يجب أن يدفعها كل مغترب أهمها البعد عن الأقارب والأحباب

وتلخص الخالة، حال فهد -في اتصال مع والدته- بالقول إنه: يعيش هناك (بريطانيا) وليس هنا (الجزائر)، يريد الزواج من جزائرية والعيش في بريطانيا، أي أنه يخلط الأمور ببعضها بطريقة غريبة وعجيبة.

وتتابع: عندما يتعرف على أي فتاة ويريد الارتباط بها، يجلب لها الهدايا للتباهي أمامها وهو لم يتعرف عليها أصلا. كان عليه أن يخبرها أنه عامل بسيط هناك ويتقاضى أجرا متواضعا، وألا يتباهى بأن لديه منزلا وسيارة، ويعدها بأنه سيأخذها معه إلى بريطانيا، ثم تماطل العروس ويُنسف كل شيء من أساسه، الأمور غير منظمة في ذهنه.

وفي حكم قاس على فهد، تقول خالته: عاش في بريطانيا 20 عاما، وفي كل مرة يأتي إلى الجزائر يخطب ثم يفسخ خطوبته، فإذا كانت لديك فتاة، هل ستوافق على أن يخطبها شخص كفهد؟ وسألت كيف يمكن أن تتزوج فتاة وهي في الجزائر وأنت في بريطانيا، هذا أمر لا يصدق وكأنه فيلم هندي، أنت خطبت بنات كثيرة في الجزائر بالكلام فقط.

هذا الحكم على قساوته يبدو ظالما لفهد، ولكنه واقعي تماما، وكلام خالة فهد هو -على ما يبدو- لسان حال معظم ذوي المغتربين.

وفي نهاية الفيلم، يظهر فهد وهو يعود لحياته “المملة” على وقع أغنية جزائرية حزينة تحكي عن ألم الغربة وتقول كلماتها:

آه يا غربتي في بلاد الناس

جميع من يأتي هنا يصبح غريبا

أنا الذي كان أصلي فضة وتحولت إلى نحاس

والملابس التي أرتديها قد عرّتني..

أنا الذي اعتدت تدبير أمور الآخرين

تغير حالي في غربتي.


إعلان