“تيناروين”.. موسيقى الطوارق تنشر ثقافة شعب الصحراء في العالم

في بروكسل أو الصويرة، وفي نيويورك أو كوبنهاغن، سواء أكان الجو معتدلا أم مثلجا؛ يقف أعضاء فرقة “تيناروين” الموسيقية بلباسهم الصحراوي، واللثام الذي تطل منه أعينهم وهي تشع بمشاعر الحزن والغضب، يفتتحون عروضهم بعبارة تتكرر في كل حفل لهم؛ “مرحبا بكم في الصحراء” (Welcome to The Desert).

يقول الكاتب الليبي إبراهيم الكوني في رواية “أنوبيس”: “الصحراء للجسد منفى، لكن الصحراء للروح فردوس”. جملة تنطبق على أعضاء فرقة “تيناروين” التي تَعني في لغة الطوارق “الصحاري”، فهذه الفرقة تحمل معها روح الصحراء أينما حلت وارتحلت. فما القصة التي يخفيها لثام أعضاء “تيناروين” وتفضحها كلماتهم؟

“ثلاثة وستون”.. مؤسس الفرقة يرثي أباه

بعد نهاية الاستعمار الفرنسي لدولة مالي سنة 1960، انطلقت ثورة الطوارق، “لأننا رجال أحرار”، هكذا يصف “يادو” عضو المجموعة طبيعة الرسالة التي أنارت درب “تيناروين” في مسارهم الفني، فلكل شيء دلالة عسكرية في مجموعة تيناروين.

في أغنية “ثلاثة وستون” (Soixante Trois) يرثي مؤسس المجموعة إبراهيم أغ الحبيب ذكرى أبيه الذي أعدمته السلطات المالية عقب تمرد الطوارق، وتقول كلمات الأغنية: في 63 قد ذهب، لكنه سيعود، تلك الأيام قد ولت وتركت أثرا، قتلوا الأسطورة القديمة والطفل لتوّه قد وُلد، خربوا المراعي وقضوا على الماشية، في عام 63 قد رحل لكنه سيعود.

تؤرخ هذه الأغنية لمرحلة كارثية بالنسبة للطوارق، فقد وقعوا ضحية تقسيم سياسي لأراضيهم بين الدول الأفريقية التي استقلت عن فرنسا، ولطبيعة ترحالهم؛ وجد هؤلاء الطوارق أنفسهم في شتات بلا دولة، ووُزعت أراضيهم بين مالي والنيجر والجزائر وموريتانيا وليبيا.

من بين هؤلاء المهجرين قسرا، وبين مخيمات اللاجئين بجنوب الجزائر؛ كان هناك شخصان هما إبراهيم أغ الحبيب وحسن أغ التهامي، وقد اكتشفا سحر الغيتار الإلكتروني في الثمانينيات، ومع هذا الاكتشاف ظهرت أولى إرهاصات نواة مجموعة “تيناروين”.

“تيناروين”.. من كفاح مسلح إلى ثورة موسيقية

في ظل الشتات الذي عاناه الطوارق بين مخيمات اللاجئين، جاءت الدعوة من ليبيا حينما وعد الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي بتسليح وتدريب الطوارق، وذلك بإنشاء مخيم عسكري لهم، وقد التحق فتية “تيناروين” بالمخيم، وهناك كان اللقاء بالعضو الثالث للمجموعة عبد الله آغ الحسيني سنة 1986.

بين رصاص الثورة التي اندلعت في شمال مالي ونيجيريا سنة 1990؛ كُتبت رسميا وثيقة ميلاد مجموعة “تيناروين” التي شارك أعضاؤها في الثورة، وشهدوا على الانتهاكات التي تعرّض لها شعبهم.

انتهى النزاع المُسلّح بتوقيع اتفاقيات سلام بين الطوارق ومالي والنيجر، فانسحبت “تيناروين” من ساحات الحرب، لتنقل معها كفاحها لساحات العرض.

“لكل فصيل مقاوم فرقته الموسيقية”

استبدل موسيقيو “تيناروين” سلاحهم الناري بآلة الغيتار، وانخرطوا في كفاح أكبر لإيصال رسالة شعبهم للعالم، وذلك عبر مزيج موسيقي يجمع بين الموسيقى التقليدية للطوارق والإيقاع السريع للغيتار، فهم يغنون عن المنفى والثورة، وعن المعيش اليومي لشعبهم، مواصلين كفاحهم لتحرير واستعادة أراضيهم وإيصال صوتهم للعالم.

يقول آغ الحسيني: لكل فصيل مقاومة في العالم فرقته الموسيقية المؤلفة من أفراد هم موسيقيون ومقاومون في الوقت نفسه، يلعبون دور المقاتل العسكري، إذ أنهم مدربون عسكريا ويجيدون فنون القتال، وفي الوقت نفسه يتمتعون بروح فنية لها قيمة مهمة، لأنها تستطيع التعبير عن الكثير. ويصف أنفسهم بأنهم “فنانون محاربون”.

رسالة الفن.. مسيرة متوجة بأرفع الجوائز الموسيقية

يُفضل أعضاء الفريق تصنيف أنفسهم في خانة الفن على تصنيفهم في خانة العسكر، إيمانا منهم بأن الفن أهم من الكفاح المسلح، وبه يمكن نشر رسالتهم بصدى عالمي.

لقد بقي صدى موسيقى فرقة تيناروين محليا، ولا يكاد يتجاوز مالي، وذلك حتى وصول فرقة “لوجو” الموسيقية الفرنسية لباماكو عاصمة البلد نهاية التسعينيات لتسجيل ألبومها “بوهيمي دي كريستال”، وهناك حدث اللقاء بين “لوجو” و”تيناروين”، وتقرر إحياء عمل فني مشترك في فرنسا.

بدأ مسار “تيناروين” نحو العالمية بالبروز وبقصة مليئة بالكفاح، فقد بدأت بألبومين محليين سنة 1983، ثم أول ألبوم عالمي سنة 2001 بعنوان “راديو تيسداس”، وقد حقق ثلاث ترشيحات لأرفع جائزة موسيقية عبر العالم وهي جائزة الغرامي (Grammy) التي حققتها الفرقة سنة 2011 عن ألبوم “تاسيلي”.

اللثام الذي يلبسه أعضاء فرقة “تيناروين” الموسيقية، والذي تطل منه أعينهم وهي تشع بمشاعر الحزن والغضب

شعب الصحراء الفخور.. ثقافة تنتصر على العقبات القاسية

سنة 2003 أصدر عملاق صناعة السيارات الألماني “فولكس فاغن” (Volkswagen) سيارة رباعية الدفع أطلق عليها اسم “فولكس فاغن طوارق”، وقد نشرت الشركة آنذاك بلاغا صحفيا تشرح فيه أسباب اختيار لقب قبيلة الطوارق لتكون اسما لسيارتهم الجديدة، وجاء فيه: الطوارق هم شعب الصحراء الفخور الذي يُجسّد القدرة المثالية للإنسان على الانتصار على عقبات الأرض القاسية، فحتى يومنا هذا استطاعوا أن يحافظوا على شخصيتهم القوية، واعتمادهم على أنفسهم.

يطلق عليهم اسم الطوارق أو التوارق، وهذا الاسم مشتق من واد بليبيا اسمه تاركا حسب بعض المختصين، وهم ينتشرون في الصحراء الكبرى بين مالي والنيجر والتشاد والجزائر، يتحدثون بلغة “التماشك”، ويُقدّسون ملابسهم التقليدية، فلا تكاد ترى رجلا منهم بدون لثام أو “تاكلموست” بلغتهم.

تحدث عنهم الكاتب الليبي إبراهيم الكوني في روايته “نزيف الحجر”، ووصف كيف أن فم الرجل الطوارقي عورة، ومن المعيب أن يراه عائلة زوجته أو امرأة غريبة عنه، وعلى عكس الرجل فالمرأة لا تخفي ملامح وجهها.

موسيقى الطوارق من أهم سفراء هذه القبيلة، فقد تعددت الفرق الموسيقية التي أوصلت أسلوب عيش وفن هذا الشعب للعالمية، مثل فرقة “كتيناروين” و”إمرهان” و”تاميكرست” و”بامبينو”، وعدة موسيقيين آخرين لا يمكن حصرهم إلا في كونهم يحافظون على اللباس التقليدي للطوارق في أي حفل يُحيونه في مختلف بقاع العالم.

الآلهة “أمناي”.. تقديس الأنثى في مجتمع الطوارق

يرى الطوارق أنفسهم أسطورة لا مجرد منظومة، فالصحراء عندهم مشتل للأساطير التي يحفرون بها في عمق التاريخ، ويستمدون بها وجودهم وبقاءهم، كأسطورة مدينة “واو”، وأسطورة جلد الثور، وأسطورة الآلهة “أمناي” المرتبطة بالأنثى المنقذة.

تكشف هذه الأسطورة مدى التقديس الذي أعطاه الطوارق للأنثى قبل اندثاره تدريجيا بعد اعتناق الطوارق للديانات التوحيدية، إلا أن مظاهر التقديس لا تزال ظاهرة في استعمالهم لفظ الألوهية لغويا لوصف الأنثى، وحظيت المرأة عندهم بقداسة جعلت قوانينهم تفني وتطرد للأبد من يسيء للمرأة، كما أن حفل الزفاف يُقام في بيت العروسة، ولها حرية اختيار زوجها وطلب الطلاق.

للطوارق ثلاثة رموز يقدسونها ويحفظونها بشدة، وهي “تينري” و”ترها” و”إيمان”، وتعني “الصحراء والحب والحياة”، ولأن المرأة منشأ الحب فإنها تلعب دورا جوهريا، فالطوارق مجتمع أمومي، والأسطورة تقول إن الطوارق تلثموا تكريما لنضال المرأة في معاركها التاريخية، مثل المُحاربة لالة فاطمة نسومر، وهي أبرز وجوه المقاومة الجزائرية، هذا التقديس قد يُسمع ويُحسّ في بعض الأحيان حين تصدح حنجرة عضوة الفرقة “مينا واليت” بزغروتة صحراوية نسائية بزعامتها وحركاتها فوق خشبة المسرح التي تجعلك تعي شيئًا ما بقيمة المرأة في مجتمع الطوارق.

“يتباهى صاحب الصحراء بانتمائه للعدم”

“تيناروين” هي الفرقة التي شبّه اكتشاف موسيقاها “روبيرت بلانت” مؤسس فرقة “ليد زيبلين” (Led Zeppelin) بظهور المسيح علنيا للبشر، وقد استطاعت أن تُوصل صوت الطوارق للعالم، وتفرض ثقافتها ولغتها، وتجذب انتباه المستمعين لصوت أفريقيا، وصوت الكفاح المُسلّح بالكلام، والكلاشنكوف الممتلئ برصاص لغة الصحراء والتحرر.

في فيديوهات “تيناروين” على منصة يوتيوب يتنازع البعض في التعليقات حول أحقّية بلدهم في “تيناروين”، حيث يقول البعض إن الفرقة مالية، بينما البعض الآخر يرى إنها جزائرية، وآخرون يقولون إنها من النيجر، لكن القطعة المفقودة في هذا الصراع التي يذكرها إبراهيم الكوني (واحد من أهم أدباء الصحراء) بالقول “يتباهى أصحاب الأوطان بالانتماء للوطن، ويتباهى صاحب الصحراء بانتمائه للعدم”، و”تيناروين” أبناء الطوارق أينما ارتحلوا وكانوا.


إعلان