“الطريق إلى كينشاسا”.. رحلة ضحايا الحرب إلى العاصمة

“السيقان كالأسنان، إن نزعتها فستنمو مجددا”. هكذا تُحدّث الأم ابنتها “سولا” بحديث أقرب إلى الخيال أملا في تخفيف حزنها على فقدان ساقيها بسبب حرب لم تكن لها فيها ناقة ولا جمل.

تستنجد الأم المكلومة بالطبيب في مكان يُطلق عليه مستشفى، وإن كان ليس له منها إلا الاسم، فيأتي وهو يجر ساقه وراءه؛ فهو أيضا من ضحايا الحرب، وماذا عساه يفعل أكثر من أن يخبر “سولا” أن تهدئ من روعها، حيث قال لها: ساقاك ستصلان، لقد صنعنا من أجلك ساقين بلاستيكيتين جميلتين، لن يطول الأمر، ستسيرين قريبا مجددا مثل جميع الفتيات الأخريات.

لا يختلف حال “سولا” عن حال كثير من ضحايا حرب الأيام الستة التي اندلعت في يونيو/حزيران عام 2000 بين رواندا وأوغندا في شوارع مدينة “كيسانغاني” بالجزء الشرقي من جمهورية الكونغو الديمقراطية، وبعد مرور 20 عاما ما زال الضحايا يطالبون بالتعويضات.

يصور هذا الفيلم -الذي بثته الجزيرة الوثائقية- معاناة الضحايا، ويتتبع رحلتهم إلى العاصمة الكونغولية كينشاسا بحثا عن من يعوضهم عن ما لحق بهم في حرب لم يشاركوا فيها، لكنها تركت آثارها ليس فقط على مدينتهم فقط، بل على أجسامهم أيضا؛ فمنهم من فقد ساقيه أو ذراعيه أو فقدهما معا.

ومع هذا الفقد، فإنهم يشكون إهمال الحكومة، فقد توقفت عن صرف التعويضات لهم منذ 18 عاما، ومن يحتاج إلى رعاية طبية فإنه لا يكاد يجدها، أما الدعم النفسي فهو حلم بعيد المنال.

“لقد ترددنا طويلا، ويجب أن نتصرف الآن”

أملا في إيجاد مخرج لمعاناة الحرب؛ تقرر رابطة الضحايا الذهاب إلى العاصمة كينشاسا، فقد تتوفر لهم فرصة أفضل لسماعهم، وربما كما تقول سولا: إن رأى قادة البلاد هذا بأم أعينهم فسيجدون حلا لنا.

يقول رئيس الرابطة “ليماما”: “لقد ترددنا طويلا، ويجب أن نتصرف الآن”. ويقرر أن يصطحب ممثلين عن أعضاء رابطته ليذهبوا إلى كينشاسا ويستعلموا من المسؤولين عن سبب إيقاف تعويضاتهم منذ 18 عاما، وهي رحلة طويلة وشاقة.. “لكن من دون تضحيات، لن نحصد أي نتيجة”، ويتساءل في غضب: “لماذا تساعد حكومتنا الجميع باستثنائنا نحن؟”

يستعد الفريق لتقديم عرض فني يحكي مأساتهم أمام جمهور جديد دون رهبة، توصيهم إحداهن -وهي فتاة فقدت أطرافها الأربعة- أن يتصرفوا كأفراد عاديين؛ “فجميعنا بشر، ينبغي أن نبهرهم، وأن يتذكرونا”. وتقود الفتاة ما تسميه بالإحماء، وتستحث فريقها أن يتصرفوا بقناعة دون خجل.

قارب يحمل مجموعة من متضرري حرب كيسانغاني إلى العاصمة كينشاسا لمطالبة الحكومة بالتعويضات

“أنتم تهدرون وقتكم، فأنا لن أنتحر”.. أحاديث الرحلة

ينطلق المركب الذي يقل الوفد، وهو مركب لا يختلف حاله عن حال ركابه، أو حتى عن تلك المياه التي يجري فيها، أو الطعام الذي يعدونه على سطحه.

أحد رفقاء “سولا” في رحلتها إلى العاصمة يخبرها أن عائلته قالت له: “لقد أطعمناك بما يكفي، فارحل”، فتقول له “سولا”: “إنهم لا يمنحونك أي اعتبار لأنك عديم القيمة بالنسبة لهم”، وهذا يشبه ما قالته عائلتها لها أيضا: “نحن منهكون من القيام بكل شيء من أجلك”، فهذه العائلات تحاول دفعهم إلى الاكتئاب والانتحار، لكنها تجيبهم: “أنتم تهدرون وقتكم، فأنا لن أنتحر”.

وتشرح “سولا” أسبابها قائلة: أنت قادر جسديا، أما المعاق فهو شخص مجنون غير قادر على فعل أي شيء، أنت مفيد؛ تعرف كيفية إصلاح الهواتف، قريبا هؤلاء القوم سيحترمونك، لا تقلق.

هذه معاناة يتشاركها كل هؤلاء، فهذا يتيم الأبوين ويقيم مع خالته التي لا تحبه وتراه عديم النفع، وتلك تشكو سوء معاملة زوجها، والخلاصة أن عائلاتهم تراهم عديمي الفائدة، بينما يخفف بعضهم على بعض الأمر.

سولا.. إحدى المتضررات من حرب كيسانغاني، تطالب عبر الإذاعة الشعب بعدم التصويت للفاسدين

“أتظنون أننا وُلدنا على هذه الحال؟”.. غناء ورقص وبكاء

رغم روح التعاون بين الفريق وتخفيف بعضهم عن بعض، فإن الأمور لا تسير على هذا النحو دائما، فلا تخلو رحلتهم من خلافات بينية يزيد منها تساقط الأمطار وهبوب العواصف على مركبهم المتهالك، ليصرخ أحدهم في وجه الرئيس “ليماليما”: كل ما تفلح في فعله هو إصدار الأوامر.

وفي مقابل ذلك ثمة مهرجان ترفيهي يُقام على المركب أملا في تناسي صعوبة الرحلة؛ غناء ورقص وضحك. وفجأة تهب ريح عاتية تكاد تذهب بمركبهم، الجميع يبكي، لكن هناك من يذكرهم أن البكاء يجلب الحظ السيء.

وأخيرا يصل المركب المضطرب إلى وجهته بعد أن عانى ركابه الأمرّين في رحلتهم، وهنا يخاطب الرئيس “ليماليما” الجمع: انظروا إلى ما آلت إليه حالنا، أتظنون أننا وُلدنا على هذه الحال؟ هذا يُؤلم، إنه يفطر قلوبنا، قلوبنا تنزف، ماذا ينبغي أن نفعل حتى ينصتوا لنا؟

وصل الوفد إلى كينشاسا، وكما تقاسموا مرارة الحياة في كيسانغاني ووعثاء السفر، فإنهم يتقاسمون سكنا متواضعا نزلوا به، وشعارهم “إن كنا متحدين، فسنصل إلى غايتنا، وسنحصل على التعويضات”.

رغم الأمطار والعواصف التي اجتاحت القارب، إلا أن قلوب الركاب المتجهين نحو كينشاسا عامرة بالفرح

“لا تصوتوا للمسؤولين عن حرب الأيام الستة”

وعلى عكس الحال في كيسانغاني، فإن كينشاسا تعيش صراعا انتخابيا كبيرا، وتمتلئ شوارعها باللافتات والملصقات والهتافات والشعارات، وليس لضحايا الحروب مكان في كل ذلك.

وفي حوار مع الإذاعة تشرح “سولا” الوضع لسكان العاصمة الذين لا يعرفون شيئا عن ما حدث لأبناء كيسانغاني، في تلك الحرب التي اندلعت بين جيشين أجنبيين هما الرواندي والأوغندي على أرض كيسانغاني، مُذكّرة أن محكمة العدل الدولية أدانت أوغندا وألزمتها بدفع مبلغ 10 مليارات دولار كتعويض لمدينة كيسانغاني، منهم مليار دولار للضحايا.

وتُطالب “سولا” الكونغوليين بالحذر عند اختيار من ينتخبون “لأن المتواطئين من الروانديين والأوغنديين موجودون بين المرشحين، لقد حولونا إلى مقعدين وأرامل ويتامى، لا تصوتوا للمسؤولين عن حرب الأيام الستة”.

عدد من ضحايا حرب كيسانغاني يجلسون أمام مقر الأمم المتحدة في العاصمة كينشاسا للمطالبة بالتعويضات

“نحن ضحايا حرب كيسانغاني”.. خطاب إلى الرئيس

تمضي أيام الفريق في كينشاسا، ويقرر الوفد أن يكتب خطابا لرئيس الجمعية العامة (البرلمان) يشرح معاناتهم ويتوجهوا لتسليمها له: “نحن ضحايا حرب كيسانغاني، أيها الرئيس، لقد مللنا الانتظار”.

كتب الخطاب على مهل، وذهب الوفد إلى مقر الجمعية العامة لتسليمه، لكن الأمور ليست بهذه السهولة؛ فهناك -كعادة دول العالم الثالث- من ينتظر ليقول: “عودوا غدا”. ثم يدور جدال طويل بين طلب الرحيل والإصرار على البقاء حتى مقابلة رئيس البرلمان أو على الأقل أحد النواب، “فقد مرت 19 عاما ولا يوجد قانون واحد لصالحنا”.

وعلى وقع الشجار يخرج النواب من مبنى البرلمان، فتعلو الأصوات بالصراخ والشكوى من تجاهل معاناتهم، ولأن المصائب لا تأتي فرادى، يُبلغ الرئيس “ليماليما” رفاقه بأن نائبة كيسانغاني في البرلمان أبلغته بتعليق دعمها لحراكهم، “نحن الآن لوحدنا، ماذا سنفعل؟”

“هذه الحرب ليست من اهتماماتنا”.. خذلان الأمم المتحدة

إذا كان البرلمان العام قد أوصد أبوابه في وجوههم، فإن لهؤلاء الضحايا برلمانهم الخاص، يجلسون ويتدارسون ماذا يفعلون؟ ويتفقون على مواصلة حراكهم، “يجب أن نُسمع قبل أخذ خطوات أخرى في الاعتبار، لا يمكننا التوقف الآن، فإذا استسلمنا قبل الحصول على أي شيء، فمن سيساعدنا؟”

لكن هناك صوتا معارضا لهذا؛ “إن قررنا المواصلة بأي ثمن، فأي هيئة رسمية ستستقبلنا الآن؟ لقد جربنا البرلمان ولم يستقبلنا أحد، فما الذي نتوقع أن نحصل عليه في وقت كهذا؟ وممن؟”.

ويبرز رأي ثالث يبدو أنه قد حاز الأغلبية: “نحن هنا في كينشاسا بإرادة الله، لا يمكننا العودة إلى الديار خاليي الوفاض، نحن هنا لنقاتل”.

هو القتال من أجل القضية إذن، وبخطوات متثاقلة، وسيقان صناعية، يطوف خمسة من ضحايا الحرب أرجاء كينشاسا يشرحون معاناتهم ومطالبهم، وتقودهم جولتهم إلى مقر الأمم المتحدة، لكن أبوابها تُوصد في وجوههم، تحت ذريعة أن “هذه الحرب ليست من اهتماماتنا”.

وإن لم تكن الحرب من اهتماماتكم، فلم أنتم هنا؟ يعلو الغضب على وجوه الضحايا، ويسألون: “أين كنتم حينما كنا نُذبح في الحرب؟ 6600 قنبلة سقطت علينا، والصليب الأحمر أحرق الجثث، والآن تقولون لنا: ليست مشكلتكم”.

أمل يحدو متضرري الحرب أن يحصلوا على تعويضاتهم من حكومة 2018 الجديدة بالكونغو

“سقطت حكومة المجرمين”.. مسيرة الجماهير العطشى للتغيير

رغم أن الانتخابات لم تكن تعنيهم، فإن إعلان فوز المرشح المعارض “تشيسيكيدي تشيلومبو فيليكس” في رئاسيات ديسمبر/كانون الأول 2018 أسعد هؤلاء الضحايا ومنحهم أملا، فقد “سقطت حكومة المجرمين”.

يقول الرئيس “ليماليما”: قلت لكم لا تستسلموا. ويغني الجميع: انهضوا وسيروا.. لقد حان وقتنا”. وبعد أن كانت جولاتهم السابقة جولات غضب، فها هم يخرجون في احتفالات مع الجماهير العطشى للتغيير.

لكن هذا لا يعني نهاية معركتهم، إذ بدأ الفريق يعدّ لافتات التهنئة للرئيس الجديد، وبالطبع لم ينسوا أن يكتبوا فيها طلبا لمقابلته.

انتهت حرب الأيام الستة بحصيلة تزيد عن 1000 قتيل و3000 جريح، ووفقا لمنظمة “هيومان رايتس ووتش”، فقد تسبب الصراع على الموارد المعدنية في جمهورية الكونغو الديمقراطية بمقتل أكثر من 6 ملايين كونغولي بين عامي 1996-2020، وكان العدد الإجمالي للقتلى في هذه النزاعات هو الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية.


إعلان