“الطوارق رجال الصحراء”.. رحلات تعبر المفازات القاتلة إلى مناجم الملح
الطوارق، أو الرجال الزُرق، هم سادة الصحراء الكبرى ونبلاؤها، والوحيدون القادرون على كظم غيظها، يعيشون على أراض تتعزز فيها قيم الشرف والضيافة، ويخضعون فقط للقوانين التي تمليها المياه، لطالما خشيهم الأعداء لضراوتهم في حماية أراضيهم الوعرة، لا يعرفون معنى الحدود، بل يعرفون أن هذه الصحراء لهم، وأنهم وحدهم القادرون على التحكم بها.
في هذه الفيلم الذي عرضته قناة الجزيرة الوثائقية بعنوان “الطوارق.. رجال الصحراء”، سوف نتعرف على طبيعة هذه القبائل وأماكن سكناها، وطرائق عيشها ووسائل ترحالها، وعن مواردها وكيفية إدارتها، وعلاقاتها مع الدول والتجمعات البشرية في الجوار.
رحلة التجارة.. غيبة رجال القبيلة إلى مناجم الملح
تتوسع الصحراء الكبرى -أكبر صحاري العالم- شمال أفريقيا باستمرار، نتيجة لتغير المناخ، وتزيد مساحتها عن 9 ملايين كيلومتر مربع، وتسكنها قبائل الطوارق، في الجزائر وليبيا والنيجر ومالي وبوركينافاسو.
وقد أحدث وصول الجمل ذي السنام ثورة في شمال أفريقيا، فقد جاء به الفرس إلى مصر عام 525 قبل الميلاد، وسمحت له قوته وتحمله العطشَ أن يفتح طرقا للتجارة خلال الصحراء، وتنطلق قوافل الطوارق بين أكتوبر وفبراير (تشرين أول وشباط) في رحلة شاقة، هدفها التجارة ومقايضة البضائع، حسبما تحتاجها التجمعات المختلفة.
وقبل الرحلة بأيام تقوم النساء بتجهيز وجبة الطعام الرئيسية؛ عصيدة “البولا”، وهي معجون مصنوع من التمر وجبن الماعز ونبات الدخن ودقيق الذرة، وهو الطعام الذي سيستخدمه رجال القافلة في رحلتهم إلى مناجم الملح في فاتشي بواحة بيلما. وفي حرّ النهار يذيب رجال القافلة المعجون في الماء لإعداد مشروب طاقة منشط، ويشربون الشاي ويأكلون الملح ليقيهم من الجفاف.
وتنشط النساء كذلك في صناعة الحُصُر التي سينقل فيها الرجال الملح، بينما يقوم الرجال بصناعة الحبال من العشب الجاف لربط الأحمال على الجمال، ويتأكدون من سلامة القِرَب التي ستحمل الماء طوال الرحلة.
رقصة الزعماء.. انطلاق القافلة على قرع الطبول
تقع سلسلة جبال آيير شمال وسط النيجر، ويبلغ ارتفاعها 2000 متر، كأنها جزيرة تحيط بها الرمال من كل مكان، وهي موطن عشيرة “كالأواي”، أفضل قادة القوافل، وتقع بلدتهم تيميا شمال جبال آيير، على ضفتَي نهر جاف تمر به المياه بشكل متقطع، من هنا تنطلق القوافل متجهة إلى أغاديس لتدخل صحراء تينيري.
تشترى البضائع التي سيقايض بها الملح من جمعية القرية التعاونية، وتكال بحفنة اليد، من ذرة سميد طماطم مجففة وفلفل حار، وتحفظ بحيث لا يتسرب إليها الماء، وهنالك الليمون ذو القيمة العالية الذي تفتقر إليه وجهتهم القادمة بيلما.
قبل انطلاق القافلة يقام احتفال “تندي”، ويرتدي فيه زعماء القبائل أجمل ملابسهم ويصبغون عمائمهم بالأزرق النيلي، وتتزين الجِمال بالزخارف التقليدية التي تظهر النسب النبيل لراكبيها، يستعرض الرجال مهاراتهم في ركوب الجمال، ويتغنون بشجاعتهم في قهر الصحراء بينما تطلق النساء الزغاريد تيمنا برحلة سعيدة غنية.
تقرع طبول التندي في مناسبات الزواج، وعند بلوغ الفتيان 15 عاما، إذ يلتثمون بعمائمهم للمرة الأولى، وتبلغ الاحتفالات أوجها عندما يقوم زعماء القبائل بأداء رقصات خاصة على قرع طبول التندي، ويرفعون راياتهم المميزة.
يوم الرحلة يجهزون جمالهم بأحمالها بقيادة “المادوغو”، وهم مرشدو القافلة والمسؤولون عن الرحلة منذ تلك اللحظة، فهم الذين يعرفون طرقها ويستدلون على مسالكها ليلا ونهارا، إنهم يتوارثون هذه المهارات جيلا بعد جيل.
قوانين الماء.. خطة اقتصاد الزاد في رحلة الألف كيلومتر
حانت ساعة الرحيل عن تيميا، هناك ألف كيلومتر تفصلهم عن مناجم الملح في فاتشي، وستستغرق رحلة الذهاب شهرا كاملا، وسوف يحملون معهم ما يكفي من الحشائش لإطعام الجمال ذهابا وإيابا، نظرا لندرة الحشائش في واحة بيلما، ويملؤون قربهم بالماء ويسقون إبلهم من آخر بئر في آيير، فلن يجدوا الماء بعد ذلك.
يبدأ تقنين صرف المياه منذ أول خطوة في الرحلة، وستؤثر الرقابة الصارمة على مخزون الماء في نتيجة الرحلة وإنقاذ حياتهم، وتعتبر الأيام الأولى هي الأصعب، ويبنون عليها وتيرة سيرهم، ويشغل تفكيرهم ذكريات رحلات سابقة، ومحيطات الرمال والرياح الباردة والتعب.
ها هي صخور دافوس السحرية، تمر بها جميع قوافل آيير، وقد رسم عليها الرجل الأسطورة “أنوغوران” نقوش الزرافات والحيوانات قبل 10 آلاف عام، وتفيد بأنه كان هنالك خضرة ومياه قبل أن تتصحر المنطقة.
ففي عام 1321م زار ابن بطوطة هذه الصحراء، وتحدث عن رجالها الذين من غير إذنهم وإرشادهم لن تستطيع قافلة استئناف سفرها، ووصف خيام الطوارق المصنوعة من الجلد، وقال عن نسائهم إنهن يتمتعن بمنزلة أعلى من الرجال.
صحراء تينيري.. مفازة لا يعبرها إلا من يسمع همس الرمال
أثاث الناس في بلاد الطوارق بسيط، تحت خيمة الجلد سرير متنقل مصنوع من جذوع الشجر، وأوانٍ بدائية للطهي، ووعاء من القرع لحفظ الطعام مرفوع أعلى السرير حتى لا تصله القوارض، وتشتري المرأة الأثاث من مهرها، وإذا حصل الطلاق فيبقى لها.
يعيش بدو جبال آيير في خيام من الحصير المجدول، ينصبونها في الوديان، ولا يأخذونها معهم حين الارتحال، فلربما عادوا في رحلة ثانية واستخدموها، أو ربما يستخدمها غيرهم، وتقوم النساء بنسج هذه الحصر من سعف النخيل والأعشاب الطويلة المتينة.
اقتربت القافلة من صحراء تينيري، وهي صحراء داخل صحراء، قادة الطوارق المخضرمون هم الذين يستطيعون اجتيازها دون أن يهلكوا، ويسمونها سندان الشمس، فتدمر بمطارق أشعتها الحارقة كل علامات الحياة. وتتحرك القافلة يوميا بعد الشروق، ويستغرق تحميل الجمال وتناول الطعام نحو ساعتين، ولن يتناولوا طعاما بعدها حتى التخييم الثاني عند الغروب.
دخلت القافلة في محيط لا نهاية له من الرمال، إنها صحراء تينيري، وهنا أسلموا قيادتهم كليا للمادوغو، فهو وحده الذي يسمع همس الرمال ويعرف إشاراتها، ويمكن أن تجتمع أكثر من قافلة صغيرة في رحلة واحدة طلبا للأمان، ويقال إن رحلة في عام 1988 اجتمع فيها 20 ألف جمل، يقطعون 40-50 كم كل 16 ساعة.
بلاد الطوارق.. حرية تكسر عبودية الدولة الحديثة
في نهاية القرن الـ18 بدأ الرحالة الأوروبيون يستكشفون الصحراء الكبرى، ومات معظمهم في صراعات مع الطوارق الشرسين، وكان الطوارق يفرضون ضرائب على من يريد المرور، فإما الدفع أو السلب والقتل.
وقد سيطر محاربو الطوارق على جميع طرق الصحراء الكبرى فترة طويلة، وإلى غاية القرن العشرين كانوا يرون أنهم مالكو هذه الصحراء، ويقتلون كل من لا يستجيب لأوامرهم، وبعد الاحتلال الأوروبي لأفريقيا فرضت فرنسا حدودا مزقت وحدة الطوارق، فأصبحوا قوة متمردة، وخصوصا في مالي والنيجر.
ولا يؤمن الطارقي بأي حد أو سياج يعرقل حرية حركته، ولا يستسلمون ولا يعترفون بأنهم مشردون، فهم ينتمون إلى الأرض فقط ولا يؤمنون بالدولة الحديثة، ولكنهم يحتفظون بعلاقات تجارية مع قبائل “الهاوسا” و”اليارما”، فيقايضونهم بالملح مقابل فائض الحبوب.
كما يصنع الطوارق أسلحتهم من السيوف والخناجر والمناجل بأيدي حدادين مهرة منهم، والقبيلة القوية هي القبيلة التي فيها حدادون ذوو خبرة ودراية في صناعة الأسلحة وتشكيل المعادن، ولا يتحرك الطارقي إلا بسيفه “التاكوبا”، فهو رمز نسبه وشرفه، تماما مثل لثامه. أما الغمد فيصنع من جلود البقر، ويكون مليئا بالزخارف.
رائحة الماء.. إبل عطشى تجد طريق الآبار في الصحراء
مع غروب الشمس تبدأ الحياة، فأثناء النهار لا يتحدثون، والتركيز منصبّ على الرحلة وإبقاء الجمال في حالة حركة ونشاط، وقبل أن يحل الظلام يقيمون مخيما ويُنزلون أحمالهم ويوزعون مهمات الطهي وتقييد الجمال وإطعامها وتفقد المياه.
يعتمد رجال القافلة في طعامهم على لحم الضأن وعصيدة البولا في الأيام الأولى من الرحلة، وبعد أن ينفد اللحم لا يبقى لهم سوى العصيدة وحليب النوق، بينما أهلهم المستقرون في القرى يتناولون مشتقات الحليب من الأجبان والزبدة، ويطهون الأرز بالإضافة إلى العصيدة.
وتُسقى الجمال كل 4-5 أيام، ويسترشد بها الطوارق في اختيار أماكن الآبار، فالجمال تشم رائحة الماء على بُعد كيلومترات، أما حفّارو الآبار فلهم مكانة مهمة في مجتمعات البدو، فمهنتهم خطرة جدا قد تودي بحياتهم، ويُدفَنون أحياء في الآبار التي يحفرونها.
وفي آيير مراعٍ جيدة للماشية، فالمنطقة تحوي طبقات من المياه الجوفية، ولكل عشيرة آبارها، ويفرضون ضرائب على الرعاة من قبائل أخرى بعينها، لكن قانونهم بشكل عام يمنع فرض الضرائب على الماء، وقد تصل عقوبة الذين يمنعون الماء عن الناس حد الإعدام.
كما يقننون توزيع الماء على الناس والحيوانات، وهنالك حارس على كل بئر لمراقبة استهلاك الماء، وتعطى الأولوية لسقى الإبل، فهي أنبل الحيوانات لديهم، ثم البقر فالماشية والحمير.
معلم القرية.. طبقة رجال الدين في نظام هرمي صارم
يعمل بعض قبائل السود الأفارقة كأفراد “البيلّا” و”الفولان” عبيدا عند الطوارق، ولكن بالتراضي بين الطرفين، فهم يرعون لهم أبقارهم وماشيتهم، وينتشلون لهم الماء من الآبار. ويتكوَّن مجتمع الطوارق من تسلسل هرمي صارم يضم النبلاء ورجال الدين والمقاتلين، ثم الحرفيين الذين ينقسمون إلى أحرار وعبيد.
وتعرف قرى اليارما بحجمها الكبير ومخازن الحبوب الكثيرة فيها، مثل الدخن والذرة والقمح، وقراهم على الحدود بين أفريقيا البيضاء والسوداء، عند نهر النيجر الأسطوري، ويبلغ طوله 4184 كيلومترا، وهو ثالث أطول أنهار أفريقيا بعد النيل والكونغو، وهو شريان النقل الرئيسي في غرب أفريقيا ويعتبر الحدود الجنوبية الطبيعية للطوارق.
الطوارق مسلمون بالكلية، ويقضي أطفالهم النهار في حفظ القرآن مع معلم القرية، ويجب عليهم حفظ القرآن كاملا وتفسيره كما يمليه عليهم المعلم، ومع هذا فما يزالون متأثرين ببعض الموروثات والطقوس الوثنية التي كانت عليها شعوبهم قبل الإسلام، فيؤمنون بالسحر والشعوذة وطرد الأرواح الشريرة من خلال طقوس ورقصات غريبة.
أشجار النخيل.. فرح أخضر بعد عاصفة سوداء
تهب على القافلة موجات من العواصف الرملية الشديدة، وتستمر ساعات خلال النهار بحيث تنحسر الرؤية الأفقية إلى بضعة أمتار فقط، لكن هذا لا يثني المادوغو عن المضي قدما أمام القافلة، فالتوقف يعني الهلاك، وهنا تعبير آخر عن الحنكة والشجاعة لدى المادوغو وبقية رجال القافلة في معرفة الطريق ومواجهة أقسى الظروف.
وحين تصبح القافلة على وشك الوصول إلى واحة بيلما، يكون التعب والإرهاق قد أخذا من الإبل والرجال كل مأخذ، فهم يسيرون منذ شهر تقريبا دون كلل أو ملل، وتفيض مشاعرهم بالبهجة عند الوصول، وتلوح لهم الخضرة وأشجار النخيل من بعيد، وقد خرج إمام المسجد لاستقبالهم، وسيمكثون هنا أسبوعا لقضاء أعمالهم، ريثما تتعافى الإبل مما لاقت من التعب أثناء الرحلة.
سوق فاتشي.. مقايضة البضائع الحضرية بالملح والتمر
ينعقد السوق وتبدأ المقايضة، ورجال القافلة لديهم الحبوب والفواكه المجففة، وأهل الواحة لديهم قوالب الملح التي جهزوها مسبقا، يرتبونها ويضعون كميات من القش بين القوالب حتى لا تنكسر، فالمكسور يباع بنصف الثمن. وتشتهر نساء الواحة بالمفاصلة والمماكسة، وهن اللاتي يعقدن الصفقات مع رجال القافلة.
أهل فاتشي لا ينتجون سوى الملح والتمر، ولكل عائلة قطعة أرض يجمعون فيها الملح بعد أن تتبخر عنه المياه، ويكون مخلوطا ببعض الطين، وتتغذى عليه الحيوانات، أما الملح الأبيض الصافي فهذا هو النوع الفاخر الذي يستخدمه البشر.
وبعد انقضاء السوق يبدأ الطوارق بتحميل بضائعهم وأشيائهم على الجمال، ويستطيع الجمل أن يحمل من الملح زنة 150 كيلوغراما، وهم يستعدون لرحلة العودة المضنية الطويلة، ولكنهم في حالة نفسية ومعنويات مرتفعة، فهذه آخر رحلة لهذا العام، وستكون الرحلة القادمة في الخريف القادم.
زغاريد النساء وتكبيرات الرجال.. حفل العودة إلى الديار
يعيش الطوارق اليوم نوعا من الاضطهاد، فبعد الحدود والدولة الحديثة، وبعد اكتشاف حقول والنفظ ومناجم الذهب واليورانيوم، وبعد تغول فرنسا والدول الأوروبية على كنوز أفريقيا، أصبح الطوارق يواجهون تحديات وجودية، وما يزالون يواجهونها بقوة، من أجل العودة إلى نظام حياتهم الذي لا يعترف بالحدود.
وبعد شهرين من رحلة قاسية، واجه خلالها رجال الصحراء الشجعان الأهوال والأخطار، وصلت القافلة أخيرا إلى الديار، واستقبلتهم القرية الصغيرة عن بكرة أبيها بطبول التندي، تعبيرا عن الفرح والبهجة بعودة القافلة، وزغردت النساء وسط تكبيرات الرجال وشكرهم لله الذي أعادهم إلى أهلهم سالمين غانمين.