“أحفاد كريت”.. يونانيون في البلاد العربية

حين شرعت المخرجة السورية اللبنانية هلا مُراد بفيلمها الوثائقي “أحفاد كريت”، كانت تُدرك جيدا بأن الأندلس لم تكن المحنة الأولى، وأنّ فاجعة فلسطين لن تكون الأخيرة، فثمة قصص مشابهة قد لا يعرفها البعض، لأنها مرّت مرور الكرام، مثل تهجير أبناء كريت المسلمين من بلدهم الأصلي الذي وُلدوا فيه وترعرعوا في جنباته، وتكلّموا لغته التي لا يعرفون سواها، لكنهم سيضطرون لاحقا إلى تعلّم اللغة العربية بلهجاتها السورية واللبنانية والليبية.

وإذا صَعُبت هذه اللغة على الجيل الأول، فإنها سوف تستقيم على ألسنة الأجيال الثلاثة التالية، ولا غرابة في ذلك، فلقد تلاشت لغتهم الأم، وحلّت محلها اللغة العربية، مثلما تلاشت جنسيتهم الكريتية اليونانية واستبدلوها بجنسيات شامية وليبية كانت لبنان سبّاقة في منحهم إياها سنة 1932 م.

كريت.. سيرة وطنية لبلد ضاع قبل قرن وربع

يُعد هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية سيرة ذاتية للمخرجة هلا مُراد، وأكثر من ذلك فهو سيرة أُسَرية لعائلة مُراد برمتها، وصولا إلى الجيل الرابع الذي يتمثل بفرح سلامة ابنة المُخرجة هلا مُراد وقُرَّة عينها.

كما يمكن اعتبار هذا الفيلم الوثائقي سيرة وطنية لبلد ضاع من بين أيديهم في غفلة من الزمن قبل قرن وربع القرن تماما، ولم تعد بحوزتهم أدلّة أو أوراق رسمية تثبت انتماءهم إلى بلدهم الأول كريت الذي يحنّون إليه حنينا جارفا كلما أخذتهم الذكريات إلى تلك المضارب العزيزة على القلب والروح والذاكرة.

المخرجة هلا مراد وشقيقتها الكبرى ثريا وابنتها فرح سلامة خلال زيارتهم لكريت

فاز فيلم “أحفاد كريت” بجائزة أفضل مخرج، وهو يستحقها عن جدارة لأنه يتمحور على قصة المسلمين الكريتيين الذين هجّرتهم الحرب الدينية اليونانية إلى الشام وليبيا، وهي قصة محبوكة وجديدة لم تُطرق من قبل، كما يتوفر الفيلم على تصوير حاذق ورؤية إخراجية مرهفة تلامس المشاعر الإنسانية العميقة.

ينطوي هذا الفيلم على حِرَفية في البناء وسلاسة في السرد، وعمق في المُقاربة الفنيّة التي تُجسّد الرؤية الإخراجية للمخرجة هلا مُراد التي أنجزت ثلاثة عشر فيلما، من بينها “شوقا للركن الخامس” و”مناضلة الجزائر زهرة ظريف” و”مُعجزة طرابلس” و”مُخيّم النهر البارد” و”هدايا حلف الناتو لأطفال ليبيا”، وغيرها من الأفلام الناجحة فنيا.

جينات الأجداد.. أصوات خفية تغري بالعودة إلى الوطن

إنّ فكرة وسيناريو “أحفاد كريت” هما أيضا من إبداعات هلا مُراد، الأمر الذي يعطينا صورة واضحة عن أن الفيلم يكاد أن يقترب من “سينما المؤلف” لو أنها تدخلت في التصوير أو المونتاج، لكنها لم تفعل، فظل الفيلم الوثائقي يتحرّك في إطاره الاستقصائي، وهذه لوحدها مهمة عسيرة.

تعتمد هلا مُراد في هذا الفيلم على تقنيات متعددة من بينها التعليق الصوتي والرؤوس المتكلمة التي تروي قصصها، كما استعملت تقنية ما وراء السرد بواسطة تضمين فيلمين وثائقيين، الأول منهما لها، والثاني للمخرج اليوناني “ديمتري موناساكس”، أي أنها حققت سردا بصريا مُضافا للسرد البصري لقصة الفيلم الرئيسية التي يمكن أن نوجزها بأنّ الأم هلا مُراد تروي لابنتها فرح قصة الأجداد المهجرين من كريت قبل 125 سنة، لكنهم لم يتخلصوا حتى الآن من الحنين الذي يشدّهم إلى وطنهم الأصلي ومنبعهم الأول.

كما يُعدّ الفيلم في مجمله رحلة البحث عن الجذور تقوم بها هلا وشقيقتها الكبرى ثريا وابنتها فرح، ملبّيات نداء جينات الأجداد وأصواتهم الخفيّة وهي تُغريهنَّ بالعودة إلى الحاضنة الأولى التي لا يمكن تفاديها، أو غضّ الطرف عنها.

عبد الحميد الثاني.. إهداء إلى السلطان المنقذ من الإبادة

ثمة إهداء يتصدر الفيلم له أهمية خاصة لمُبدعة الفكرة ومُخرجة الفيلم، ومفاده “إلى أرواح أجدادنا الذين هُجِّروا، وأرواح مَن قضى منهم في البحر”، وهذا يعني بالتأكيد أنّ هناك من غرق أو قُتل قبل أن يصل إلى برّ الأمان، حتى وإن كان في حماية الجيش العثماني الذي أُجبِر على الانسحاب من الأراضي الكريتية التي احتّلها عام 1645 م، وغادرها نهائيا سنة 1913 م.

ومع ذلك فإن المخرجة هلا مراد تشعر بفضل السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918 م)، فهو الذي أنقذ مسلمي جزيرة كريت من القتل والإبادة الجماعية، لأن اليونانيين كانوا يعّدونهم “خونة”، لكن مراكب السلطان أوصلتهم إلى المناطق الآمنة في الشام وليبيا، فلا غرابة أن تقرأ هي وابنتها الفاتحة على روحه، ومن هناك تشرع بسرد حكاية الأجداد للأحفاد.

فاطمة عنبر.. ذكريات الأم التي لا تنضب في الحميدية

تطل علينا فاطمة عنبر والدة هلا وثريا ثلاث مرات رئيسية، إضافة إلى إطلالات جانبية لها دلالتها الاجتماعية الحميمة، ففي الظهور الأول تروي أبياتا من الشعر الذي يدور حول “الكنّة وست البيت”، وينتهي بـ”تنويمة الطفل الصغير”.

شهادة فاطمة عنبر التي ولدت في قرية الحميدية مسقط رأسها ومنجم ذكرياتها الذي لا ينضب

أما الإطلالة الثانية فهي أطول بكثير، وتتحدث فيها عن حياتها الشخصية وأسرتها، حيث تقول إنها وُلدت في الحميدية بالقرب من طرطوس، وإنّ والدها كان يمتلك بستانا جميلا جدا كانت تدخله وتقطف الثمار وترجع إلى المنزل، وكانت لديها ذكريات كثيرة في تلك القرية، لذلك شيّد لها ابنها منزلا إلى جانب منزله كانت تذهب إليه كلما اشتاقت لطفولتها، وتحنّ لذكرياتها الجميلة وللهواء المنعش، والخضرة التي تحيط بالمكان.

تحب فاطمة قرية الحميدية لأنها مسقط رأسها ومنجم ذكرياتها الذي لا ينضب، لذلك تجلب أولادها مرة كل سنة كي يرتاحوا في بريتها المفتوحة ونسيمها العليل وأطعمتها اللذيذة.

ثُريا.. جيل ثالث من المهاجرين يحنّ لوطنه الأول

كما تُطل ثريا الشقيقة الكبرى للمخرجة هلا ثلاث عشرة مرة، وفي كل إطلالة تقدّم لنا فكرة أو تذكرنا بحادثة قديمة، وفي مستهل حديثها تستذكر كيف كان الجيران يضحكون حين يسمعون أمها وهي تتحدث بلغة غريبة لم يألفوها من قبل.

ثريا الشقيقة الكبرى للمخرجة هلا، حيث تؤكد بأنّ “خان التماثيلي” في طرابلس هو أول مكان وصل إليه المهاجرون اليونانيون

تؤكد ثريا بأنّ “خان التماثيلي” في طرابلس هو أول مكان وصل إليه المهاجرون اليونانيون الذين كانت أوضاعهم سيئة جدا، وعلى الرغم من انتمائها للجيل الثالث من المهاجرين الذين أصبحت لغتهم الكريتية ضعيفة جدا، وعلاقتهم باليونان واهنة؛ فإن حنينهم الجارف لوطنهم الأول لم ينقطع أبدا، لأن جذورهم تمتد إلى ذلك المكان.

وترى ثريا أنّ عدم قدرة أخيها على التكلم باللغة العربية حين كان عمره ثلاث سنين هو الذي دفع الأبوين إلى الخشية من عدم اندماج أبنائهم في المدارس العربية، فقررا أن لا يعلماهم اللغة اليونانية التي يتقنانها ويتحدثان بها في المنزل إذا ما حدث أمر خاص يستدعي السريّة والكتمان، ويصنعون ذلك وسط دهشة الأطفال واستغرابهم.

مئذنة المسجد.. بقايا أطلال المهاجرين في كريت

حين وصلت ثريا إلى مطار خانيا قادمة من الدنمارك شعرت بفرحة اللقاء مع أختها الآتية من دبي، وغمرها الإحساس بسعادة الوصول إلى هذه المدينة الكريتية، وتحوّل الحلم الذي كانت تنتظره طيلة حياتها إلى حقيقة واقعة، فها هي تطأ أرض الأجداد، وتشم رائحة أنفاسهم التي تصاعدت يوما ما في البيوت والأزقة والأسواق.

المئذنة التي تحاذي جرس الكنيسة في كريت، حيث لم تُحطَّم المئذنة من قبل الكريتيين

تعترف ثريا بأنها لم ترسم صورة في خيالها عن كريت، لكنها شعرت بأنها قريبة جدا من بيئة مدينة طرابلس، خاصة نمط العمارات وشكل الأباجورات والشُرفات، وطريقة سير الناس في الشوارع. وعلى الرغم من أن هدف الرحلة هو البحث عن الجذور، فإن فكرة زيارة كريت من قِبل الشقيقتين قد جاءت من ابنة أختها فرح التي كانت تريد أن تكتب دراسة عن المهاجرين اليونانيين وتقدّمها باللغة الإنجليزية في المدرسة أمام التلاميذ.

لم تخبئ ثريا إحساسها بالبهجة التي منحتها إياها كريت، فلقد أحبّت الشعب الكريتي الذي تنتمي إليه روحيا وجينيا، وأشادت بكرمهم وضيافتهم، وأثنت على حُسن استقبالهم ومساعدتهم للزائرين القادمين من مختلف أصقاع الأرض.

تختم ثريا إطلالتها بالحديث عن المئذنة التي تحاذي جرس الكنيسة، وأنّ الكريتيين لم يحطّموا المئذنة، وإنما تركوها على حالها تثير سؤالا واحدا لدى الناظرين إليها: ما جدوى الحروب الدينية إذا كان بإمكان المئذنة أن تجاور جرس الكنيسة وتعانقها من دون أن يتغيّر نظام الكون، ويضطرب إيقاع الطبيعة؟

كاتبة الفيلم.. حنين إلى أندلس الشرق

تُعدّ هلا مُراد الشخصية الفاعلة والأكثر أهمية في الفيلم، فهي التي اجترحت الفكرة وكتبت السيناريو وقرأت بعض التعليقات الصوتية، وشاركت في التمثيل، وأخرجت الفيلم في النهاية.

تفتخر هلا بأنها تحمل الجنسيتين السورية واللبنانية، وتحب كثيرا مسقط رأسها طرابلس، لكنها لا تستطيع أن تتغلّب على الحنين الجارف الذي انتقل من الأجداد والآباء إليها، وستنقله هي أيضا إلى أبنائها، وهي لا تجد حرجا في القول إنها تتمنى لو أنها بقيت في موطنها الأصلي، ولم تضطرها الظروف القاهرة للإقامة والعيش في مكان آخر.

المخرجة هلا مراد التي يُشكل فيلمها رحلة البحث عن جذورها الكريتية

تشبّه هلا كريت بأنها الأندلس الثانية، وأنّ قضية فلسطين تأتي بعدها زمنيا في الأقل، وهي تتخذ من الصحافة مهنة لها، وتقرأ وتبحث كثيرا، وعندما ارتأت ابنتها فرح أن تقدّم بحثا باللغة الإنجليزية عن لاجئي كريت في طرابلس والحميدية أطلعتها الأم على بعض المصادر، مثل “تاريخ جزيرة كريت”، وما ينطوي عليه من خرائط، وصور السلطان عبد الحميد الثاني الذي أنقذهم من إبادة جماعية مؤكدة.

لا تتردد هلا في القول إن كريت تعني لها كثيرا، فهي منحدرة من والدين يحملان الجينات الكريتية اليونانية.

“كنتُ الوحيد الذي يفهمهم”.. لسان يوناني في البلاد العربية

منْ يتأمل هذا الفيلم سيكتشف من دون مشقّة أن المخرجة هلا مُراد قد تجشّمت عناء السفر إلى تركيا وسوريا ولبنان وليبيا ومصر وكريت.

ولم تكن خانيا المدينة الوحيدة التي زارتها، بل إنها انتقلت إلى ريثيمنو التي تُعد ثالث أكبر مدينة كريتية بعد العاصمة هيراكليون ومدينة خانيا سالفة الذكر. ويرجّح كثيرون أن المهاجرين الذين فرّوا من مدينة ريثيمنو اتجهوا إلى لبنان وسوريا، وعُرِفوا بالمهاجرين الكريتيين.

جد فرح ووالد هلا مُراد التي تهجر من كريت

لعبت المصادفة دورا مهما في الوصول إلى بعض المعلومات الثمينة التي تتعلق بالتعرّف على أول رجُلَين لهما فضل اكتشاف المهاجرين في طرابلس، وهما قبطانا سفينة أبحرت قبل ربع قرن إلى ميناء طرابلس.

يقول أحد القبطانَين: رأيتُ أناسا يبيعون مشروبا ساخنا على عربة، لعله السحلب، وسمعتهم يتحدثون اللغة اليونانية بلهجة كريتية، وكنتُ الوحيد الذي يفهمهم، لكن لهجتهم كانت ثقيلة، إنها اللهجة الكريتية القديمة.

“سوف أنتجُ فيلما عن الحميدية”.. صدفة تصنع عملا وثائقيا

أشرنا سلفا إلى أنّ المخرجة هلا مُراد توظِّف تقنية الميتاسرد (ما وراء السرد) في هذا الفيلم بواسطة وسائل عدة، من بينها وجود فيلمين وثائقيين في بنية الفيلم الرئيسي وهيكله العام، الأول لها وقد رأينا مقاطع منه، والثاني للصحفي والمخرج اليوناني “ديمتري موناساكس”.

كما أنّ المخرجة عثرت على بعض الوثائق مثل الكتب والخرائط وبيانات الولادة والشهادات الشفهية، وما إلى ذلك، وهي كلها تقنيات ميتاسردية سواء قصدت المخرجة أو لم تقصد.

حي عربي في كريت

تؤكد المخرجة في أحد تعليقاتها الصوتية بأنّ ما سمعه القبطانان من بائعي السحلب في المرفأ قد أصبح فيما بعد سبقا لصحفي اتصل به القبطان، وكان لقاء المخرجة به بمثابة المصادفة الثانية، حيث قال “موناساكس” عن أول فيلم أخرجه عن أهالي الحميدية: إن قصة الحميدية واكتشافها نوع من الخيال، إذ كنت أبحث عن معلومات دقيقة منذ عام 1980 م، وبما أنني مؤرخ ومنتج أفلام وثائقية عن يونانيين انتشروا عبر بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، فقد أخبرني بحّار عندما عرف بطبيعة بحثي قائلا: سأعطيكَ معلومات مهمة جدا عن سفينة اعتدتُ أن أعمل فيها، وكان على متنها اثنان من العرب السوريين الشباب اللذين يعملان معنا، وقد سمعتهما يتحدثان اللغة اليونانية الكريتية. وحينما سألتهما كيف تعلمتما هذه اللغة؟ أجابني أحدهم بأنهما تعلما هذه اللغة من أسلافهم الذين فرّوا إلى سورية ولبنان بعد هزيمة الدولة العثمانية التي أمّنت الحماية للعوائل الكريتية المسلمة إثر خسارتها في الحرب العالمية الأولى، وانكماشها ضمن حدود تركيا التي نعرفها اليوم.

ثم يكمل “موناساكس” حديثه قائلا: عندما سمعتهم يتحدثون اليونانية والكريتية انذهلت، وما أدهشني أكثر عن قصة الحميدية أنها لا تعني عائلة واحدة أو اثنتين أو ثلاث عوائل كما يُخيّل إليك، فكل سكان القرية كريتيون، وعندما ذهبت إلى سوريا لأول مرة مكثتُ هناك لمدة 25 يوما، وزرت كل بيت في القرية، وسوف أنتجُ فيلما عن الحميدية، وسيكون ذلك الفيلم هو فيلمي الوثائقي الأول.

رغم كل شيء فإن قصة هؤلاء المهاجرين لم تُكتب في التاريخ اليوناني أو الكريتي أو التركي.

تحتل المادة الأرشيفية المُصوّرة حيزا لا بأس به، فبعد إنجاز هذا الفيلم وعرضه وذيوعه بين اليونانيين وُجهت لأهالي الحميدية دعوات كثيرة من مدراء البلديات الكريتية، واحتفوا بهم في بعض المدن الكريتية التي شهدت هذا النمط من الهجرات القسرية لأسباب دينية.

إضاءات المؤرخين.. رحلة بحثية إلى طرابلس الغرب

استعانت المخرجة هلا مُراد بعدد من الأساتذة والمؤرخين، حيث تحدث الدكتور سهيل زكار عن الثورة التي حدثت عام 1890 م، فقد قُمعت من قبل العثمانيين، لكن القوى الأجنبية تدخلت وأرغمت العثمانيين على ترك الجزيرة، وبدأت محاولات تنصير هؤلاء المسلمين الذين آثروا الهجرة إلى البلدان الإسلامية، مثل سوريا ولبنان وليبيا، لذلك حزمت المخرجة عدّتها التصويرية، ويمّمت وجهها شطر طرابلس الغرب، وأخذتنا في جولة ممتعة في سوق “المشير”، لنلتقي ببعض العوائل الكريتية التي جاءت بصحبة الأتراك بعد هزيمتهم في كريت، لكنهم -بحسب الدكتور محمود الديك- لم يشعروا بالغربة في المدن التي سكنوا فيها، وخاصة في الجبل الأخضر وسوسة اللتين تتمتعان بمناخ جغرافي مشابه لمناخ كريت، فاندمجوا في بيئتهم الجديدة، وصاروا جزءا من لُحمة المجتمع.

لا يمكن الحصول على الجنسية اليونانية من وجهة نظر المخرجة، فمن الصعوبة بمكان المطالبة بالجنسية بعد مرور 125 سنة على التهجير القسري. وعلى الرغم من استحالة استرجاع الجنسية اليونانية، فإن هلا مراد لم تستسلم كليا، فثمة بصيص من الأمل يراودها بين آونة وأخرى لافتتاح شركة إعلامية في كريت للحصول على الإقامة الدائمة أولا، ثم يليها طلب الجنسية اليونانية التي ضاعت منهم في ظل الحرب الدينية بين تركيا واليونان.

من خانيا إلى ريثيمنو.. طريق مليئة بالمفاجآت

ينطوي الفيلم على مفاجآت كثيرة، ففي أثناء رحلة الأخوات من مدينة خانيا إلى ريثيمنو التقت هلا بمصطفى مُراد في الحافلة، وبعد لحظات من الأحاديث العابرة اكتشفت أنه قريبها، وأن والده من الحميدية، وأنّ جدّيهما أبناء عمومة.

فاتن كردي التي تعلّمت اليونانية كي تساعد ولديها على إتقان اللغة

وتأكيدا على التقنية الميتاسردية كانت هلا في تلك الرحلة تقرأ في كتاب “تقرير عن غريكو” للروائي اليوناني الشهير “نيكوس كانتزاكيس”، وهذا سرد لغوي عن المهاجرين يعزّز السردية البصرية للفيلم برمتها.

تتشعّب القصص الفرعية للفيلم، إذ تلتقي هلا وأختها وابنتها بيوسف إبراهيم وزوجته السورية فاتن كردي التي تعلّمت اليونانية كي تساعد ولديها على إتقان اللغة، ونفهم من خلال هذه الزيارة أن المدينة تفتقر إلى جامع يصلي فيه بعض المسلمين الموجودين هناك.

تقوم بنية الفيلم الزمنية على مدى أربعة أيام، فقد رأينا في اليوم الأول تفصيل زيارتهن إلى ريثيمنو وما دار فيها من أحداث ومفاجآت.

شواهد القبور.. أمل المهاجر في استعادة حقه الشرعي

في رحلة اليوم الثاني بمدينة خانيا تلتقي هلا مراد بفاروق، وتسأله عن ما إن كان قد بحث عن جذوره في هذه المدينة، فيسرد لها حكايته التي يمكن أن نوجزها بكلمات قليلة، مفادها أنه ذهب مع ثلاثة شباب آخرين إلى البلدية، لكن المسؤولين لم يرحبوا بهم، لأنهم لم يتقبّلوا فكرة أن يكونوا يونانيين ومسلمين في الوقت ذاته، بل إن الحكومة الكريتية كانت تنظر لهم كـ”خونة”، وهذا ما فعلوه مع وفد مؤلف من عشرين شخصا جاؤوا من مدينة الحميدية بغية البحث عن تاريخ أجدادهم وما خلّفوه في هذه المدينة، لكن الحكومة الكريتية كانت تخشى أن يطالب هؤلاء المسلمون بميراثهم القديم، لذلك أغلقوا عليهم الباب ولم يستمعوا أصلا إلى مطالبهم القانونية.

رغم يأس المهاجرين في استرجاع حقوقهم الشرعية، فإن هلا مراد كانت تفكر بطريقة علمية مغايرة حينما خاطبت فاروق بما معناه: لو كنت مكانك لذهبت إلى مقبرة وبحثتُ في شواهد القبور عن أسماء العائلات المسلمة.

المؤرخ ومسؤول آثار كريت “ميخائيل جيريوذاكيس” الذي التقته مخرجة الفيلم

تحقق المخرجة في ثاني أيام الجولة في خانيا عددا من اللقاءات الحميمية مع أناس كريتيين، من بينهم أنان ذراكاكي، وهي صاحبة مقهى في خانيا، وتسألها عن مسجد المدينة ومنارته الماثلة للعيان، فتخبرها بأن المسجد مغلق، وأنّ المفتاح مع صاحبه الذي يمتلك هذا المسجد كمبنى خاص تركه كما كان عليه من قبل، لكنه لم يقوّضه ويشيّد بدله عمارة حديثة.

كما تلتقي المخرجة في اليوم الثالث بالقبطان “كرياكوس باليس” مكتشف اليونانيين في طرابلس، وتلتقي بالمخرج “ديمتري موناساكس” الذي أنجز فيلما عن اليونانيين في الحميدية، وبالمؤرخ ومسؤول آثار كريت “ميخائيل جيريوذاكيس” الذي أهدى هلا مراد كتابا عن آثار خانيا، ووعدته بأن تقرأه بلغته الأصلية التي سوف تتعلمها خلال سنة واحدة لا غير.

فرح سلامة.. بحث الطالبة عن أصولها اليونانية

على الرغم من ظهور فرح سلامة ابنة هلا مراد في كثير من مَشاهد الفيلم، فإن أحاديثها كانت قليلة ومُوجزة، فهي طالبة وتنتمي إلى الجيل الرابع من المهاجرين، وكانت أمها تخبرها بأنها سورية لبنانية، ولم تذكر أنها يونانية الأصل، وحينما شبّت فرح عن الطوق سردت لها القصة كاملة فعلمت بجذورها اليونانية، وقررت أن تكتب بحثا عن المهاجرين الكريتيين في طرابلس والحميدية وتقدّمه باللغة الإنجليزية أمام الطلبة.

ولعلها كانت محظوظة في الحصول على تأشيرة السفر، فجدّها اليوناني الأصل فارق الحياة ولم يرَ بلده كريت، لكنها تتأمل أن ترى جدتها كريت في ما بقي لها من سنوات قليلة.

فرح سلامة هي طالبة تنتمي للجيل الرابع من المهاجرين، قررت أن تقدم بحثا عن المهاجرين الكريتيين أمام الطلبة

كثيرة هي شخصيات هذا الفيلم الذي تبلغ مدته 89 دقيقة، ولا يمكن الوقوف عندها جميعا، لكننا سنكتفي بالإشارة إليهم، وهم إبراهيم الشيخ الذي تحدث عن حنين الكريتيين إلى بلدهم، وشرشور الذي استقر في الحميدية، وأشار إلى سكن المهاجرين الكريتيين في “خان التماثيلي”، وكيفية تعلّمه اللغة اليونانية خلال ثلاث سنوات لأنها لغة الأجداد المدفونين هناك، وأبو أدهم أحد وجهاء قرية الحميدية الذي أراهم أقدم خريطة فرنسية عن تاريخ المنطقة، وفيها أرقام العقارات في طرطوس والحميدية ومساحات البيوت وعدد الغرف، وخالد إبراهيم الذي يعرف حدود الحميدية القديمة، وعصمت حسين صانع البُسط، وصاحب أقدم نول توارثه من ثلاثة أجيال حتى وصل إليه، وعبد الله مراد الذي أشار إلى أن المهاجرين أغلبهم مزارعون، لكنهم ذابوا في المجتمع، وأصبحوا جزءا من نسيجه العام.

هلا مراد.. عطاء دفاق للمخرجة الشاعرة

تختم هلا مراد فيلمها بطريقة ذكية، إذ تقول: كنت طفلة تحلم بكريت حين أسمع الكبار في عائلتي يدندنون بحنين كبير أغنيات وأشعار الجزيرة. زيارتي لكريت حققتُ فيها شغفي الخاص، تأملتُ أن الباقي من العمر ربما سيكون هنا في كريت، نعم، ربما هنا في كريت.

بقي أن نقول إن هلا مُراد هي مخرجة ومنتجة وشاعرة سورية لبنانية من مواليد طرابلس مقيمة في دبي، وهي حاصلة على شهادة الماجستير في اللغة العربية عن أطروحتها الموسومة بعنوان “الثورة في شعر سميح القاسم”، كما أنجزت عددا معتبرا من الأفلام الوثائقية.

ومن بين أفلامها “كي لا يبقوا في عزلتهم” و”ملتزمات بالفن” و”مُخيّم النهر البارد” و”مُعجزة طرابلس” و”مناضلة المغرب آسية وديع” و”مُناضلة الجزائر زهرة ظريف” و”العلاج بالتحدّي” و”شوقا للركن الخامس” و”عالَم الخانقاه” و”أحفاد كريت” الذي يُعدّ تطويرا لفيلم “اليونانيون العرب” وتوسيعا لمادته الحوارية.

كما أصدرت هلا مجموعتين شعريتين، وهما “سيد الذكور” و”درس الحرية”، إضافة إلى كتاب “هلا فيس توك” الذي تؤكد فيه على شعار “لن يسقط الورق”.


إعلان