هلال رمضان 2025.. اتفاق عربي على بداية الشهر، واختلاف على انتهائه

منذ خلق الله تعالى الأرض والسماوات، والشمسُ والقمر آخذان بالدوران في نظام أبدي دقيق لا يشوبه خطأ، وذلك كما قرر لهما الله عز وجل في قرآنه (الشمس والقمر بحسبان)، فالقمر الذي هو مجرد جرم سماوي كروي يدور حول الأرض كل 29.53 يوماً بما يعرف بالدورة الاقترانية أو كل 27.32 يوما وهي فترة الدورة النجمية له حول الأرض. ويقابل القمرُ الشمسَ دوماً بنصفٍ مُضاء، ويكون نصفه الآخر دوماً مظلماً إلا في حالتي الخسوف الكلي والجزئي حين يكتمل ظلامه أو يكاد.

أطوار القمر أثناء دورانه حول الأرض، ويلاحظ حركة الململة الاهتزازية بسبب شكل مدار القمر البيضوي

وفي الوقت الذي يدور القمر فيه حول الأرض يتشكل له ما يعرف بأطوار القمر التي هي عبارة عن ذلك الجزء المرئي من النصف المضاء للقمر كما يراه أهل الأرض. فإذا وقع القمر أمام الشمس مباشرة فإننا لا نرى من نصفه المضاء شيئاً فيسمى حينها القمر محاقاً، ولكنه بعد سبعة أيام سيكون ناحية الجنوب وسنرى من النصف المضاء نصفه (نصف النصف أي ربع القمر) وهو ما يعرف بطور التربيع الأول، في حين أنه بعد 14 يوماً سيكون مواجهاً للشمس من ناحية الشرق وسنرى كل النصف المضاء بما يعرف البدر.

وحيث إن حسابات الفلك دقيقة كل الدقة حتى أجزاء الثانية الواحدة، فإن المشكلة التي لا تزال الأمة العربية والإسلامية تعيشها في اختلاف مواعيد بدايات الأشهر الهجرية لأكثر من يومين يمكن أن تحسم علمياً إذا ما عرفنا كيف نستغل هذه المعرفة العلمية وإخضاعها للتعريفات الشرعية ذات العلاقة.

رمضان 2025م/ 1446هـ .. هل يتوحد الصائمون؟

يتولد هلال رمضان 1446هـ/2025م فجر يوم الجمعة 28 فبراير/شباط 2025 في تمام الساعة 03:44 بتوقيت مكة المكرمة، وهذا يعني أنه سيمكث في السماء لمدة 14 ساعة و 39 دقيقة قبل غروب الشمس هناك.

مخطط يسمح بمعرفة موضع القمر في السماء بعد غروب الشمس (لمدينة عمان- الأردن)

ويغيب الهلال يومها (في مكة المكرمة) بعد غروب الشمس بـ33 دقيقة فقط، ما يعني صعوبة رؤيته إلا بالتلكسوبات من دول المشرق العربي (انظر الخريطة في الأسفل)، وذلك لضآلة قوس نور الهلال وقربه من الأفق الغربي الملوث -عادة- بالغبار وأدخنة العادمات (الضبخن) والتي تتسبب -كما هو معلوم- بامتصاص أشعة قرص الشمس وقت الغروب فتتيح لنا رؤية الشمس بلا حاجة إلى فلاتر ومرشحات ضوئية.

في حين يمكن وبواسطة التلسكوبات والمناظير، وربما إن كان الطقس صافيا والسماء شديدة النقاء أن يرى بالعين المجردة من مناطق وسط القارة الأفريقية وأكثر الدول العربية الأفريقية، كليبيا والجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا.

تقاطع بعض أقواس الرؤية الملونة مع الدول العربية، يعني احتمالية رؤية الهلال بالتلسكوبات على الأقل

عيد الفطر.. خلاف محتمل في عدد أيام الصيام

وفي يوم 29 من رمضان، والتحديد يوم السبت 29 مارس/آذار، سيحدث الخلاف الكبير على ما يعرف في المجتمع الفلكي بشهود المستحيل. فالقمر الذي سيغرب بعيد الشمس في مكة المكرمة بـ4 دقائق فقط (غروب حافته السفلى التي يتكون منها الهلال)، وهو ملاصق للشمس نسبيا ، إذ سيكون مرتفعا عنها درجة واحدة فقط، أي بمقدار سمك الإصبع الصغير.

خريطة احتمالية رؤية هلال العيد 2025، التي تشير إلى استحالة إمكانية الرؤية ولا بالتلسكوبات

وفي العرف الفلكي، يحكم على وقوع القمر بهذا القرب من الشمس بأنه لا يزال في طور المحاق، أي لا نور له، إذ لم يتشكل الهلال بعد. ولا يمكن لأي نوع من التصوير الفلكي وحتى التصوير الرقمي التكديسي (تصوير نهاري يكدس أكثر من 300 صورة فوق بعضها ليظهر هلال نحيل، لا يعتد به في إثبات الشهور)، ومن باب أولى فإنه لا يمكن رؤيته بالتلسكوبات البصرية، والعين البشرية بالطبع.

والمفارقة أن التصوير الرقمي هذا يمكنه أن يرى القمر في وسط النهار بالقرب من الشمس، سواء قبل الاقتران أو بعده، وبذلك لا يعود دليلا يعتد به في إثبات أو نفي دخول الشهر، ولا قمية مضافة للحسابات الفلكية الدقيقة التي تخبرنا عن بدء الدورة القمرية الجديدة حول الأرض بالدقيقة والثانية من كل شهر جديد. 

لكن بعض التقنيات الحديثة منه، تستطيع تصوير الهلال بعد الغروب، بما يشبه التصوير الفلكي مع فارق عدد الصور الملتقطة والمكدسة، وهو موضوع بحث وخلاف بين الفلكيين.

الهلال الرقمي، يتم تصويره بواسطة كاميرا :سي سي دي” رقمية ومن ثم تكديس الصور الكثيرة فوق بعضها

أما “شهود المستحيل”، فهو مصطلح أطلقه أحد أساتذة الفلك الراصدين الذين يرفضون أن يتقدم شخص أو أكثر في مثل ظروف الهلال هذا فيشهدون برؤيته، مخالفين بذلك كل قوانين العلم والطبيعة والأرصاد الفلكية. وللأسف فإن شهادتهم هذه تقبل دون رجوع إلى علماء الفلك المختصين.

فإن لم يظهر شهود المستحيل أولئك، أو جاءت السماء غائمة وحالت بينهم وبين ما سيدّعون، فإن شهر رمضان سيكتمل ثلاثين يوما، وسيكون يوم الأحد آخر أيامه، ويوم الإثنين هو غرة شهر شوال 1446هـ وأول ايام عيد الفطر السعيد.

الأردن.. الصوم وفقا للرؤية المطابقة للحساب

منذ سنوات، بدأ الأردن ممثلا بدائرة الإفتاء العام ولجنتها الشرعية والفلكية باعتماد رد شهادة الشاهد إن خالفت الحساب الفلكي، وقبولها إن كان الحساب الفلكي ينبئ باحتمالية رؤية الهلال ولو بالتلسكوب من أية بقعة في العالم العربي.

سماحة الدكتور أحمد الحسنات مفتي المملكة الأردنية الهاشمية

وفي حديثه في الندوة التي نظمها الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك بعنوان “هلال رمضان بين الشريعة والفلك 1446هـ” يوم السبت 22/ 2/ 2025، قال الدكتورأحمد الحسنات مفتي المملكة الأردنية الهاشمية “إن دائرة الإفتاء الأردنية -وكذا باقي الدول العربية- لم تصرح أن أيا منها يعمل بالحسابات الفلكية فقط، لكن الأردن -على الأقل- يوافق الرؤية إن كانت عربية ضمن منطقة إمكانية الرؤية حتى لو لم تكن من الأردن، باعتبار أن القمر يكون قابلا للرؤية في مكان ما ضمن منطقة الاشتراك في جزء من الليل وجزء من النهار”.

وعليه، فإن الأردن لن يعلن الإفطار إلا بعد اكتمال الشهر ثلاثين يوما تحقيقا لمعيار الرؤية المطابق للحساب الفلكي والذي لا يتحقق إلا يوم الأحد 30 رمضان 1446هـ، وبذلك سيكون عيد الفطر في الأردن يوم الإثنين 31 مارس/آذار 2025.

حركة القمر في السماء

يتحرك القمر في السماء كل يوم بمعدل 13 درجة ناحية الشرق، وفي الوقت نفسه فإنه يغيب في الأفق الغربي نتيجة لدوران الأرض حول نفسها، وبين اليوم واليوم الذي يليه يتأخر مغيب القمر بمعدل 50 دقيقة كل يوم، لكنه بسبب الحركة اليومية للأرض فإنه يطلع ويغيب كل يوم كسائر النجوم والكواكب.

فلو أن الهلال شوهد في الغرب بعد غروب الشمس ثم راقبناه فإنه سيغيب نتيجة لدوران الأرض حول نفسها، وإذا ما عدنا إليه في اليوم التالي فإننا سنراه قد تقدم ناحية الشرق في دورته حول الأرض ليغيب خلف الأفق الغربي بعد فترة أطول من يومه السابق.

وهكذا سيستمر القمر يتقدم كل يوم نحو الشرق حتى يطلع في اليوم الرابع عشر من الشرق مع مغيب الشمس في المغرب. ثم يُكمل دورته حول الأرض للنصف الثاني من الشهر متأخراً 50 دقيقة في شروقه كل يوم عن يومه السابق، ثم نرى هلالاً أخيراً وقت الفجر ناحية الشرق قبل طلوع الشمس ليستتر بعدها في نور الشمس لليلة أو اثنتين ويعود يطلع مرة أخرى من الغرب معلناً بداية الشهر الجديد.

الهلال وتولّده.. الفرق بينهما

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته” (أخرجه الحاكم وأحمد والدارقطني)، وقال “إن الله جعل هذه الأهلة مواقيت فإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا” (أخرجه الطبراني). وقال “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غُم عليكم فاقدروا له” (رواه مسلم).

فأصل بدء العبادة كما يرى كثير من الفقهاء هو رؤية الهلال، لكن بعضاً من العلماء المحدثين الذين علموا بأن الحساب الفلكي شديد الدقة رأوا بأن يؤخذ الحساب أساساً لهذا البدء.

لا تزال الأمة العربية والإسلامية تعيش اختلاف مواعيد بدايات الأشهر الهجرية

وهنا يجب أن نقف وقفة توفيقية هامة بين هذين الرأيين إذ إن ثمة مشكلة في الفهم يجب توضيحها خصوصاً عند أهل الفقه المحدَثين الذين يقفون إلى جانب الفلك. فالحساب الفلكي نوعان أحدهما يحسِب وجود القمر في السماء بعد غروب الشمس، والثاني يحسب وجوده وإمكانية رؤيته.

وحيث إن الثاني أقرب إلى آراء جميع الفقهاء من حيث إنه يحسب وجوده (حساب فلكي) وإمكانية رؤيته (رؤية شرعية) فإن الجهد الذي يجب أن يُبذل يجب أن يكون في هذا الاتجاه التوفيقي. وهذا هو الاتجاه التوحيدي الذي يسعى إليه أهل الفلك الشرعيون المطلعون على كل الخلافات الناجمة عن الآراء الفقهية المختلفة من حيث اعتماد الحساب أو اعتماد الرؤية.

 فالقاعدة الفلكية التي اعتمدت على تفادي تلك الأخطاء التي لطالما وقعت فيها الدول العربية والإسلامية، تنص على أن اختلاف المطالع على مستوى الكرة الأرضية لا يمكن أن يتعدى يومين كأقصى حد، بل ربما تشترك كامل الكرة الأرضية في رؤية واحدة ويوم واحد لكنها حالة نادرة. أما ما نراه من اختلاف في بدء يوم العبادة لثلاثة أيام أو حتى أربعة أحياناً كما حدث في عام 1420هـ، فإن ذلك مرفوض في القواعد الفلكية التي تعتمد رؤية الهلال أساساً لها.

ماذا نريد بالهلال؟

فما المقصود بالهلال؟ وهل جاءت كلمة الهلال في الأحاديث والآيات لتدل دلالة مباشرة على ذلك القوس الضوئي الأبيض من القمر الذي اعتاد الناس أن يروه ويطلقوا عليه اسم هلال، أم أن الكلمة تحتمل المعنى المجازي للقمر سواء أكان شكله هلالاً أم لم يكن إنما مجرد وجوده في السماء بعد غروب الشمس بافتراض حدوث اجتيازه لحظة الاقتران مع الشمس، وهما الشرطان الرئيسيان للمعيار الذي تعتمده بعض التقاويم العربية وعلى رأسها تقويم أم القرى الذي يعتمد مكة المكرمة نقطة الأصل لحساباته؟

رسم توضيحي لمفهوم الاقتران أو ولادة الهلال

وهل نحن أصلاً اجتزنا مرحلة أن لا يكون القمر موجوداً في السماء، المرحلة التي عشنا معها سنين نسمع إعلانات بدء شهور العبادات حتى مع عدم وجود القمر المحاق في السماء بعد، حين كان يخرج من يدعي رؤية هلال غاب قبل الشمس، ثم لا تجد شهادته إلا القبول والتصديق بحجة أنه مسلم عدل؟

فإن كنا قد اجتزنا هذه المرحلة وأصبحت شهادات مثل هذا الشاهد الذي يرى هلالاً غير موجود تُردّ باعتبار أن الحسابات الفلكية تنفيها، وأن الفقهاء والقضاة يأخذون بهذا الرأي، فإننا سنعود إلى المشكلة الأولى، ألا وهي تعريف الهلال، وما الذي يجب أن يُبتدأ الشهر القمري برؤيته.

كسوف الشمس.. اقتران مرئي ينبئ بدخول الشهر القمري الجديد حسابيا

 فما الفرق بين المصطلحات الهلالية أو القمرية التالية: الاقتران المركزي والاقتران السطحي، والمُحاق وولادة الهلال والقمر الجديد والاستتار والهلال، وهل هناك مترادفات بينها، أم أن كلاً منها له وصفه الخاص؟

الاقتران وولادة الهلال .. مصطلحان لنفس اللحظة

يمكن القول فلكياً إن مصطلحات الاقتران والمحاق وولادة الهلال والقمر الجديد هي أربع مترادفات لغوية لنفس الظاهرة في الحدث أو التوقيت، وهي تعني أن تلتقي الأرض بالقمر والشمس على خط واحد من دون شرط حدوث كسوف كلي أو جزئي، وهي لحظة عالمية واحدة إذا اعتبرنا هذا الاصطفاف اصطفافاً مركزياً، أي مركز الأرض ومركز القمر ومركز الشمس (وهو اصطفاف مجازي، وذلك بسبب ميل محور القمر عن دائرة البروج مما لا يسمح له اللقاء بهما على خط واحد كل شهر إلا في حالة الكسوف، إنما يقع عادة فوق الشمس أو تحتها)، وهي لحظة يمكن الحصول على وقتها من أي مرجع فلكي في العالم.

الهلال هو أول قوس يراه أهل الأرض من نصف القمر المضاء، وما قبل ذلك فهو محاق

أما إذا حسبنا الاقتران نسبةً إلى مكاننا فوق سطح الأرض لا نسبةً إلى مركز الأرض فإن ذلك الحساب سيختلف بين مكان وآخر على الكرة الأرضية ويدعى باسم الاقتران السطحي لا الاقتران المركزي، وله قيم تختلف تماماً عن القيمة المركزية الموحدة عالمياً (إلا إن وقع المكان على نفس خط مركز الأرض لحظة الاقتران السطحي)، وفيه يكون القمر في طور المحاق أيضاً وتنطبق عليه المصطلحات الأخرى لكنها بالنسبة إلى مكان معين فقط، ويمكن التمثيل له بالكسوف الكلي للشمس الذي يمر بالتتالي على مناطق الأرض التي تشهد ذلك الكسوف ولا يراه الناس جميعاً في اللحظة ذاتها، إذ هو اقتران سطحي، ولو أنهم رأوه جميعاً في اللحظة ذاتها لقلنا إن الكسوف اقتران مركزي.

ما هو الاستتار؟

الاستتار فهو مصطلح عرفه الفقهاء والفلكيون العرب الأوائل وكانت العرب تستخدمه حين كانوا يرصدون القمر كل يوم قبيل الفجر ثم لا يعود يُرى ناحية الشرق وقت الفجر إنما يستتر في ضوء الشمس لليلة أو اثنتين على الأكثر ثم بعدها يظهر من ناحية الغرب كهلال جديد يُرى بُعيد غروب الشمس معلناً بدء الشهر القمري الجديد.

وقد ذكر ابن قتيبة الدينوري في كتابه المشهور “الأنواء في مواسم العرب” تعريف الاستتار السابق وتحدث عن الهلال بأنه إذا رُئي بالغداة في المشرق فإنه لا يمكن أن يرى بعد الغروب في المغرب بل إنه إما يستتر لليلة أو لليلتين بعد ذلك (وهي حالة لطالما تكررت عند بعض الدول العربية والإسلامية التي كانت تعلن ثبوت هلال الشهر الجديد في ذات اليوم الذي كان الهلال مرتفعاً في السماء فجراً).

صورة الهلال من محطة الفضاء الدولية على ارتفاع 400 كيلومتر

 غير أن جميع تلك المصطلحات، كما هو واضح من صيغ الأحاديث والآيات، ليست هي المقصودة بالهلال، فالهلال في لغة العرب سمي هلالاً لأنه يهل أي يُقبل، وكيف يقبل ما لا نورَ معه؟ فيجب أن يكون الهلال مضيئاً لا معتماً، وهو ذلك القوس الأبيض من القمر الذي يُرى في كل بداية شهر قمري جديد باختلاف أحجامه التي تتفاوت بين شهر وآخر بشكل طبيعي. فليس للهلال مكان واحد يطلع منه كل شهر على الكرة الأرضية ولا حجم ثابت، فربما نراه في مكان ما هذا الشهر رفيعاً نحيلاً لا يكاد يُرى إلا بالتلسكوبات، ونراه في الشهر القادم سميكاً بحيث يعتقده العوام هلال ليلتين لا هلال ليلته الأولى، وكل ذلك من عدم معرفة الناس بحقيقته.

ثلاثة شروط لرؤية الهلال

نحن إذن نبحث عن الهلال لا عن قمرٍ لا إضاءةَ له، ولو كنا نفعل ذلك لرصدنا القمر بواسطة الأشعة تحت الحمراء ولرأينا حينها جسماً بهيئة لا تشبه في أي حالاته شكل الهلال، أو لحسبنا وجوده دون الحاجة إلى رصده.

إذن، فالفكرة التي نجادل لأجلها هي فكرة وجود الهلال لا وجود القمر، لتصبح شروط رؤية الهلال ثلاثة هي: حدوث الاقتران (الاقتران السطحي) قبل غروب الشمس، وغروب القمر بعد غروب الشمس، وابتعاد الهلال مسافة تسمح للراصد بأن يراه من أي مكان في المنطقة العربية أو العالمية التي تشترك معها في معظم الليل، وذلك بإحدى أدوات الرصد البصرية التي تعتمد الأشعة المرئية والألوان الطبيعية لا الأشعة غير المرئية التي ترينا جسم القمر وليس هلاله، وهذه الأدوات هي العين المجردة والمنظار والتلسكوب والكاميرا التي يمكن أن تصوره في تلك اللحظة. ونؤكد هنا.. “يراه من أي مكان في المنطقة العربية أو العالمية التي تشترك معها في معظم الليل“.. فلا بد من الاشتراك في معظم الليل لا جزء منه، لأننا حينها سنكون مشتركين مع أمريكا في جزء من الليل طوال فصول السنة، بيد أننا لا نستطيع أن نجعل مطلعنا هو ذات مطلع أمريكا التي تبعد عن الدول العربية بين 6 و9 ساعات، فنهارنا ليل عندهم ونهارهم ليل عندنا، فلا يستقيم توحيد المطالع هنا.

أقل مسافة بين القمر والشمس شوهد عندها الهلال بعد الغروب كانت 7.6 درجات، ويمكن رؤية كوكب الزهرة بالقرب منه

فإن تحققت هذه الشروط في القمر الذي سنرصده، فإننا بذلك نكون قد وُفقنا وألّفنا بين أقوال العلماء أصحاب رأي شرط الرؤية وبين العلماء أصحاب رأي الأخذ بالحساب، لأننا سنكون حينها واثقين بأن أية شهادة ستُدلى بشأن إثبات رؤية أي هلال ستكون موافِقة لإجماع الفلكيين والفقهاء وستكون صادقة دون أدنى شك، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى فإن أصحاب القول من الفقهاء والقضاة المسؤولين عن الإعلان للناس عن تحري هلال الشهر الهجري الجديد لن يعلنوا ذلك إلا بعدما يكون القمر موجوداً حقاً في السماء وقابلاً للرصد البصري، وحينها فإننا سنغدو مستيقنين بأن الأمة العربية والإسلامية لن تختلف في بدء يوم عبادتها عن أكثر من يومين (بسبب ابتعاد أقطار الأرض عن بعضها البعض وعدم اشتراك أقصاها وأدناها في معظم ليل واحد)، وبذلك سيتحد المسلمون في مختلف أقطار العالم في اليوم التالي بالعبادة نفسها التي بدأها بعضهم قبل يوم لاختلاف مطلعهم الشرعي لا لاختلاف أهوائهم. وسيترتب على هذا أن تصوم الدول العربية بكاملها في يوم واحد إذ إن مطلعها جميعاً واحد وما ينطبق على أولها سينطبق على آخرها، ما لم تتدخل الأهواء الشخصية أو التجاذبات والمصالح السياسية وربما العقائدية فيختلفون.

مجموعة من هواة الفلك في الأردن يرصدون هلال العيد

وأفضل مثال يمكن أن يُضرب في مثل هذا التعاون الفلكي الشرعي لرؤية الهلال بمعياره ذي الشروط الثلاثة هو ما تقوم به لجان رصد الأهلة بجمهورية باكستان الإسلامية حين تتوزع هذه اللجان التي تضم علماء فلك وفقهاء وقضاة على مدن باكستان الرئيسية المختلفة لترصد الهلال في ليلته الأولى التي يحددها الفلكيون الذين يعتمدون الشروط الثلاثة، فتخرج اللجان بناء على ذلك الأمر وغالباً ما يكون ذلك يوم التاسع والعشرين من الشهر القمري الذي بدأ في أوله اعتماداً على الرؤية لا على التقويم المدني الحسابي، فإن رأوا الهلال في تلك الليلة وإلا فإنهم يكملون العدة ثلاثين، ومع ذلك فإنهم يعودون يوم الثلاثين ليرصدوا الهلال ويتأكدوا من وجوده حتى يتيقنوا بأنهم ليسوا في يوم التاسع والعشرين مرة أخرى.

إحدى لجان تحري الأهلة في ماليزيا

وكذا تفعل المملكة المغربية التي تتميز بأكثر عدد لجان أهلة في العالم، إذ يفوق عدد لجانها الـ200 لجنة موزعة في جميع أرجاء المملكة، ولا يصدر قرار الصوم أو الإفطار إلا بعد ثبوت رؤية الهلال في تلك اللجان التي تضم فلكيين وشرعيين وأصحاب خبرة في رصد الأهلة.

أطوار القمر.. يسألونك عن الأهلة

ولكن لماذا يختلف شكل القمر بين الليلة والأخرى من كل شهر؟ هذه الأشكال تُدعى أطوار القمر، وهي المحاق والهلال والتربيع والأحدب والبدر، وسبب تشكلها هو دوران القمر حول الأرض وتعرضه لأشعة الشمس أثناء ذلك، وبحسب الزاوية التي ينظر فيها سكان الأرض إلى النصف المضاء من القمر، فإنهم يرون الطور في ذلك اليوم، إضافة إلى قرب القمر من الأرض وبعده عنا وقت طور الهلال إذ يؤثر ذلك في حجمه المرئي ونسبة إضاءته.

أطوار القمر السبعة الرئيسة

فنصف القمر دوماً مضاء بأشعة الشمس، فإن كان الطور محاقاً جاء هذا النصف مواجهاً للشمس بعيداً عن أهل الأرض، بل يقابلهم النصف المظلم، لذا لا يرون من القمر شيئاً، فهو بذلك محاق.

أما إن كان الطور بدراً، فالقمر يقابلنا بنصفه المضاء، ولا نرى نصفه المظلم لأنه في الناحية البعيدة من القمر.

وعندما يكون القمر في طور التربيع يرينا من نصفه المضاء نصفه ويرينا من نصفه المظلم نصفه، فنحن نرى ربعاً مضاءً فقط فيسمى تربيعاً.

وأما الهلال فهو أول قوس يراه أهل الأرض من نصف القمر المضاء، وما قبل ذلك فهو محاق حتى وإن كان القمر بعيداً عن الشمس، فهو لا يزال في استتار، ولا يمكن نعته بأنه هلال ما لم يظهر هذا القوس الضوئي بأية وسيلة بصرية كانت.

كيف نرى الهلال؟

ربما يظن بعض الناس أن عملية رصد الأهلة هي بتلك السهولة التي يُرى فيها الهلال بعد يوم أو اثنين من بداية الشهر، فكثيرون يظنون أن رؤية الهلال ليس لها وقت محدد أو اتجاه معين، وربما كانوا من أكثر الناس طعناً بأهل الفلك الذين يرصدون ويحسبون إمكانية رصد ورؤية الهلال والذين هم أكثر الناس خبرة بهذا الموضوع. وفيما يلي شروط رصد الهلال الجديد التي يتبعها الراصدون المحترفون ويمكن لأي إنسان إذا راعاها أن يحاول رصد الأهلة بنفسه:

البحث عن الهلال باستعمال وسائل متعددة أهمها العين والتلسكوب والمنظار و”مخطط الصبار-الضليع”
  •  أن يكون الهلال موجودا وقابلاً للرصد.
  •  أن تتوفر لدى الراصد خريطة تحدد موقع القمر بالنسبة للشمس ووقتي غروب الشمس وغروب القمر مثل مخطط “الصبار- الضليع” الذي يحدد موقع الهلال  في كل لحظة بعد غروب الشمس.
  •  يفضل البحث بواسطة التلسكوبات، لكن المناظير الفلكية (الدربيل) هي الوسيلة الأمثل في هذه المهمات التي تبحث عن الهلال الخافت جدا.
  •  أن ينتظر الراصد نحواً من عشر دقائق بعيد الغروب حتى يقل وهج أشعة الشمس وتبدأ احتمالية رؤية الهلال.
  •  أن يبحث الراصد عن الهلال ناحية الغرب فوق الشمس أو إلى يسارها بحسب موقع الهلال في خريطة ذلك الشهر.
  •  أن لا يستمر الرصد بعد الغروب لأكثر من ساعة، فبدوران الأرض حول نفسها سيغيب القمر القريب من الأفق كما الحال مع بقية الكواكب والنجوم.
من أجل رؤية الهلال بعد غروب الشمس، يجب أن تتوفر مجموعة عناصر أساسية

أما من كان يعتقد بأن القمر يستمر بالظهور حتى منتصف الليل كما عودتنا بعض الدول العربية أن نسمع إعلاناتها بثبوت الشهر الجديد في منتصف الليل، فليس ذلك إلا شكل من أشكال الاتفاقات السياسية المتأخرة بين الدول.

قيم دنيا لرؤية الهلال

  • أقل مُكث للقمر شوهد فيه الهلال بعد غروب الشمس 29 دقيقة.
  • أقل عمر للقمر شوهد فيه الهلال بالعين كان 14 ساعة و48 دقيقة وبالتلسكوب 11 ساعة و42 دقيقة.
  • أقل مسافة بين القمر والشمس شوهد عندها الهلال بعد الغروب كانت 7.6 درجات.

معايير رؤية الهلال.. كيف يختلف الفلكيون

بالنظر إلى المعايير المختلفة التي تحدد إمكانية رؤية الهلال عبر التاريخ وحتى وقتنا الحاضر أمثال معايير البابليين والفلكي العربي البتاني ومرصد جنوب أفريقيا والعلماء المحدَثين مثل إلياس يالوب.. نرى أن المفهوم المشترك بينها هو أنها تبحث عن ذلك الهلال الذي يُرى بالعين أو بالوسيلة البصرية فقط. فهي جميعاً تبحث إمكانية رؤيته يوم التاسع والعشرين أو حتى يوم الثلاثين من الشهر القمري.

أما أن نعتمد معياراً يخالف كل معايير الأمم باعتماد شخص يتقدم للشهادة دون التحقق من صحة ما يدلي به لمجرد أنه مسلم، فذلك معيار لا يفي أبداً بغرض الرؤية ولا يحققها، بل إنه يتيح الفرصة للمشككين بالادعاء على الفلك الحديث بالخطأ وعدم الدقة، وهو العلم الذي أوصل مركبات الفضاء إلى أهدافها في المجموعة الشمسية دون تأخير، وحسَب لنا مواقيت الصلاة بكل دقة، وحسب لنا مواعيد الخسوف والكسوف بالثانية، فكيف نسمح لإنسان بشر خطؤه وارد جداً بأن يشكك بما يحسبه الحاسوب لمعادلات فلكية وضع الله تعالى نواميس حركتها وسيرها؟

ترد شهادة الشاهد إذا خالفت الحسابات الفلكية بأن القمر قد غرب قبل غروب الشمس كما في قرارات مؤتمرات الأهلة

فهل يُعقل إذاً أن نترك الأمر مفتوحاً لأيٍ كان بأن يدّعي ما ينفيه العلم الدقيق، وهل يمكن لأي إنسان مهما بلغت دقته أن يفوق الحاسوب في دقته وحساباته، خاصة بعد هذا التقدم الهائل في تكنولوجيا المعلومات الذي لم يترك مجالاً إلا وأبدع فيه؟!

معيار الحساب الفلكي

غير أن معياراً آخر يمكن اعتماده دون الحاجة إلى كل هذه التعقيدات والشروط الصعبة لرؤية الهلال، هو معيار الحساب الفلكي، على غرار حساب أوقات الصلاة، فتركيا على سبيل المثال تعتمد موعد الاقتران لإعلان بدايات الشهور القمرية في بلادها، وهو رأي فقهي يعتمد الحساب وفقاً لفهم الأحاديث الواردة بنص “اقدروا له”، وعليه فقد أصبح موعد الصيام كبقية مواعيد الصلاة يكتب على التقاويم الورقية والإلكترونية مسبقاً، ولا حاجة فيه لجماعات ولا لجان تحرٍ ولا لمحاكم تفتح أبوابها إلى قريب منتصف الليل منتظرة شاهداً ليس موجوداً سيأتي للإدلاء بشهادة لا يمكن أن تتأخر ساعة بعد الغروب؛ محاكم تنتظر القرار السياسي لا الرؤية ولا الشهود.

لقد أصبح هلال رمضان ومن بعده هلال العيد أكثر تسييساً من قضاياً تمس كرامة الأمة لا يوليها بعضنا من ساسة العرب اهتماماً.

الرؤية أم الحساب؟

لا شك في أن الله تعالى قد أمرنا عبر آيات القرآن الكريم ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم عبر أحاديثه الشريفة بأن نتحرى الهلال لبدء مواقيتنا التعبدية، فرؤية الهلال هي الأصل (كما عند أكثر الفقهاء)، لكننا لا نبحث عن هلال غير موجود، ولا عن قمر مُحاق لم يولد له هلال بعد، إنما نبحث عن ذلك القوس الضوئي من القمر والمعروف عند كل الأمم باسم الهلال ليكون هو علامة بدئنا للشهر، مع ضرورة رد أي شهادة بصرية تدّعي رؤية الهلال قبل تولّده أو بُعيد ذلك بوقت لا يكفي حسب المعايير الفلكية الحديثة برؤية الهلال. وهنا يكون الأولى التوفيق بين أصحاب القول بالأخذ بالحسابات الفلكية وأصحاب القول بالأخذ بالرؤية من الفقهاء والعلماء، وبذلك يمكن الحصول على تقويم قمري يمكن اعتباره تقويماً مدنياً كذلك.

وفي المقابل، فالحساب الفلكي الذي يعتمد على وجود الهلال فوق الأفق الغربي بعد غروب الشمس حتى وإن كان لا يرى من المنطقة العربية (كما في فتوى مجلس الأوروبي للبحوث والإفتاء) فإنا هو رأي فقهي معتبر، وهو أيسر -في وجهة نظر بعض العلماء- في وضع تقويم هجري طويل الأمد، بعيدا عن خلافات الرؤية التي لا تنتهي.

رمضان كريم، وعيد فطر مبارك.


إعلان