“وُلد في غزة”.. حكايات أبناء الحرب التي ترويها الأجساد والذكريات

كان منصور يركض مع ابن أخيه وابن عمه، بينما القذائف الإسرائيلية تنهال عليهم من السماء التي غطى الرماد زرقتها الصافية، فدفعهم منصور أمامه ليختبئوا، وطمأنهم ألا يقلقوا عليه فهو سريع في الجري، لكن القذائف التهمت أجسادهم وماتوا أمام عينيه مع من ماتوا، وبقي منصور حيا وشاهدا على الحكاية التي نجا فيها من الموت، لكنه خسر عائلته، وحمل أثرا غائرا من كسور وشظايا وجروح لا تزال محفورة في جسده الصغير.

ويروي حمادة صديق منصور حكاية أخرى عن القذائف التي اخترقت جسده هو الآخر، ويكشف لنا عن صدره ليشير إلى موضع الشظايا المستقرة في منتصف الصدر، فهي لم تنزع من جسده حتى الآن، لأن الأطباء يخشون نزعها خوفا على حياته.

تلك الأجساد الطفولية وثيقة إنسانية سجلت عليها الحربُ وحشيتَها بأبشع الطرق وذكرى لن ينساها الطفلان، بل هي المجاز الحرفي للحرب التي تستقر بأنيابها في ذاكرة الجسد الفلسطيني، وكأنها الموت المحتوم. إذ لم يتجاوز منصور وحمادة 12 عاما تقريبا، ومثلهما عشرات الأطفال في نفس العمر أو أصغر، هم أبطال الفيلم الوثائقي “وُلِد في غزة”.

الطفل منصور يكشف عن صدره ليشير إلى موضع الشظايا فيه

ما تحفظه ذاكرتنا الجمعية عن مدينة غزة أنها مسرح أبدي للموت والحرب الدمار الشامل، وهي الهدف الدائم الذي تتعمد قوات الاحتلال الإسرائيلي نسفه وتدميره لهدف أكبر، وهو تهجير أهل غزة وإبادتهم من أرضهم، ليسهل الاستيلاء عليها.

عمل “هيرنان زين” مراسل حرب، وغطى أحداث غزة 2014، ثم انتقل من عمله الصحفي، وقرر أن يصور فيلمه الوثائقي الرابع “وُلد في غزة” (Born in Gaza)، توثيقا لما رآه بعينه على الجانب الفلسطيني في مدينة غزة من دمار وإبادة واختار أن يكون راويَ الفيلم أطفالُ غزة الذين يملكون ذاكرة طازجة وبريئة عن الحرب في بلادهم، فنرى المدينة والحرب من منظورهم. لكن من أين تبدأ حكايات الأطفال الصغار؟

حروب غزة.. عدوان الاحتلال يكرر نفسه

على الرغم من أن وسائل الإعلام الغربية تسعى لطمس الحقيقة، فإن العالم العربي يتابع هذه الأيام عبر شاشات الأخبار، تتكرر وحشية الاحتلال الإسرائيلي على غزة في أحداث طوفان الأقصى، وكأن الزمن دائرة منطوية على نفسها، يبدأ ويعيد نفسه وينتهي عند النقطة ذاتها.

طفولة ضائعة بين القبور والمستشفيات بسبب العدوان الإسرائيلي المتكرر على غزة

لا يختلف المشهد الحالي في غزة كثيرا عن عدوان 2014 الذي بدأ على إثر حملة عسكرية عرفت باسم “الجرف الصامد، وما زالت جراح العدوان مفتوحة، وذكراه لم تبتعد كثيرا، فقد استمر العدوان حينها مدة 51 يوما، واستُشهد فيه 1475 مواطنا مدنيا من فلسطين، والنسبة الأكبر (70%) من الشهداء تقل أعمارهم عن 21 عاما.

بدأت المأساة كلها من الطفل محمد حسين أبو خضير الذي اختطفته قوات الاحتلال وعذبوه وحرقوه، فاشتعلت الحرب، وتوالت القذائف الإسرائيلية تدك وتدمر بوحشية ومن دون تمييز.

الطفل محمد حسين أبو خضير الذي اختطفته قوات الاحتلال وعذبوه وحرقوه

وترتبط المأساة الفلسطينية في أذهاننا بأطفال يُقتلون أمام أعين العالم بلا ذنب. فقد كان محمد الدرّة في انتفاضة الأقصى عام 2000 رمزا لكل الأطفال الفلسطينيين المقتولين غدرا، وحكايات الموت الفلسطيني كلها تبدأ من طفل فلسطيني صغير تنزع منه الحرب حياته وكأنها بلا ثمن.

“إحنا بنزرع خضرة مبنزرعش متفجرات”

يمر عدي بين بيوت غزة المتهدمة، يقول إن بيته دُمر قبل 3 أشهر، ويتعرف على موقع بيته، ويصعد فوق حطامه ثم يعيد رسم خريطته، ويقول: هنا كنا نجلس أنا وإخوتي، وهنا المطبخ، وأمام البيت كانت ساحة اللعب.

“إحنا محظوظين هادي المرة مماتش حد منا، بس المرة هاديك مات ناس كتير ومات جارنا.. احنا بنزرع خضرة مبنزرعش متفجرات علشان اليهود تيجي تفجرنا”.

لم يعد عدي بعد القصف يتحدث عن الدراسة أو اللعب مع أصحابه، بل جل حديثه عن العمل، فبعد الغزو بات واجبا عليه البحث عن مصدر رزق ليساعد أسرته على المعيشة، وهو نفس حال كل الأطفال في غزة، كما نشاهد في الفيلم.

أطفال غزة يخسرون أمان البيت والعائلة والطفولة بسبب قصف إسرائيل لبيوتهم وتدميرها

هكذا وفي لحظة واحدة يخسر الأطفال أمان البيت والعائلة، وتهاجر أحلامهم من ألعاب الطفولة إلى جلسات الكبار التي يتخلوا فيها عن البراءة، ليطالعوا الحياة بعيون يكسوها الألم والغضب المكتوم، فيجاهدون للعمل حملا لمسؤولية أكبر من أن تحملها أكتافهم الصغيرة، كي لا يموت أهلهم من الجوع، وكأن الهرب من موت الحرب أو موت الجوع هو المعنى الأهم لحياتهم الآن، والحفاظ على ما بقي من الحياة هو الغاية الأهم.

آمال الطفولة في غزة تضيع بين أنقاض المنازل المهدمة والأهل المقتولين

ويتحدث أحد الأطفال في الفيلم عن لحظة الفرح التي يتذكرها أيام عدوان 2014، فيقول: في اللحظة التي توقف فيها إطلاق النار والصواريخ، شارك أهل غزة في توزيع الحلوى والاحتفال.

فهذا الانتصار فرح طفولي بانتهاء أصوات القذائف ورعب الموت الذي لا يعرف أحدٌ متى وأين سيلحق به أو بأحد من عائلته، فقد باتت أحلام الصغار أن يتوقف هذا الكابوس فقط، ولو قليلا، ليعودوا إلى ساحات اللعب.

“أنا نفسي أعيش زي ما أطفال تانية عايشين”

تبدو مدينة غزة في الفيلم مسرحا للحياة بعد الموت، فنرى حطام البيوت، وزحام الشوارع، واتساع البحر على الجانب الآخر، والأطفال في كل مكان يعملون ويضيعون الوقت في مراقبة تلك الحياة المهملة تماما.

وقد توقع سكان غزة أن الحياة وحركة العمل ستعود من جديد بعد انتهاء الحرب، لكن هذا لم يحدث، فلم تفتح المعابر، ولم تدُر عجلة كسب الرزق، وأصاب الإحباط الجميع، حتى الأطفال المتوسمين في العمل أن يكون نجاة لهم لكون عوائلهم.

“أنا نفسي أعيش أروح ع المدرسة، مفيش خوف ولا قنابل زي الناس التانية، وميضربوش دارنا، يصير هدوء وأعيش زي ما أطفال تانية عايشين”.

ضياع الطفولة في غزة بسبب الحرب، يجبر الأطفال على العمل لإعالة أهلهم

كما يسرد الفيلم حقائق هي في سردية موازية تؤرخ لسيرة مدينة غزة، وتوثق أن اعتماد 80% من سكان غزة قائم على المساعدات الإنسانية، من أجل البقاء على قيد الحياة

ذكريات بيسان.. يوم تهدم السقف فوق رؤوس العائلة

قُصف بيت الصبية بيسان ذات الأعوام الستة، في لحظة كانت تلعب فيها مع إخوتها، فتهدّم السقف فوق رؤوسهم، وبعدها بفترة أنقذهم المسعف علاء.

ما زالت بيسان تتذكر ذلك المشهد ولحظة قدوم المسعف، وتعرف اسمه علاء، وتعرف أنها الوحيدة التي نجت من بين إخوتها من الموت بإصابة محفورة في جبينها لن تمحى إلى الأبد. تلك الإصابة تستقر أيضا في قلبها وذاكرتها.

بيسان طفلة غزّية نجت من الموت، لكن إصابتها أفقدتها القدرة على التواصل مع من حولها

لقد نجت بيسان من الموت، لكنها تعاني من مشكلة في التواصل مع الآخرين، إنها صدمة الحرب والإصابة البالغة التي اقتربت من المخ بدرجة كبيرة، ولا تملك بيسان سوى الذكرى القاسية التي تحكيها من دون أن تعرف لماذا عليها أن تدفع هذا الثمن الثقيل على أكتافها، ولماذا خسرت كل شيء قبل أن تعرف معنى امتلاك الأشياء، ولماذا في لحظة اللعب انتهت حياتها وبيتها، وأصبحت يتيمة، لأن أمها وأباها استشهدا بنفس القذيفة.

“أنا طفلة معيش لا صواريخ ولا دبابة ولا شي، أنا طفلة مش مقاتلة، ليش هم بيعملوا فينا هيك؟”

“نحتاج إلى علاج نفسي”.. بقايا صدمات تؤرق أطفال الحرب

يعرف الأطفال الفلسطينيون جيدا معنى الموت والفقد والخوف والجزع، وهي مشاعر قاسية ومميتة، ربما لم يعشها رجل عجوز يعيش الآن آمنا في وطنه. فالوعي بالوجه القاسي للحياة، دفع أحد الأطفال في الفيلم للاعتراف بحاجتهم إلى علاج نفسي: بدنا علاج نفسي.. ياخدونا بره يساعدونا ننسى اللي صار معنا.

رغم كل القصف والموت والدمار، يحلم أطفال غزة بحياة يقضون فيها وقتا ممتعا

تلك المشاعر التي تتسرب لنا من الأطفال عبر الشاشة تحكي ما تغفل الحروب عن توثيقه، وتضعنا أمام أسئلة أخلاقية وإنسانية، ربما نتغافل عنها مع كل خبر جديد عن قذيفة تُلقى، فيَنفلِت الموت من رحم الأرض.

“بأي ذنب قُتل؟”.. ابن سائق الإسعاف يبكي أباه

يحكي أحد الأطفال عن موت والده الذي عمل سائق إسعاف في الحرب، ويختبر الطفل ظلما لا حدود له ينغرس في صدره، ويسأل عن ذنب أبيه حين قُتل أثناء عمله، فهل ذنبه إنقاذ المصابين؟ بأي ذنب يقتل؟ ويطرح السؤال في وجوهنا ولا نملك له أي إجابة.

من مسكن لحق بأهله الموت، إلى مسكن آخر، يتنقل أهل غزة علّهم يهنأون يوما بالأمان

وبعد الحرب، يعيش أهل غزة ممن تهدمت بيوتهم يبحثون عن ملجأ آمن للعيش في مخيم الشاطئ للاجئين، أو مخيم بمستشفى الشفاء، تلك المخيمات التي نراقبها الآن.

ربما تبدلت وجوه الأطفال، فنجدهم عبر شاشات الأخبار شبابا، أو ربما أصبحوا الآن شهداء يلحقون بإخوانهم السابقين.

إنها دائرة الحرب المفرغة التي تصب قسوتها على هؤلاء الصغار الذين لا يحلمون إلا بحياة تخلو من أصوات الحرب، أو بسباحة حرة في بحر غزة الواسع، حيث الأمن والأمل وأرضهم تحت أقدامهم.


إعلان