“الهروب”.. معركة في الأنفاق لاختراق سجون الاحتلال المحصنة
أفاق العالم يوم 6 سبتمبر/أيلول 2021 على فرار استعراضي بطولي لأسرى فلسطينيين من سجن جلبوع الإسرائيلي، فقد استطاع ستة أسرى اختراق تحصينات السجن الذي يُطلق عليه “الخزانة”، لمناعته وشدة حراسته.
ونظرا لِما في العملية من الجرأة والتصميم، أُطلق عليها لاحقا اسم “عملية نفق الحرية”، فقد حفر الأسرى نفقا في الأرض من تحت المرحاض داخل الزنزانة التي كانوا يقبعون فيها معا عدةَ أشهر، ثم زحفوا عبر التجويف إلى أن تجاوزوا برج المراقبة والسياج الخارجي باعتماد ملعقة أكل، ثم تخلّصوا من كل الأتربة عبر تذويبها في المياه، وسكبها في مجاري الصرف الصحي. ومع أنهم لم يجدوا الدّعم اللازم في الخارج، ووقعوا في الأسر مرة ثانية، فقد كانت العملية في حدّ ذاتها باعثة للأمل الفلسطيني، محبطة للعدو الإسرائيلي.
لقد كان استحضاري لهذه العملية وأنا أشاهد الفيلم الوثائقي “الهروب” (2023)، من إخراج محمد الصواف، وإنتاج الجزيرة الوثائقية؛ مبعثَ شغفي ورغبتي في الاطلاع على حكايات مماثلة، يقارع فيها المناضلون الفلسطينيون المستحيل. وبالفعل فقد كان الفيلم يعرض قصصا مماثلة لفلسطينيين نجحوا في مغافلة العسس والتحرّر من السجون الإسرائيلية، أو اكتفوا بشرف المحاولة أحيانا.
صناعة الفيلم.. خطاب بصري يحتال على الإكراهات
يبدو موضوع هرب الأسرى من سجون الاحتلال عملا مغلقا يعسر التعاطي معه وثائقيا، فمادته تتشكّل من حكايات منسية، على أهميتها القصوى، فلا موارد بصرية من مستندات وصور يمكن أن تدعم المعالجات الفيلمية، ولا يمكن النفاذ إليها إلا من خلال ذاكرة أصحابها.
فكل الأحداث قد وقعت في السجون المغلقة والأنفاق السرية، وليس من المتاح الحديث مع الطّرف الآخر لخلق الجدل، بسبب مقاطعته ومناهضة التطبيع معه، ولكن السينما خطاب بصري يشتهي الحركة، وينبذ المعالجات “البيروقراطية”، أي المعالجات التي تكتفي بعرض الشهادات، فما الحيلة؟
بدا جليّا أن المخرج على أتم الوعي بهذه المعضلة، ولكن لا مناص له من التعامل مع هذه الإكراهات. ولتجاوز الرتابة، كان يجمع شهادات المشاركين في مغامرات الهروب، ثم يعيد توزيعها على مستوى المونتاج في مسارات متوازية، فكانت تتطوّر وفق الإيقاع نفسه على مسار الهروب من سجن عسقلان، ومسار الهروب من سجن كفار يونا، ومسار الهروب من سجن غزة المركزي.
ويتداول السرد في كل مسار أكثر من طرف، ويعرض أكثر من وجهة نظر، وفي النهاية، تكمّل الأصوات بعضها، أو تشرح ما غمض، أو تصوّب ما أهملته الشهادات السابقة، مما يجعل الفرجة إعادة بناء لهذه المسارات القصصية، فكانت الشخصيات تروي حكاياتها لنعيشها نحن من جديد.
وقد وجد المخرج حيلة ثانية مدارها على إعادة تمثيل الوضعيات، ضمن تصور يجعل التخييل محاكاة للوقائع، فاستعان بممثلين يحاكون -في مشاهد صامتة- عملية أسر المقاومين بكل قسوة واقتيادهم إلى السجون، ويجسدون عمليات حفر الأنفاق واجتياز الحواجز، ضمن وظيفة تبسيطية تقلب السمع الوارد من الشهادات بصرا ولقطات حية.
وكثيرا ما كان الفيلم يوسع آفاقه، فيتجاوز مغامرات الهروب ليعرض لنا تفاصيل الحياة السجنية، فيجعل تخيل الفرار من السّجن تعلة، ليأخذنا إلى حياة الأسرى في عوالم إسرائيل السفلية.
سجن عسقلان.. خطة للذوبان في جموع الزائرات
مثلت محاولة الهرب من سجن عسقلان في يونيو/ حزيران 1996 عملا بطوليا، جمع بين الذّكاء ودقّة التخطيط وصلابة الإرادة، فقد قدّر الأسير جهاد أبو الغبن وثلاثة من شركائه أن تحدي تحصينات السجن يظل عملا ممكنا، على الرغم من الرقابة الصّارمة، وأن أيسر السبل إلى ذلك هو الاندساس بين الأهالي الذين يزورون أقاربهم في غرفة الانتظار.
ولكنّ الوصول إلى هذه المرحلة ليس بالأمر الهيّن، فلا بدّ إذن من ثقب سقف دورة المياه للتسلل عبرها، وهذا يقتضي معرفة المقاييس الدقيقة، لتحديد مكان الحفر في الطابق العلوي وطريقته ووسائله، وقد صادف تخطيطهم للهرب قيام إدارة السجن بأعمال ترميم وصيانة، فكانت تلك الأشغال هبة من السّماء، فاستغلوا جلبتها وحصلوا على بعض التجهيزات البسيطة منها، وعوّلوا على رفيق لهم كان يحترف الخياطة ليخيط لهم أزياء نسائية يتنكرون بها أثناء عملية الاندساس.
وهكذا، سارت الخطة على نحو مثالي، فأثناء الزيارة نزلوا من الفتحة التي كانوا يخفونها بالورق المقوى، وغيّروا الملابس، واندسّوا بين الأهالي، ولكنّ يقظة الحارس أفسدت كلّ شيء، فقد أدرك أن عدد النسوة المغادرات أكبر من عدد من دخلن، وبتشغيله لصفارات الإنذار ضُبط الأسرى، وانتشرت عناصر الأمن والاستخبارات في كل أنحاء السجن، وفشلت محاولة استمر التجهيز لها سبعة أشهر، لتبدأ رحلة التشفي والعقاب والعزل.
سجن كفار يونا.. حين تكون حصانة الزنزانة سبب هشاشتها
كان المشاركون في محاولة الهرب من سجن كفار يونا -المتزامنة تقريبا مع محاولة سجن عسقلان- يقيمون بالغرفة 3، وهي غرفة حديثة البناء محصّنة التحصين الجيد، وفي فكر حراس السجن أنها مكان مؤمّن لا يقتضي أن يضيعوا وقتهم في اختبار جدرانه أو نوافذه، وفي فكر الأسرى أن تحصينها ذاك عنصر من عناصر هشاشتها.
فقد كانوا يعوّلون على تراخي المراقبة، على الرغم من تشديدها إثر محاولة الهرب من سجن عسقلان التي ذكرنا آنفا، فقاموا بحفر نفق تحت البلاط، لكنهم أبقوا البلاط سليما، وكانوا يعيدونه إلى مكانه بعد الحفر، لتضليل العسس.
لقد استطاعوا إحداث فجوة في الأرضية المسلحة، على الرغم من بساطة الوسائل، واستغرق ذلك زهاء شهرين، ثم ظلوا يحفرون نفقا يغوص في الأرض عموديا مترين ونصفا، ثم ينعرج فيتجه أفقيا إلى ما بعد السور الخارجي، وهذا يعني التخلّص من كميات كبيرة من الرمل، ثم تذويبه في دورة المياه أو حفظه، في أكياس في تجاويف من النفق نفسه بعد أن سدت البالوعات، بسبب تراكم الأتربة في المجاري.
وفي اليوم المقرر للهروب كان الحارس على البرج شديد اليقظة، فمنع حزمه المشاركين من الخروج من النفق إلى وقت متأخر جدا، وبتغييره عند الساعة الرابعة صباحا استطاعوا الخروج، ولكنهم واجهوا عقبة ثانية هي ثقب السياج الحديدي.
وبسبب اليأس رجع أسيران إلى الغرفة، بينما تشبث اثنان بالأمل، واستطاعوا فلّ الحديد، فاختلطت الفرحة بالحرية بالأسى لتخلّف الرفيقين.
سجن غزة المركزي.. خطط وأقدار تجعل المستحيل ممكنا
لم يكن الأسير السابق عماد الدين صفطاوي يظن الهروب من سجن غزة العسكري ممكنا، فهندسة المبنى تمثّل عقبة في حدّ ذاتها، فأقسامه منعزلة وبعيدة عن السور الدّاخلي ذي الجدران العالية والإسمنت المسلح، وأما برج المراقبة فيكشف عامة المكان، ويقع بعده سور خارجي شاهق، وفي الممر بين السورين كلاب حراسة مدربة على القتل.
أما خارج السجن فتجوب الدوريات المسلحة الأرجاء على مدار الساعة واليوم، هذا فضلا عن عمليات الفحص والتفتيش التي يقوم بها ضباط مختصّون، فيعدون الأسرى ثلاث مرات في اليوم، وأحيانا يضاف إلى ذلك تفتيش ليلي، وتجرى الاختبارات على قضبان النوافذ يوميا بتجهيزات تختبر صلابتها، كما تفتش المنطقةَ بأسرها قواتٌ ضخمة جدا تفد من جهات أخرى، للتصدي لأي تراخ محتمل من عسس السجن.
ومع كل هذه العوائق، لم يستطع عماد الدين صفطاوي أن يمانع مقترح أسير حالم بعالم الحرية في الخارج، ربما هو الخوف من اتهامه بالجبن أو هو التطلّع للحرية المستحيلة. وكانت خطة الهرب بسيطة مقارنة بخطط سجن عسقلان أو سجن كفار يونا، فكانت تعتمد على اقتلاع قضبان شباك دورة المياه، وهي المنفذ الوحيد الذي يطل على العالم خارج الزنزانات، وتعوّل على منشار لقص الحديد وزبدة فطور الصباح لطليه حتى لا يحدث أزيزا، ومكابدة لحز القضبان من الخارج حتى لا ينتبه إلى تهالكه عند اختبار صلابتها.
أما كيفية التعامل مع برج المراقبة والجدران العالية والأسلاك الشائكة والكلاب المدرّبة فتُرك للارتجال والقدر، ولم يخيّب القدر عماد الدين وصحبه، فلمّا أصبح المنفذ جاهزا، منّ عليهم بمصادفات كثيرة مساعدة.
فقد أقام جيش الاحتلال حفلا صاخبا، ونزل ضباب كثيف، وانسحبت الكلاب التي كانت ترابط بالممر بمعجزة، وكان على الجماعة أن يزحفوا تحت برج المراقبة وأن يتحملوا الأسلاك الشائكة التي كانت تغوص في أياديهم. وبالمقابل كانت المكافأة عظيمة حقا، فقد كان نجاح عملية الهروب من سجن غزة المركزي في مايو/ أيار 1987 تاما ومدهشا.
“أن تقضي حياتك في كيس من الإسمنت”
اقتصر الفيلم على عرض الشهادات في سرد شيِّق غالبا، فبدأ بمشاهد تمثيلية لوصول الأسرى للسجون، تجسّد قسوة المحتلّ، وأشار إلى حالة الانهيار التي يعيشها الأسير، وهو يتدرّب على حياته الجديدة، فيبدأ يعُدّ ما انقضى منها بالأيام والأسابيع، ثم يتماسك فتنبثق في الأذهان فكرة الهرب، على الرغم من قوة التحصينات وشدة المنظومة الأمنية وصلابتها.
وعندها يكون العبور إلى عمليات التخطيط والتنفيذ والوسائل البسيطة قد لمع في ذهن المتفرّج، قبل أن تذكره الشخصية نفسها، فينخرط بجوارحه ويصبح شريكا افتراضيا في المهمة، ويتطلّع إلى نهاية المغامرة الآسرة بتعاطف، ويهتزّ لكل عارض يواجه خطط الهروب، ويهدّد بنسفها.
ولم تخلُ تلك الشهادات من لحظات تأمل وتفكير. يقول عماد الدين صفطاوي بحكمة: أسوأ شيء يمكن أن يحدث لك في الحياة هو أن تسجن، ففي وقت المرض يمكنك أن تشفى أو تتعايش مع المرض أو تموت، أما السجن فألم مبرح مدة 24 ساعة في اليوم.
ويقول آخر: أن تعيش معتقلا أسيرا في سجون الاحتلال، هو أن تقضي حياتك في كيس من الإسمنت.
ويقول ثالث بنبرة رثاء: حُرمت من والديّ وأهلي وأحبتي، وضاع شبابي في السجن.
وتحت هذه الطبقة السطحية تكمن طبقة الفيلم الأعمق، إذ لم يخلُ من أبعاد رمزية، لعلّ أهمها أن تحدي المحتل والعمل على الهرب من سجنه فعل نضالي في حدّ ذاته، فكانت رسالة مزدوجة توجه إلى الشباب الفلسطيني، فتؤكد له قيمة الحرية، وتوجّه إلى المحتل في الآن نفسه، فتؤكد له عجزه عن كسر إرادة الشعب الفلسطيني مهما فعل.
كما تجعل الأسر ساحة مواجهة أخرى من مواجهات الصراع، تضاف إلى جبهات الأرض والماء والتراث والتاريخ والبيئة والثقافة التي عليها معركة التحرير.
تطور التكنولوجيا.. واقع لا يدركه الأسرى الهاربون
لا شكّ أن الفيلم سيجعلنا نفكر في الواقع الراهن، فهل تكرار الهرب من سجون إسرائيل ما يزال ممكنا؟
يبدو أن عوائق كثيرة باتت تحدّ من نجاح عملياته اليوم، فقد أصبح المحتل يوظّف أحدث أدوات الرصد والتجسس، ويزرع الكاميرات في كل الزوايا، فضلا عن العنصر البشري والعملاء والدوريات. ولعلّ غياب العمق الجغرافي في الضفة، والملاحقة الشديدة في الداخل، يسهلان عملية اعتقال من ينجح في اختراق تحصينات السجن، وعملية سجن جلبوع في 2021 خير مثال على ذلك.
ومن المعوقات أنّ بعض الأسرى، كما في هذه العملية، قد أمضوا فترة طويلة في السجن، ولذلك لم يكونوا يحسنون التعاطي مع التطور التكنولوجي اليوم.
فمن أسباب إلقاء القبض على هؤلاء اتصالهم هاتفيا بذويهم، في حين أنّ جميع الأجهزة مراقبة. يقول أسامة شاهين -وهو أسير مفرج عنه- شارحا فشل زكريا الزبيدي ومحمود العارضة ورفاقهما في الهروب: أصبحت التكنولوجيا اليوم فوق التصور، وهذا الواقع لا يدركه أسرى عاشوا سنوات طويلة في السجون الإسرائيلية.
ومع ذلك، فإن العقل المقاوم للاحتلال والذي يواجه الصعاب دائما، تدفعه الحاجة إلى ابتكار الأساليب الجديدة، في سبيل التحرّر الشامل من الاحتلال نفسه.