“الحدود الخضراء”.. عنصرية يمينية تواجه اللاجئ السوري في بولندا

رحلة تبدأ بالتفاؤل والأمل والورود الحمراء، ثم ما تلبث حتى تتحول بعد ذلك إلى كابوس طويل، ثم تنتهي إلى مأساة يفضّل العالم المتحضر في أوروبا أن يغمض عينيه عنها. إلى أن جاء هذا الفيلم الشجاع البديع الذي أخرجته مخرجة مخضرمة، لكي يكشف الستار عنها كأقوى ما يكون.
الفيلم هو “الحدود الخضراء” (The Green Border)، للمخرجة البولندية “أنجليشكا هولاند” (75 سنة) صاحبة التاريخ الطويل في السينما الإنسانية، ويعد من أفضل الأفلام التي ظهرت عن قضية اللاجئين من الدول العربية والشرق الأوسط عموما، ممن يسعون للفرار إلى بلاد الحرية، لكنهم لا يعرفون ما تخبئه لهم الأقدار.
صور معظم الفيلم داخل الأراضي البولندية، مع أنه يكشف بجرأة كبيرة الموقف السلبي -إن لم يكن الإجرامي- للسلطات البولندية تجاه قضية اللاجئين، وردود الفعل العنيفة من جانب السلطات كما سنرى.
ويعد الفيلم تجربة فريدة في الإنتاج المشترك بين بولندا وبلجيكا وفرنسا وجمهورية التشيك، وقد صور بالأبيض والأسود، ليتخذ طابع الأفلام الوثائقية البولندية القديمة عن الحرب العالمية الثانية، وما شهدته من تضحيات ومآسٍ هائلة، لا سيما على الجانب البولندي.

وتستخدم المخرجة في التصوير الكاميرا المتحركة في مشاهد عدة، لتضفي على فيلمها طابع الفيلم الوثائقي، لا سيما أنها تعتمد على عدد كبير من الممثلين غير المحترفين، أي على من تطوعوا بالقيام بأدوار قريبة من أدوارهم في الحياة، أو مما عرفوه عن تلك التجربة المريرة المضنية، من أصدقائهم وأبناء جلدتهم، خلال الرحلة القاسية في أرجاء القارة الأوروبية.
وقد اشتركت المخرجة في كتابة سيناريو فيلمها مع اثنين من الكتاب البولنديين، ومن واقع الاستماع إلى عدد كبير من الشهادات المباشرة التي بلغت مئات الساعات من التسجيلات الصوتية والمصورة، تحدث فيها اللاجئون وسكان المناطق المجاورة للحدود بين بولندا وبيلاروسيا، ونشطاء حقوق الإنسان وجمعيات الدفاع عن حقوق اللاجئين، وبعض حراس الحدود الذين لم يكشفوا عن أسمائهم بطبيعة الحال.

وقد صُوّر الفيلم في الأماكن الطبيعية التي شهدت الكثير من الأحداث، كما استخدمت المخرجة أيضا لقطات تسجيلية من الواقع، ولا سيما في المشاهد الأخيرة من الفيلم.
وينقسم الفيلم إلى فصول عدة، يحمل كل منها عنوانا محددا مثل “العائلة، الحارس، النشطاء، جوليا”. والهدف هو إضفاء الطابع التوثيقي، وكأننا نشاهد الأشخاص الحقيقيين الذين يجسد أدوارهم ممثلون محترفون.
رحلة بولندا.. بداية وردية ونهاية مأساوية مظلمة
يرصد الفصل الأول “العائلة” حالة عائلة سورية مكونة من الأب والأم (بشير وأمينة) وأطفالهم الثلاثة، والجد. فنراهم في البداية داخل طائرة تنقلهم من تركيا إلى بيلاروسيا، حيث يأملون في العبور منها إلى بولندا، ثم إلى السويد، حيث ينتظرهم أحد أقاربهم هناك.
وفي الطائرة، يلتقون بامرأة شابة من أفغانستان تدعى “ناديا”، تقول إنها ستستقر في بولندا، حيث يقيم أخوها الذي قال لها كلاما طيبا عن البولنديين، وكان قد عمل معهم في كابول، عندما قدموا إليها ضمن القوة العسكرية الأوروبية.

جاءت البداية مليئة بالأمل، وكانت المضيفة توزع على الجميع الورود الحمراء، وتتمنى لهم إقامة سعيدة في بيلاروسيا، وكأنهم سائحون في طريقهم للاستمتاع بالحياة!
يتعين على هؤلاء أن يدفعوا مبالغ طائلة لنقلهم في سيارة إلى منطقة الحدود، ثم يتعرضون أيضا عند الحدود لابتزاز حراس الحدود، إذ لا يتركونهم يعبرون إلى الجانب الآخر -أي داخل الأراضي البولندية- إلا بعد الحصول على مبالغ كبيرة من المال. ومن هنا يبدأ الجانب المأساوي المظلم من الرحلة.
تقطع العائلة مع نادية رحلة محفوفة بالخطر داخل الغابات، لكن سرعان ما تحاصرهم قوة من حراس الحدود وتعيدهم بالقوة إلى بيلاروسيا، فهذه هي السياسة البولندية المعلنة، وهناك يوضعون داخل معسكر للاجئين، حيث يتعرضون لأقسى أنواع المعاملة من جانب الحراس، وسيلقى الجد مصرعه وهو يحاول التصدي لأحد الحراس، ويتلقى الأب ضربة على وجهه، ويصرخ الأطفال، ويكاد شمل العائلة يتفرق.
“يجب أن لا تتركوا جثثا وراءكم”.. غسيل المخ
الفصل الثاني من الفيلم من أهم فصول الفيلم وأكثرها دقة وواقعية، وهو مكتوب استنادا إلى شهادات موثقة، ففيه نرى أولا كيف تُغسل أدمغة حراس الحدود البولنديين، ويلقنون أن اللاجئين ما هم إلا مجموعة من الإرهابيين الذين تستخدمهم روسيا وحليفتها بيلاروسيا، وأنهم يستخدمون الأطفال دروعا بشرية، بل إنهم يشترون الأطفال ويطلقون الدخان في عيونهم، لكي تسيل الدموع لاستدرار العطف.

إلى هذا الحد من الخيال المبالغ فيه، يجري غسيل المخ والشحن والحض على مقاومة تدفق اللاجئين بالقوة المسلحة، وعدم السماح لهم بالعبور إلى الأراضي البولندية، حتى لو كانوا في طريقهم إلى بلد آخر، كما في حالة الأسرة السورية التي ترغب في الوصول إلى السويد.
وفي الوقت نفسه، يحذرهم قائد الحراس من عدم ترك أي أدلة يمكن أن تصبح شاهدا على ارتكاب جرائم طبقا لقوانين الاتحاد الأوروبي، مما قد يجعلهم عرضة للمحاكمة أمام المحاكم الدولية، قائلا “يجب أن لا تتركوا جثثا وراءكم”.
حارس الحدود.. تمزق بين أبوة المنزل وقسوة العمل
ينتقل السيناريو ببراعة من العام إلى الخاص، أي من حالة الحراس الذين يلقنون في أحد المعسكرات ويدربون على التصدي للمتسللين، إلى حالة واحد منهم يدعى “يان”، وهو متزوج وزوجته حامل، ويتوقع أن تضع مولودها في أي وقت.

يرصد الفيلم التناقض بين الحالة الإنسانية الخاصة، وبين المهنة التي تقتضي التعامل العنيف والتغاضي عن الحس الإنساني. ونشاهد العلاقة بين الحراس أثناء العمل، وعلاقة “يان” بزوجته التي ترغب في انهاء الإصلاحات في المنزل قبل قدوم طفلتها، وكيف تجري الاتصالات بينهما أثناء غيابه.
يصبح “يان” ممزقا بين اضطراره لأداء وظيفته طبقا لما هو مطلوب منه، وفي الوقت نفسه شعوره بالعار من الطريقة غير الإنسانية التي يعامل بها اللاجئين، وهي أزمة وجودية تنتهي بالتمزق.
دعم اللاجئين.. نشطاء يخرقون المحاذير البولندية
تخصص المخرجة الفصل الثالث لتأمل الجانب الآخر، أي المنظمات الإنسانية البولندية وبعض النشطاء السياسيين اليساريين المناهضين للسياسة الرسمية، وكيف يتسللون سرا داخل المنطقة الحدودية، فيقدمون الأطعمة وبعض الملابس والأدوية.

هنا يتعرض الفيلم للمحاذير القانونية المفروضة عليهم، وأهمها قرار السلطات البولندية إعلان منطقة الحدود منطقة محظورة لا تخضع للقانون، وعدم السماح للمدنيين بدخولها، ومن يخالفون يقبض عليهم، ويحاكمون بتهمة تقديم الدعم لعناصر متسللة بشكل غير قانوني.
ولكن هناك دائما من يمكنه تحدي النظام، فتفرد المخرجة مساحة مناسبة للتعرف على هذا الجانب، ورصد ما ينشأ أيضا من خلافات في وجهات النظر بين النشطاء.
“جوليا”.. طبيبة تلقي بنفسها في الخطر لأجل المبدأ
في الفصل الرابع نصبح أمام “جوليا”، وهي طبيبة نفسية وأرملة شابة تجد نفسها مرغمة للاستجابة للواجب الذي تفرضه عليها مهنتها، ويقضي به حسها الإنساني، فهي تشهد بعينيها غرق نادية في مستنقع لا قرار له، ومعها أحد أبناء العائلة السورية.
فتحسم أمرها وتقرر اتخاذ موقف، وهو ما يعرضها للقبض عليها والتحقيق معها ودفعها إلى خلع ملابسها والوقوف عارية بغرض تفتيشها، ولم يطلق سراحها إلا بعد تدخل أحد أصدقائها، وهو محام معروف، ولكن بكفالة على ذمة القضية.

تصبح قضية اللاجئين قضية نزاع سياسي بين بولندا -التي تتبع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو- وبين روسيا وحليفتها بيلاروسيا، ويكثر الحديث عن رغبة “بوتين” و”لوكاشنكو” في استغلال الأزمة الأوكرانية، لإلقاء اللوم على البولنديين في خلق أزمة اللاجئين.
لاجئو أوكرانيا البيض.. حفاوة تجسد نفاق المعايير الأوروبية
في أحد المشاهد العبثية، نرى كيف يُسمح بعبور اللاجئين من بيلاروسيا إلى بولندا، ثم كيف يعيدهم حراس الحدود البولنديون إلى بيلاروسيا، ثم ترتد الكرة مرة بعد أخرى، وكأننا نشاهد إحدى مباريات التنس. وفي وقت ما، يقرر النشطاء خرق القوانين التي وضعتها الحكومة اليمينية في بولندا، وتغليب الحس الإنساني.

ولا شك أن الفيلم يتخذ موقفا واضحا مع اللاجئين، حتى أننا نرى في المشهد الأخير تدفق مئات الآلاف من اللاجئين الفارين من أوكرانيا، وهم يعبرون الحدود إلى بولندا، حيث يستقبلهم حراس الحدود البولنديون بحفاوة، ويمنحونهم الماء والأطعمة.
وهي مقارنة واضحة مع ما يحدث للاجئين القادمين من العالم الثالث، أي أن الفيلم يقول بوضوح إن الموقف البولندي ينبع من دوافع عنصرية، فبينما يُرحب بأصحاب البشرة البيضاء، فإنه يعامل أصحاب البشرة السمراء على أنهم إرهابيون.
صناعة الصورة.. وثيقة سينمائية تفوح برائحة المغامرة
على غرار الأفلام الوثائقية، هناك كثير من المعلومات التي تتردد في الفيلم، منها -على سبيل المثال- تذكير الأوروبيين بأن هناك 20 ألف شخص من النازحين واللاجئين لقوا مصرعهم غرقا، أثناء محاولتهم عبور البحر المتوسط والوصول إلى القارة العجوز، منذ 2015 حتى الآن.

صحيح أن ما يتردد في الفيلم عن النزاع السياسي وأعداد اللاجئين الذين قضوا نحبهم وغير ذلك من المعلومات، كلها مهمة، لكن الأهم كثيرا هو الصورة الأكثر مطابقة للواقع في أي عمل روائي سينمائي عن أزمة اللاجئين حتى الآن.
فالكاميرا وزوايا التصوير والإضاءة والمواقع الطبيعية وغياب “التمثيل” بالمعنى المألوف، كلها تجعل الفيلم شبه وثيقة، بل مغامرة سينمائية لا تخلو من الخطر. وقد استحق الفيلم عن جدارة جائزة أفضل إخراج في مهرجان البندقية 2023.
“يشبه أفلام الدعاية النازية”.. ردود فعل حادة
ولعل قوة رد الفعل الرسمي من جانب المسؤولين في الحكومة اليمينية البولندية جاء موازيا لقوة الفيلم نفسه الذي يكشف كأقوى ما يكون من وسيلة تعبير فني أساسا، واقعا قائما يدعو للعار فضلا عن الاستنكار.

وقد وصف وزيرُ العدل البولندي الفيلمَ بأنه يشبه أفلام الدعاية النازية التي كانت تصور البولنديين بأنهم طغمة من قطاع الطرق والقتلة، واتهم مخرجة الفيلم “أنجليشكا هولاند”، بأنها أصبحت جزءا من آلة الدعاية الروسية التي تصور البولنديين في أسوأ صورة.
كما اتهم وزيرُ التعليم والبحث العلمي في الحكومة البولندية المخرجةَ، بأنها بفيلمها هذا بصقت على وجوه الذين يضحون براحتهم، من أجل حماية حدود البلاد لمدة 24 ساعة يوميا. وقالت المخرجة إنها ستقاضي وزير العدل بسبب تصريحاته. ولا يزال السجال قائما.