سينما القضية.. فلسطين في قلب المشهد الفني العربي والعالمي
اهتمت السينما العربية والعالمية بالقضية الفلسطينية، وأولتها أهمية كبيرة، انعكست في كثرة الأفلام المتناولة لها، وأيضا في تباين معالجاتها وفقا للمراحل التاريخية التي أنتجت فيها، وارتباطا أيضا بالأحداث المهمة التي شهدتها.
فكل حدث أو مرحلة تاريخية من كفاح الشعب الفلسطيني من أجل نيل حقوقه المشروعة، تراها مجسدة بأفلام تعبر عنها، وتقارب مضامينها السياسية على وجه الخصوص. ويظهر هذا بشكل واضح في السينما العربية التي بدأت الاهتمام بالقضية الفلسطينية بعد نكبة 1948، ومن يومها وهي لم تتوقف عن تقديم الأعمال التي تجسد الصراع الفلسطيني والعربي المحتدم والمستمر مع العدو الإسرائيلي.
السينما المصرية.. قصص تستعرض الكفاح الفلسطيني
يبرز موضوعيا دور السينما المصرية بوصفها رائدة الفن السابع العربي ومركز صناعته في تجسيد القضية الفلسطينية سينمائيا، ومع أن المخرج محمود ذو الفقار قدّم في عام النكبة فيلم “فتاة من فلسطين”، فإن الناقد الفلسطيني الراحل بشار إبراهيم يرى أن ظهور فيلم مصري يتناول موضوعا فلسطينيا في ذلك التاريخ، يعد متأخرا بالنسبة لبداية السينما المصرية التي تزامنت مع ظهور السينما العالمية.
تتمحور قصة الفيلم حول علاقة عاطفية تجمع بين فتاة فلسطينية وطيار مصري تسقط طائرته خلف خطوط العدو الإسرائيلي، ومع كل ما يمر به تنتهي القصة بزواجهما. الفيلم بسيط ويجعل من الموضوع الفلسطيني ممرا لتناول وتجسيد قصة عاطفية مؤثرة.
وعلى نفس النهج ينجز المخرج نيازي مصطفى فيلمه “أرض الأبطال” (1953)، ثم يليه “شياطين الجو” (1956)، وهو على بساطته يفتح المجال لإنجاز أفلام أخرى لا تكون فيها فلسطين معبرا لحكاية عاطفية، بل تصبح هي نفسها في قلب المعالجة السينمائية، كما هو الحال في فيلم “الله معنا” (1955) لأحمد بدر خان، وفيلم “أرض السلام” (1957) لكمال الشيخ، الذي يتناول قصة فدائي مصري يلجأ إلى قرية فلسطينية، ومن هناك يجد صانعه المبرر الدرامي لعرض نضالات الشعب الفلسطيني من أجل تحرير وطنه.
وفي عام 1963 يقدم المخرج الكبير يوسف شاهين فيلمه التاريخي المهم والضخم الإنتاج “الناصر صلاح الدين”، ويتناول فيه من منظور تاريخي معركة حطين التي أعلنت عن تحرير مدينة القدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي من هيمنة الفرنجة.
“ناجي العلي”.. مصرع فنان يلخص مأساة الشتات
تنشغل السينما المصرية بنفسها أكثر بعد نكسة حزيران/ يونيو 1967، وفي بعض الأفلام المنتجة حولها نجد تناولا فرعيا لجانب من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ففي بداية الثمانينيات، يقدم المخرج خيري بشارة فيلم “الأقدار الدامية” (1982)، وفيه يقارب حرب 1948 في فلسطين من منظور شامل، يلامس الجوانب الاجتماعية والسياسية المصرية، وتأثيرات ما يجري في فلسطين عليها، من خلال قصة قائد عسكري مصري يذهب للمشاركة في الحرب، ثم يلتحق به ولده أيضا.
ولعل من أبرز الأفلام المصرية التي تناولت القضية الفلسطينية ورموزها في تسعينيات القرن المنصرم؛ فيلم “ناجي العلي” (1992) الذي يكتب فيه مخرجه عاطف الطيب سيرة ذاتية للفنان ورسام الكاريكاتور الفلسطيني ناجي العلي.
وهي سيرة لا تنفصل عن معاناة الشعب الفلسطيني في الشتات، ومن بينها الشتات اللبناني، حيث عاش وعمل الفنان ناجي العلي عدة سنوات، لكنه يضطر للرحيل منها إلى لندن، حيث تكتب نهاية حياته هناك، إثر عملية اغتيال نفذت في عام 1987 في العاصمة البريطانية.
“باب الشمس”.. معالجة سينمائية راقية للسردية التاريخية
في بداية الألفية الثالثة، تتضح وتتبلور شدة تأثير الانتفاضة الفلسطينية على الشباب العربي، إذ يعبر عنها بوضوح فيلم “أصحاب ولا بزنس” (2001) للمخرج علي إدريس، من خلال قصة لشابين يتنافسان بينهما مهنيا، لكن شروط العمل التنافسي تدفع بأحدهما للذهاب إلى فلسطين، ليلتقي بأهلها ويتعرف عن قرب على حياتهم وكفاحهم خلال الانتفاضة الفلسطينية.
كما يعبر فيلم المخرج مازن الجبلي -المصري الفلسطيني المشترك الإنتاج- “بركان الغضب” (2002)، ومثله “ولاد العم” (2009) للمخرج شريف عرفة عن الاهتمام بالموضوع الفلسطيني من زوايا مختلفة ومتعددة المستويات.
لكن مع كل ذلك التنوع، ثمة إجماع نقدي على أن منجز المخرج يسري نصر الله “باب الشمس” بجزأيه يمثل نقلة نوعية في الأفلام المتناولة للقضية الفلسطينية، على مستوى المضمون والمعالجة وجودة الاشتغال السينمائي.
وبعيدا عن المعالجات الدرامية الجادة، ثمة أفلام كوميدية مصرية تضمنت متونها إشارات قوية إلى القضية الفلسطينية أو جوانب منها، وتجسدت بشكل بارز في الأفلام الكوميدية التي لعب أدوارها الرئيسية الممثل محمد هنيدي كما في فيلمه “صعيدي في الجامعة الأمريكية”، و”همام في أمستردام”. كما قدم الممثل عادل إمام أعمالا تنحو نفس المنحى لعل أبرزها “السفارة في العمارة”.
“معسكر اللاجئين في غزة”.. مواكبة مبكرة للسينما الوثائقية
لم تبخل السينما الوثائقية المصرية على القضية الفلسطينية، فمنذ وقت مبكر ظهر منها فيلم وثائقي أخرجه حسن حلمي عام 1955 بعنوان “معسكر اللاجئين في غزة”، وفيه يوثق بؤس حياة الفلسطينيين في مخيمات غزة. وبعد مرور عامين على إنتاجه، يُعرض في مصر فيلم “فليشهد العالم” لسعد نديم.
وفي العام 1965 يقدم رمسيس نجيب وثائقيه “أجراس السلام” الذي يحكي عن مدينة القدس وآثارها التاريخية. ولعل من بين الأفلام الوثائقية اللافتة في أسلوب اشتغالها السينمائي فيلم “ثلاثية رفح” (1982) لحسام علي الذي نقل وقائع إقامة مستعمرة “ياميت” الإسرائيلية على أنقاض قرية أبو شنار الفلسطينية ظلما وعدوانا.
وفي بداية الألفية الثالثة يقدم شريف رمضان وثائقيه “مدرسة الشهداء”. وفي مجال الفيلم القصير يقف الفيلم القصير “قطار الساسة السادسة” للمخرجة كاملة أبو ذكرى في مقدمة أجمل الأفلام الروائية القصيرة المتضمنة تناوُلا للصراع العربي الإسرائيلي.
“المخدوعون”.. فلسطين في قلوب السينمائيين العرب
في خارج مصر، كان الاهتمام بالقضية الفلسطينية سينمائيا يُلاحظ وجوده أيضا في بقية الدول العربية، ولا سيما في سوريا ولبنان والعراق. ففي سوريا حضر الموضوع الفلسطيني مبكرا في أعمال فنانيها، إذ يقدم الفلسطيني “محمد صالح كيالي” فيلمه الروائي الطويل “ثلاث عمليات داخل فلسطين”، وينجز السوري سيف الدين شوكت فيلمه الروائي “عملية الساعة السادسة”، وكلاهما يُبرز بطولات الفلسطيني من أجل نيل حقوقه، وإن غلب عليهما الطابع التجاري.
وفي هذا الصدد يمكن التأكيد على أهمية وتميز أعمال المخرج نبيل المالح، لاهتمامها بشكل خاص بالقضية الفلسطينية، وفي المقابل هناك سينمائيون عراقيون مثل قيس الزبيدي وقاسم حول، وقد عملا في إطار السينما السورية والفلسطينية. ومن أفلام الأول “الزيارة” وللثاني فيلم “اليد”، وكلا الفيلمين عن القضية الفلسطينية.
وحول نضالات شعبها قدما أيضا الكثير، فمن بين ما قدمه العراقي قاسم حول في بيروت فيلم “عائد إلى حيفا” (1982)، وهو مقتبس من قصة طويلة للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني. واستنادا على روايته “رجال في الشمس”، قدم المصري توفيق صالح فيلم “المخدوعون” الذي يعد واحدا من أفضل الأفلام السورية الإنتاج.
وفي المجال الوثائقي يقدم السوريون أعمالا لمخرجين محليين وعرب، من بينهم العراقي فيصل الياسري الذي أخرج وثائقيا قصيرا مهما عنوانه “نحن بخير”، ويقارب فيه فكرة قمع العدو لحرية التعبير، وبشكل خاص حرية تعبير الفلسطيني داخل وطنه وخارجه.
“كفر قاسم”.. أعمال تخلد ويلات النكبة والمجازر
لبنانيا، أنجز المخرج برهان علوية فيلم “كفر قاسم” (1974)، وتدور أحداثه حول المجزرة التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون ضد سكان قرية كفر قاسم في سنة 1956. وإلى جانبه يبرز اسما الثنائي مي مصري وجان شمعون اللذين قدما أعمالا جيدة، من بينها “تحت الأنقاض”، وتدور قصته حول الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ودور الفلسطينيين البطولي في التصدي له إلى جانب أخوتهم اللبنانيين.
كما أنجزت مي مصري فيلم “أحلام المنفى” الذي وثقت فيه ويلات نكبة 1948. ويوثق قيس الزبيدي في فيلمه “واهب الحرية” (1989) نضالات الجنوب اللبناني والمقاومة الوطنية اللبنانية، ويقدم مصطفى أبو علي أفلاما شديدة الصلة بقضيته الفلسطينية، من بينها “الحق الفلسطيني” و”ريبورتاج” الذي يعرض جوانب من حياة الفلسطينيين في المخيمات الفلسطينية.
وهناك إنتاجات عربية متفرقة وموزعة بين بقية البلدان العربية، مثل “مملكة النمل” (2012) عن أنفاق غزة، للمخرج التونسي شوقي الماجري. ولعل “فرحة” (2021) للمخرجة الأردنية دارين سلام هو من بين أفضل الأفلام العربية المنتجة حديثا.
خارج السرب.. أفلام غربية تكسر هيمنة الداعمين للاحتلال
على المستوى العالمي، يبدو التباين والانقسام واضحا بين الأفلام المؤيدة للحق الفلسطيني وتلك المنحازة إلى إسرائيل وممارساتها التوسعية والعدوانية.
ومع أن ضغط اللوبي الصهيوني قوي، فإن هناك مخرجين غربيين شرفاء وقفوا ودافعوا بأفلامهم عن الفلسطينيين. من بينهم المخرج “كوستا غافراس” الذي أنجز فيلمه “هانا ك.” (Hanna K.) عام 1983، ويعالج موضوع ملكية الأراضي الفلسطينية وكيف ينهبها الإسرائيليون، وتجسده دراميا محامية أمريكية تدعى “هانا كوفمان” تعيش في فلسطين المحتلة، وتتولى الدفاع عن شاب فلسطيني دخل إلى منطقة خاضعة للمراقبة الإسرائيلية، فتوصلها قصته إلى تاريخ قريته التي نهب بيوتها الإسرائيليون، وأقاموا فوقها مستوطناتهم.
وقد تعرض الفيلم لهجوم إعلامي كبير من قبل الجماعات المؤيدة لإسرائيل، وكذلك منع الإعلان عنه تجاريا، وذلك في محاولة لإبعاد الأنظار عنه.
ويُعد فيلم التحريك (أنيميشن) النرويجي “البرج” (The Tower) وثيقة تاريخية مهمة تنقل المشاهد إلى مخيم “برج البراجنة”، مع بطلته الصغيرة التي تعيش عالما قاسيا تحاول الهروب منه بالخيال.
ويبقى “مولود في غزة” (Born in Gaza) من بين أكثر الأفلام مدعاة للتأمل في قسوة حياة الطفل الفلسطيني الذي يجد نفسه موجودا في مدينة تتعرض للدمار والإبادة. ولا يقل عنه روعة فيلم “إن شاء الله” (Inch’Allah) للمخرجة الكندية “أنايس باربو- لافاليت”، وتدور أحداثه حول طبيبة كندية تعمل مع الصليب الأحمر في مخيم للاجئين في الضفة الغربية، ومن خلال تجربتها بين منطقتين تتعرف على الواقع الفلسطيني بكل آلامه وقسوته.
ويبقى السويدي “بيو هولمكفيست” من أشهر المخرجين العالميين الذين أعلنوا انتماءهم إلى مدينة غزة، وذلك في وثائقيه “غزتي” (My Gaza)، ويحكي عن صداقته لرب عائلة غزاوية ساعده كثيرا على إنجاز أفلامه عن غزة، وربطت بينهما صداقة امتدت لأولاده من بعد رحيله.
وهناك فيلم آخر عن أحد أولاده بعدما كبر وصار طبيبا نفسيا، وهو وثائقي رائع عنوانه “الشاب فرويد في غزة” (Lejonet från Gaza)، ومن خلاله يعرض السويدي مشهدا مؤلما للآثار النفسية القاسية التي تتركها الحروب الإسرائيلية، وهمجيتها على سكان غزة الأبرياء.