“حياة ذهبية”.. لقمة العيش القاتلة في أعماق مناجم بوركينا فاسو

من أين للمخرج “بوبكر سنغاري” بكل هذه المعرفة للتفاصيل الدقيقة الخاصة بعمليات البحث الشخصية عن الذهب في مناجم بوركينا فاسو؟

يظل هذا السؤال عالقا في الذهن حتى اللحظات القليلة التي تسبق نهاية وثائقيه “حياة ذهبية” (A Golden Life)، لأنه حينها فقط يكشف عن سر له صلة بحياته الشخصية المرتبطة بتلك المواقع التي يحرص على نقلها على الشاشة بصورة رائعة يحيلها إلى لسان ينطق بأحوال المشتغلين في تلك المناجم، في ظروف قاهرة يتعرض كثير منهم خلالها لحوادث تؤدي بحياتهم، فتغدو محاولتهم للحصول على الذهب، كأنها مغامرة يائسة لتحقيق أحلامهم البسيطة، ورغبتهم في التخلص من بؤس عيشهم في بلد يعد واحدا من أكبر بلدان القارة الأفريقية امتلاكا للذهب.

“راسمان”.. مغامرة في المناجم لتحقيق حلم الدراجة

يضع صانعُ الوثائقي الصبيَّ “راسمان” (16 سنة) في قلب المشهد المعني بنقله، وهو يظهر من الخارج كأنه مستعمرة بشرية عشوائية، أقيمت في جنوب الصحراء الكبرى، وعلى حوافّ مداخل مناجمها المحفورة بأدوات بسيطة استنفذت طاقة النازلين إلى أعماقها وجعلتهم يبدون كائنات محطمة، لا تكل عن العمل على الرغم من التعب الظاهر عليها.

الكل يحلم باليوم الذي يحصل فيه على المعدن النادر

مجاميع من البشر جاءت إلى جنوب بوركينا فاسو، بحثا عن الذهب من دون تصور عما ينتظرهم في تلك الأراضي من مصير. وعلى الرغم من صغر سنه، يبدو الصبي وكأنه رجل ناضج، لكن حين يكشف عن دوافع مجيئه الحقيقية إلى تلك الأرض، يظهر سنه الحقيقي وبساطة تفكيره.

ويخبر المشتغلين معه -في حفر منجم يصل عمقه إلى أكثر من 100 متر- أنه ترك بيته من دون موافقة عائلته، لأنه يريد شراء دراجة هوائية تعجز عائلته عن تأمين ثمنها، لهذا قرر المجيء والبحث عن الذهب، ولكن بعد مدة وبسبب عجز والده عن تأمين عيش أخوته، صار يسأله بين فترة وأخرى عن عمله، وإلى أين وصل بحثه عن عروق الذهب، ولم يعد يطلب منه العودة إلى البيت قبل تحقيق ما جاء من أجله.

مواصلة الليل والنهار.. عمل تختلط فيه الأسطورة بالحقيقة

يستخدم الواصلون إلى المنطقة عمليات حفر ذات أدوات بسيطة لا تتعدى فؤوسا تستخدم عادة لقطع الأشجار، وحبالا عادية، ومصابيح إنارة تعمل على بطاريات ضعيفة، وهم لا يدركون أن تلك العلميات قد تمتد عدة أشهر، يجدون خلالها أنفسهم في وضع مرتبك، فهم لا يستطيعون ببساطة ترك المكان والجزء الذي أنجزوه من عمليات الحفر بمشقة، وفي الوقت نفسه لا يمكنهم الاستمرار فيه، فهو عمل يحتاج إكماله إلى مواصلته ليل نهار.

أحاديث داخل الخيمة يختلط فيها الواقع بالخيال

وفي هذه الحالة فإن الخيار الوحيد المتاح أمامهم هو البقاء ومواصلة العمل على أمل تحقيق ما جاؤوا من أجله. هذا الخيار يجعل القادمين إلى أرض الأحلام يمضون أشهرا من حياتهم فيها، وخلالها يحاولون التأقلم مع الظروف القاهرة التي تفرضها عليهم.

فيرتّبون -وفق شروط العمل القاسية- عيشهم البسيط في خيام من البلاستيك يقيمونها بأنفسهم، وفي داخل الخيام وفي ساعات الراحة القليلة يتبادلون الأحاديث فيما بينهم، وأكثرها يدور حول العمل والذهب الذي يختلط البحث عنه بحكايات وخرافات ينسجونها من وحي خيالهم، ويرونها وكأنها حقائق.

انهيار المناجم.. جثث جماعية بين أيادي الشرطة

ينقل الوثائقي ما يتعلمه الأطفال والصبيان من عادات سيئة خلال عملهم، يشجعهم عليها الأكبر سنا منهم، وأيضا المشرفون على عملهم، وهم قلّما يظهرون في المشهد العام، وحال ظهورهم يُسمع صراخهم وشتمهم للعمال البسطاء، وتحت “رعايتهم” يبدأ الأطفال بتعلم عادة التدخين داخل الخيام، كما يجربون تناول المشروبات الكحولية التي يقدمونها لهم، وبسببها يتعرضون لحوادث تودي بحياتهم.

أطفال يعملون في نقل الصخور إلى الماكنة التي تقوم بطحنها

يثبت الوثائقي حقائق تشير إلى موت المئات في تلك المناجم أسبوعيا، بسبب الانهيارات الطينية وتساقط الصخور فوق رؤوس الموجودين في أعماقها من دون حماية كافية، فهم لا يملكون سوى ملابسهم البسيطة وأدوات شغلهم البدائية التي لا تتناسب مع خطورة عملهم.

كما ينقل صانع الوثائقي مشهدا يظهر فيه رجال الشرطة وهم يحملون جثث الموتى من دون السؤال عن أسباب وفاتهم أو التحقيق لمعرفة المسؤولين عنها. وتبدو الدولة غائبة تماما عن هذا الجزء من البلد، وكأن المقيمين فيه لا ينتمون إليها.

حفارة الرجل الأبيض.. مقارنة بين ظروف غير عادلة

من المفارقات التي تظهر في ثنايا الحوارات التي يتبادلها المراهقون فيما بينهم، ويشيرون في بعضها إلى شركات التنقيب الأجنبية العملاقة التي تسيطر على أغلب المناجم في بوركينا فاسو. ويختصرون توصيف أصحابها بعبارة “الرجل الأبيض” الذي لا يظهر أمامهم إطلاقا، أما حفارته العملاقة فحاضرة دوما، ولا تغيب عن أنظارهم، وهي التي تدفعهم للمقارنة بين ما تقوم به من عمل يختصر الزمن ويحقق النتائج المطلوبة، وبين ما ينجزونه هم بأنفسهم وبجهدهم الذي يستنزف كل طاقتهم وقوتهم.

الصبي راسمانَ يخاف النزول إلى أعماق النفق المظلم وحيدا

وهم يجبرون بسبب ضعف إمكانياتهم إلى النزول بحبال واهية إلى أعماق المناجم والحفر المعتمة ولخوفهم من السقوط في دهاليزها وأنفاقها المظلمة، ويوزعون عمليات النزول والحفر فيما بينهم ويقسمونها على مراحل، وكل مرحلة توصل إلى أخرى أكثر عمقا من التي سبقتها.

ولا يخفي “راسمان” خوفَه من النزول لوحده إلى الأنفاق المظلمة والمضي في حفر ما بقي منها، أملا في الوصول إلى صخور الذهب ورؤية عروقه المختفية داخلها. ومع الوقت وبسبب ظروف التنقيب الصعبة يظهر واضحا الضعف على أجساد الصغار منهم، ويصاب بعضهم بأمراض يعالجونها مؤقتا بشراء أدوية مهدئة للآلام من صاحب دكان يبيع الحاجيات البسيطة.

غنائم الحفر.. ثروات مخبئة في أعماق الصخور

اختار صانع الوثائقي عدم الاكتفاء بتصوير الأعماق، والخروج إلى السطح، لعرض مشهد أكبر للمستعمرة البشرية التي تتسع دون توقف، وإليها يأتي كل يوم آلاف من سكان البلد الباحثين عن فرصة عيش حياة أفضل من تلك التي يعيشونها في فقر وحرمان، يظهر من خلال أحاديثهم ومن وصفهم لبؤس المنغمسين فيه، والوافدين من كل صوب إلى المناجم، يحدوهم جميعا الأمل في الوصول إلى صخرة في الأعماق، فيها من الذهب ما يكفي لتبرير مغامرتهم المحفوفة بالخطر.

آلاف من سكان البلد الباحثين عن فرصة عيش حياة أفضل

ويعرض المشهدُ الخارجي بدقة بقيةَ الأعمال المكملة لجهد الحفارين والمنقبين، من خلال حصول “راسمان” على حصته من الصخور التي استخرجها مع زملائه من أعماق المنجم، والآن حان الوقت لمعرفة كمية الذهب فيها.

لذا يذهب إلى مطحنة بدائية يسحق صاحبها الصخور حتى تصبح ترابا يسهل الكشف عما في داخله من ذهب، ويقوم بعملية نقل الصخور إلى آلة الطحن أطفال في مثل سنه، أما أجورهم فهي مؤجلة دوما، بانتظار ما تسفر عنه نتائج البحث في التراب الذي ينقلونه بعربات بسيطة يجرونها على الرغم من ضعف أجسادهم، بينما يظل صاحب المطحنة يراقبهم ويقذفهم بالشتائم.

بائع الماء.. تجربة شخصية تصنع مشروعا سينمائيا

بعد عثوره على كمية قليلة من الذهب في تراب الصخور، يذهب الصبي من دون انتظار لبيعه، فيزن البائع كمية الذهب الصافي ويقدر قيمته بمبلغ يعادل 167 يورو لا أكثر، ولا يخفي الصبي فرحته بها، فيذهب إلى الساحة المحيطة بالمناجم، ليشتري بعض الحلوى، ويلعب بما يتوفر فيها من ألعاب بسيطة.

التعب والإرهاق يظهران على وجه الصبي

إلى جوار إحدى هذه الألعاب، يلتقي الصبي بالمخرج الشاب “بوبكر سنغاري”، فيشرع بالحديث معه عن تجربته الشخصية التي دفعته لإنجاز فيلم عن المناجم، ويركز فيه عليه بشكل خاص من دون البقية، لأنه يذكره بالفترة التي عاشها في المناجم.

فيخبره أنه حين بلغ 13 عاما جاء مع والده إلى أحد المناجم، ليبيع الماء للمنقبين عن الذهب، ويفرض عليه العملُ الذي يعيل به عائلته جلبَ الماء العذب من النهر بكميات كبيرة لا يقوى جسده النحيل على تحملها، وعلى الرغم من كل ذلك فقد ظل يعمل في هذه المهنة المتعبة فترات طويلة.

وبكشفه السبب وراء اهتمامه الشخصي بهذا العالم المجهول الذي اعتنى بنقله بأسلوب سينمائي بارع، جعل منجزه تحفة سينمائية أقنعت المشرفين على قسم “المنتدى” لعرضه في الدورة الماضية لمهرجان برلين السينمائي، وليضيف إلى سجل السينما في بوركينا فاسو فيلما جديدا فيه كثير من الجماليات المتأتية بالأساس من رهانه على الصورة (تصوير بارع لإيسو أيمانويل باتيونو)، لكونها وسيلة تعبيرية قادرة على نقل تفاصيل مشهد المناجم وتفاصيله الدقيقة، بما يغني عن كل قول.


إعلان