“منكوبون في غزة”.. علاجات السرطان الممنوعة بأمر من جيش الاحتلال

يعيش في غزة أكثر من مليوني فلسطيني، ويفرض عليهم الاحتلال الصهيوني حصارا من البرّ والبحر والجو منذ 2007، الأمر الذي عزلهم عن العالم بالكلية، وزادهم معاناة وفقرا وحرمهم من أبسط صور الحياة الإنسانية الطبيعية. وتخضع غزة منذ ذلك الحين لسيطرة حركة حماس الإسلامية، المصنفة صهيونيا وأمريكيا حركةً إرهابية.
لم يمهل القدرُ “آنا”، التي أعدت هذا الفيلم بعنوان “منكوبون في غزة”، فغادرت الدنيا قبل أن تشاهد ثمرة عملها، وقبل أن تشهد ما يحلُّ بغزة هذه الأيام من دمار وإبادة جماعية. وكلما مرّت صورة فلسطيني في ثنايا هذا الفيلم، الذي عرضته الجزيرة الوثائقية على شاشتها، أتساءل ما إذا كان هذا الشخص حيا الآن، أم اغتالته آلة البطش الصهيونية، أما المآذن والمنازل التي عرضها الفيلم فقد أمست أثرا بعد عين.
صور من معاناة مريضات السرطان في غزة
تعرضت غزة منذ 2008 لعدة حروب صهيونية أوقعت آلاف الشهداء في صفوف المدنيين الفلسطينيين، وخلّفت عشرات آلاف الجرحى، ودمرت البنية التحتية للقطاع، لدرجة أن الأمم المتحدة صنّفت هذه المنطقة الأكثر اكتظاظا في العالم بأنها غير صالحة للعيش في 2020. فكيف يكون تصنيفها اليوم بعد أكتوبر/ تشرين الأول 2023؟

تقول نيفين حَبّوب، (42 عاما): اكتشفتُ إصابتي بسرطان الثدي في 2012، ولا شك أن هذا قد أثّر في نفسي ولكنني- بحمد الله- تجاوزت المرحلة بصبر وإرادة، وأجريت عملية استئصال، وداومت على جرعات العلاج الكيميائي فترة، ولكن بعد سنة تبيّن أن السرطان انتشر في العظم.
وتتحدث عن عجزها وآلامها في ظل انعدام الأدوية قائلة: أعاني من تعب شديد عندما أتلقى جرعة العلاج الكيميائي، وأمكث مدة أسبوع أعاني من تبعات هذه الجرعات، ولأننا في قطاع غزة فقد تمر فترات طويلة نعاني فيها عدم توفر الأدوية بسبب الحصار الجائر، فهذا يزيد من آلامي، ويدفعني لتناول المسكنات الثقيلة من أجل تخفيف آلام العظام والمفاصل، وهي تجعلني عاجزة عن القيام بأي عمل.

وبحسب تقارير منظمة الصحة العالمية التي نشرت في 2018 و2019 فإن ما بين ألفين إلى 3 آلاف مريض شهريا يتقدمون بطلبات تصاريح للعلاج في الضفة الغربية أو القدس المحتلة، وهناك 40% على الأقل من هؤلاء تُرفَض طلباتهم أو لا يتلقون ردا من سلطات الاحتلال.
يقول راجي الصوراني، مدير مركز حقوق الإنسان الفلسطيني: يزعمون أن هذه الإجراءات العقابية هي بحق حركة حماس، ولكن المتضرر الحقيقي منها مليونا إنسان يسكنون القطاع، ممنوعون من حرية التنقل والحصول على الغذاء والدواء وأساسيات العيش الإنساني، إلا بإذن من سلطات الاحتلال الصهيوني.

أما نيفين المصابة بالسرطان، فتقول: أحاول الهروب من هذا الواقع المؤلم باتجاه مستشفيات القدس، ولكن المنع الأمني والإجراءات المتعنتة لقوات الاحتلال غالبا ما تحول دون حصولنا على هذه الفرصة، وهنا يظهر مدى الظلم الفادح الذي تمارسه دولة الصهاينة والعالم المنافق من خلفها، ممن يتغنون بحقوق الإنسان، ويمنعون أبسطها وأكثرها ضرورة عن سكان القطاع المحاصر.
ويتحدث الصوراني عن حجة الاحتلال الواهية قائلا: إنهم يمنعون أنواعا معينة من الأدوية والمعدات الطبية بحجة الاحتياطات الأمنية، وهذا محض هراء، فكيف لأنواع الأدوية والمستلزمات الطبية أن تشكل خطرا على “الأمن الإسرائيلي؟”، ولكنهم يمنعونها متعمدين عن المرضى عموما، وعن مرضى السرطان بشكل خاص.
“إسرائيل تعتدي على حياتي شخصيا”
في مركز البريج الصحي للنساء تحدثت إيمان النجار، (37 عاما) وهي مصابة بسرطان الثدي منذ 2017، عن ثلاث حالات سرطان في بيتها فقط؛ هي وأمها وأختها الكبرى، وقد توجهت مرارا لدائرة الشؤون المدنية من أجل الحصول على تصريح علاج، ولكن جميع طلباتها قوبلت بالرفض.

ومع أن هذا المرض بالغ الخطورة، فإن نسب التعافي منه مرتفعة جدا إذا حصل المريض على فرصة العلاج المناسب، ففي إسبانيا مثلا تصل نسبة التعافي إلى 90% خلال 5 سنوات، بينما لا ترقى هذه النسبة إلى 50% في قطاع غزة، بسبب الإجراءات العقابية التي تفرضها سلطات الاحتلال على القطاع.
تقول الدكتورة فريال ثابت، مديرة مركز البريج الصحي: كثير من النساء يفقدن حياتهن بسبب عدم توفر العلاج الكيميائي في المركز، ونتيجة لمنعها من العلاج في مستشفيات الضفة الغربية أو داخل الخط الأخضر، وتتذرع سلطات الاحتلال بحجج أمنية واهية، لتمنع معدات العلاج الإشعاعي من الدخول إلى القطاع.
وتقول إيمان النجار: إسرائيل تعتدي على حياتي شخصيا، وتهددني بالموت المحقق، نتيجةَ ممارساتها بمنع الدواء عني، ومنعي من السفر لأخذ العلاج في مكان آخر.

أما أختها نسرين حجو (38 عاما)، فهي تعاني من السرطان منذ 2017، وقد استطاعت الحصول على تصريح من سلطات الاحتلال للعلاج في القدس، وهي شقيقة إيمان من الأم والأب، ولكنها مسجلة باسم عائلة زوجها “حجو”، وقد سمح لها الاحتلال بالسفر ومنع شقيقتها.
وكانت نسرين تضطر للسفر عبر معبر بيت حانون كل 21 يوما، وتتعرض في الذهاب والإياب لتفتيش خارجي وداخلي دقيق، ولم تشفع لها إصابتها بهذا المرض الخبيث ولا نحول شعر رأسها من إعفائها من هذا التفتيش المُذل، فكانت تُجبَر على خلع جميع ملابسها، وتسليم جميع حاجيّاتها وعلاجاتها لتفتيشها بدقة.
ارتباط الأقارب بحماس.. ذنب يعاقب عليه جيش الاحتلال
تتحدث غادة مَجادْله، رئيسة المنظمة الإسرائيلية غير الحكومية “أطباء من أجل حقوق الإنسان”، قائلة: في النصف الثاني من عام 2018، بدأنا نتلقى إجابات من الجيش الإسرائيلي بأن مريضات السرطان والمريضات الأخريات ممنوعات من مغادرة القطاع، بحجة أن أحد أقاربهن ينتمي إلى حركة حماس. فتقدمنا بالتماس إلى المحكمة العليا، وكان قرارها بأنه لا يمكن للدولة أو الجيش حرمان هؤلاء النسوة من تلقي العلاج بحجة قرابتهن لأعضاء من حماس، وأن أي قرار من هذا القبيل يعد عقابا جماعيا لهؤلاء النساء، فلم نعد نتلقى رفضا من الجيش بحجة حماس، ولكنه كان يواصل رفض سفرهن، وهذه المرة بحجج أمنية مختلفة.

ويقول صالح حبوب، زوج نيفين: لا أجد مبررا لرفض سفر زوجتي نيفين من أجل العلاج، فهي لم تفعل شيئا يضر بأمن إسرائيل ولا تشكل تهديدا لهم، وليس لها علاقة لا بحماس ولا بغيرها، ولكن إسرائيل ترغب فقط برؤية المرضى الفلسطينيين وهم يتعذبون.
ففي أغسطس/آب 2019 سُمح لنيفين بالسفر عبر معبر بيت حانون للعلاج في مستشفى المُطَّلع “فكتوريا” في مدينة القدس لمدة يوم واحد، “كانت الرحلة مكلفة جدا ماليا ومرهقة نفسيا، ويذهب نصف النهار قبل أن تصل المستشفى نتيجة المرور عبر المعابر ونقاط التفتيش، وحتى الصلاة في المسجد الأقصى ممنوعة، لأنها تحتاج تصريحا خاصا”.

مع الأسف.. حتى السلطة الفلسطينية تساهم في معاقبة غزة
تقول الدكتورة فريال: لقد أثّر الانقسام الفلسطيني على حياة المواطنين رجالا ونساء، وخصوصا مستقبل الشباب وأحلامهم، وكذلك مكانة المرأة وحاجاتها الصحية، فعدم توفر العلاجات والأدوية وعدم وجود الكفاءات الطبية والتمريضية المباشرة هو نتيجة مباشِرة لهذا الانقسام السياسي البغيض، وهو ما دعا كلا من الطرفين إلى التنصل من مسؤولياته، وإلقاء اللوم على الطرف الآخر.
يُذكر أنه منذ العام 2007، وبعد فوزها في الانتخابات التشريعية، سيطرت حماس على قطاع غزة، وحصل الانقسام بينها وبين السلطة الفلسطينية في رام الله بالضفة الغربية، وهكذا أصبحت المنطقتان الفلسطينيتان تعملان كيانين منفصلين. أما ميزانية الصحة فهي إذن مسؤولية مشتركة، ولكن الجزء الأكبر منها بالطبع يقع على عاتق سلطات الاحتلال، والسلطة الفلسطينية التي مع الأسف تساهم في معاقبة غزة، كما يقول راجي الصوراني، مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان.
عائشة اللولو.. صبية يصرعها ورم الدماغ بعيدا عن والديها
تقول غادة مَجادْله، رئيسة المنظمة الإسرائيلية غير الحكومية “أطباء من أجل حقوق الإنسان”: في بداية 2018 أصدر جيش الاحتلال تعليمات جديدة تنص على أن كل طفل دون سن الخامسة يحتاج للسفر من أجل العلاج، فإن من حقه أن يحظى بمرافقة أحد والديه، ومع ذلك فإن 60% من القاصرين يضطرون للسفر للعلاج من دون والديهم، فبعضهم يسافر مع أقاربه، بينما يضطر البعض الآخر للسفر مع غرباء تماما.

فهذه الطفلة عائشة اللولو ابنة الأعوام الخمسة، قد أجريت لها عملية استئصال ورم دماغي في القدس، ولم يستطع أي من أفراد أسرتها مرافقتها لاستكمال العلاج، فتوفيت في مايو/ أيار 2019، ولك أن تتخيل إلى أين وصلت مهازل الاحتلال، وسياساته ضد أهل الأرض، فقد حرم والدَيْها من مرافقتها بسبب أن عمرهما أقل من 45 سنة.
وقد طلب فريق إعداد هذا الفيلم عبر الهاتف والبريد الإلكتروني إجراءَ مقابلة مع الهيئة الإسرائيلية التي تدير الشؤون المدنية في الأراضي الفلسطينية، وتمنح تصاريح الخروج، ولكنهم لم يتلقوا أي ردّ قط.
ويقول الدكتور الصوراني: يموت المرضى أمام أعين أحبائهم، ليس بسبب عدم وجود الدواء، ولكن بسبب أنهم ممنوعون من الحصول عليه، إنه أمر مشين للغاية في القرن الـ21، إنها شريعة الغاب يطبقها الاحتلال الصهيوني على أصحاب الأرض، ولا تُستدعى القوانين الدولية وحقوق الإنسان إلا عندما يتعلق الأمر بالمحتلين، لكن يضرب بها عرض الحائط عندما يتعلق الأمر بأصحاب الأرض الفلسطينيين.
هاجر حرب.. كفاح امرأة تواجه نفسها ومرضها والمجتمع
أصيبت هاجر حرب (34 عاما) بسرطان الثدي في 2017، وتلقت العلاج في الأردن، ثم عادت إلى غزة بعد عام، وهي تقول: كنت خائفة جدا من السرطان، وكان يعني لي الموت المحقق بسبب سوء الأوضاع العلاجية في غزة، وحاولتُ عدة مرات الحصول على تصريح للسفر عبر معبر بيت حانون ولم أنجح، وفي النهاية سُمِح لي بالتوجه إلى عمان، ولكن وحيدة، من دون مرافقة زوجي أو أحد أفراد عائلتي.

وتتابع: كنتُ أعمل مراسلة صحفية لإحدى القنوات العربية، ولكن بعد اكتشاف المرض، ورحلة العلاج الطويلة إلى عمان، أبلغتُ شركة الإنتاج التي كنت أعمل من خلالها القناة العربية أنني لم أعد قادرة على التغطية بسبب مرضي، وهكذا أُنهِيت مسيرتي المهنية، مما سبب لي جرحا نفسيا غائرا.
وقد كنت أتلقى دعما معنويا من عائلتي ومن زوجي في مرحلة ما، وكنت أشجع نفسي بعبارات مثل: أنا قوية، لن أموت، وسأتغلب على السرطان، كنت خائفة جدا عند دخولي العملية، هل ستنجح؟ وكيف ستكون التشوهات بعد العملية؟ وهل ستنجح عملية الترميم وزراعة السيليكون؟ وتجاوزت كل هذا، ولكن الطعنة كانت من حيث لا أتوقع، فقد تركني زوجي لأنه لا يريد مريضة بالسرطان، ثم تزوج بأخرى.

من المؤسف أن ثقافة المجتمع المحلي عن مريض السرطان أنه سينتهي به إلى الموت القريب، وفكرتهم عن مريضة سرطان الثدي أسوأ بكثير، فهي بنظرهم مشوهة ومنبوذة مجتمعيا ومستثناة من الحياة الطبيعية، وهذا بحد ذاته موت مركَّب. وكثير من الفتيات يخشين أن يخبرن أهلن أو أزواجهن أنهن مصابات بسرطان الثدي، خشية أن تنتهي حياتهن العائلية.
ولكنني لم أيأس، وأعتقد أن الحياة ستستمر، وقد يكون القادم أفضل، قد أحصل على فرصة عمل أخرى، وقد أتزوج مرة ثانية، المهم أن لا أفقد الأمل، وأبقي على روح التفاؤل.

أما نيفين حبّوب فكان زوجها مصدر أملها ودفئها، فكان يقف إلى جانبها في أحلك منعطفات حياتها، وكان قريبا منها في جميع محطاتها العلاجية، يساعدها في أعمال المنزل ويحضر لها الطعام. ولكنها في النهاية توفيت في 2020، فقد كانت محجورة في بيتها عدة أشهر بسبب جائحة كورونا، ولم تحصل خلالها على أي نوع من العلاج.
الرحمة لنيفين، وكذلك لـ”آنا” التي بدأت بإعداد هذا الفيلم وحلمت بمشاهدته، ولكن الموت لم يمهلها لترى ثمرة عملها، لكن روحها ستبقى ترفرف من خلال هذه الصور التي ظهرت في الفيلم، وإلى الأبد.