“قواعد اللعبة المجرية”.. لا صوت يعلو على أبواق الدعاية اليمينية
منذ تولي حزب “فيدس” الحكم بزعامة “فيكتور أوربان” عام 1998، وحرية التعبير في المجر (هنغاريا) في تراجع ملحوظ، فقد تقلصت مساحة الصحافة المستقلة فيها بشكل كبير بعد أن هيمنت الحكومة على معظم المؤسسات الصحفية العامة، وحولتها تدريجيا إلى أبواق دعائية تروّج لسياساته اليمينية وخطابه الشعبوي، مما دفع صحفيين ديمقراطيين لرفع أصواتهم احتجاجا ورفضا لتكريس الحزب وزعيمه نهجا متسلطا يعيق عمل الصحفي النزيه ويحد من حريته.
ذلك ما يكشف عنه الوثائقي الألماني الإنتاج، المجري الإخراج “قواعد اللعبة المجرية” (The Hungarian Playbook)، المعروض ضمن النسخة السادسة من مهرجان الجزيرة بلقان في سراييفو.
حرية التعبير.. حرب ضد أكبر أعداء الأنظمة الشمولية
يختار مخرجا هذا الوثائقي “بينتشي ماتي” و”آرون سينتبيتري” أسلوبا سينمائيا تحليليا، مكنهما من عرض المشهد السياسي المجري وتحولاته خلال ربع قرن من الزمان تقريبا، تميزت -بعد وصول “أوربان” لدفة الحكم على وجه التحديد- بالتراجع عن الديمقراطية التي طالب الشعب بتكريسها أسلوبا للحكم، بعد سنوات من الحكم الشمولي الشيوعي.
أما اليوم ففي ظل حكم حزب “فيدس” أصبحت الديمقراطية تواجه أخطار جدية، من بينها تحجيم حرية التعبير، وحرمان الصحافة المستقلة من العمل في ظروف طبيعية.
ولفهم طبيعة تلك الأخطار يستعين صُناع الفيلم بعدد من الخبراء المختصين في حقل الإعلام، ويوثق في الوقت نفسه شهادة صحفيين عارضوا سياسة الحزب، وكشفوا عن الخطط التي وضعها زعيمه للحد من دورهم، وهي لم تنجح في التقليل من عزيمتهم وإصرارهم على العمل في القليل الباقي من مؤسسات إعلامية صغيرة تتصف بالنزاهة والعمل الشجاع على فضح الفساد المستشري في كل مؤسسات الدولة وعلى رأسها المؤسسات الإعلامية، وهو فساد هيكلي يكرسه “أوربان” من أجل تعزيز سلطته وهيمنته.
ولتسهيل فهم دور الحزب وزعيمه في تقليص حرية التعبير في المجتمع، يُقسم المخرجان فيلمهما إلى فصول، كل فصل منها يتناول جانبا من المشهد الإعلامي بعد سقوط النظام الشيوعي. ويسبق الولوج إلى الفصل الأول بمقدمة تاريخية تحليلية حول دور حزب “فيدس” السياسي، وأبرز الشخصيات التي جعلته واحدا من أقوى الأحزاب المجرية.
“فيدس”.. إمبراطورية مالية يخذلها الإعلام والصناديق
يعود الوثائقي إلى فترة التسعينيات من القرن المنصرم، وبروز الحزب خلالها ممثلا للنخب الليبرالية المجرية، وللمثقفين الشباب وبشكل خاص القادمين من خارج العاصمة. وقبل هذا التاريخ ومنذ تأسيسه في نهاية الثمانينيات، كان له أيضا دور مهم في التحولات الحاصلة في البلد آنذاك، إلى جانب توافق خطابه السياسي والتعبوي مع رغبة الشعب في عيش تجربة ليبرالية جديدة، بعيدة كليا عن التجربة الشمولية للحكم الشيوعي.
ومن بين أشهر قادته يبرز اسم “أوربان”، وإلى جانبه يُذكر دائما اسم صديق طفولته “لايوش سميشكا”، ولخبرته الاقتصادية يتولى “سميشكا” مسؤولية رسم السياسة المالية للحزب، ويدرك أنه -من دون هيمنة اقتصادية- لا يمكن للحزب الوصول إلى السلطة والتحكم بها، لهذا يدفع كل نشاطه بهذا الاتجاه، وقد أثمر ذلك عمليا عن بناء إمبراطورية مالية يمتلكها الحزب، ويكرسها لخدمة أهدافه.
في الوقت نفسه كان “أوربان” يكرّس داخل الحزب سياسة ليبرالية محافظة يمينية التوجه، وفي وقت لاحق يحقق عمله هذا نجاحا مهما للحزب في انتخابات عام 1998، وعلى ضوء نتائجها يصبح رئيسا للوزراء، لكن خلافا للتوقعات يخسر الحزب الانتخابات البرلمانية بعد 4 سنوات، خلال انتخابات عام 2002، فتحيل زعاماته سبب الفشل إلى ضعف دعم وسائل الإعلام لحزبهم.
صراع الأباطرة.. خلافات حادة بعد العودة إلى الحكم
يقترح “سميشكا” استثمار أموال الفساد التي حصلوا عليها خلال حكمهم في بناء إمبراطورية إعلامية، تعود عليهم بالفائدة وتعيد حزبهم مرة ثانية إلى الحكم، فينشط رجل الأعمال المحنك لتأسيس شبكات إعلامية كبيرة تروج لسياسة الحزب وأفكاره.
وفي انتخابات عام 2010 تؤتي تلك السياسة أكلها ويعود “فيدس” ثانية إلى الواجهة حاكما للبلاد، ويصبح الطريق أمام قادته معبّدا لفرض سياسة إعلامية جديدة، يدشنونها بإصدار قانون جيد لتنظيم الإعلام، تتوافق نصوصه مع توجهاتهم للسيطرة المطلقة عليه، وتؤدي في الوقت ذاته إلى إضعاف مبادئ حرية الصحافة وقيمها الحقيقية.
ولتحقيق خطته عمليا، يشترى “سميشكا” أغلب المنصات الإعلامية، ويستحوذ على حوالي 80٪ منها. أما المؤسسات الإعلامية العامة، فإن الحكومة تقرر دعمها ماليا، لتكون هي الجهة الممولة الوحيدة لها، وبذلك تضمن سيطرتها عليها، فتملي على مسؤوليها سياستها، وحتى أشكال كتابة محرريها للأخبار والتقارير.
وبعد فوز الحزب في انتخابات 2014، تظهر على السطح فجأة خلافات بين الزعيمين، وتصل إلى حد تبادل الشتائم بينهما علنا، فيهاجم الاقتصادي الملياردير “سميشكا” السياسي “أوربان”، ويصفه بأنه الرجل الذي حول المجر إلى دولة مافيا.
بدأت آثار الخلافات تظهر سريعا بعد ترك كثير من إدارات المؤسسات الإعلامية للحزب وذهابها نحو المعارضة، الأمر الذي أخاف “أوربان” من خسارة موقعه وامتيازاته الهائلة، فقرر العمل على تأسيس إمبراطورية إعلامية جديدة، تبدأ بالسيطرة من الداخل على المؤسسات العامة، والتحكم بسياساتها التحريرية كما يريد.
إعلام الشباب.. برامج سطحية توافق سياسة الحكومة
كانت المؤسسات الإعلامية العامة (التلفزيون والإذاعة والصحف) أولى الجهات التي تَقرر اختراقها من الداخل، وإخضاع سياساتها التحريرية لرقابة صارمة. كما تَقرر تحويل القناة التلفزيونية الأولى إلى قناة إخبارية تبث لمدة 24 ساعة، ومن أجل ملء أوقاتها استعانوا بصحفيين شباب لا خبرة لديهم بالعمل الصحفي، أما المخضرمون من الصحافيين فأُبعِدوا.
ويُرجع الخبراء سبب إقبال الشباب على العمل في المؤسسات الجديدة إلى كونها فرصة مناسبة لهم يحققون بها طموحهم الشخصي في العمل الصحفي من دون تأهيل دراسي أو أكاديمي، وحتى بالنسبة للدارسين هي فرصة نادرة لهم، كما في حالة الشابة “كريستينا”، القادمة من عائلة غجرية فقيرة، وهي الوحيدة التي استطاعت من بين أفرادها إنهاء دراستها الجامعية، والعمل في حقل لا تتوفر لأبناء جلدها عادةً فرصُ الوصول إليه.
ومن خلال هؤلاء الشباب، سيكون سهلا إعداد برامج سطحية وكتابة تقارير صحفية تتوافق مع سياسة الحكومة، وبذلك تتحول المؤسسات الإعلامية إلى أبواق دعائية لها.
سياسة التحرير.. إملاءات عنصرية ورقابة صارمة
من بين ما يكشفه الصحفيون المعاندون للتوجه الحكومي، أن الحكومة فرضت رقابة صارمة على إعداد التقارير التي تمس موضوعات حساسة بالنسبة إليها، مثل الهجرة السورية التي تصاعدت موجاتها خلال عام 2015، ووقفت الحكومة المجرية ضدها، ومنعت وصولهم عبرها إلى دول غربية مجاورة.
وثمة مسؤولون غير مرئيين يديرون الإعلام في غرف مغلقة ويأتمرون بأوامر “أوربان”، يطلبون من إدارات المؤسسات الإعلامية العامة عدم نشر صورة للمهاجرين يظهر فيها الأطفال، حتى لا يتعاطف الناس معهم، وعليه فقد أوصوا بنشر صور الشباب منهم فقط، والإيحاء بأن هؤلاء “المسلمين” سوف يغزون أوروبا، ويحولونها إلى دول إسلامية.
وتذكر الصحفية “كريستينا” أن رئيس التحرير طلب منها كتابة تقرير مضخم عن الأمراض الخطيرة التي ينقلها اللاجئون معهم إلى البلد، ويمكن أن تسبب في موت الهنغار!
ويقدم الصحفي المستقل “أندراس” شهادة مثيرة تكشف الرقابة المشددة التي فرضت عليهم، فكانت الإدارة تمنعهم من إدخال هواتفهم المحمولة معهم إلى الاجتماعات التي يحضرها رؤساء التحرير، خشية من تسريب محتوياتها إلى الناس، مما يؤدي إلى كشف توجهاتهم اليمينية والشعبوية المبنية على الأكاذيب لا الحقائق، وبشكل خاص تلك المتعلقة بقادة سياسيين مثل الرئيس الروسي “بوتين” الذين يريدون تقديمه للرأي العام المجري بوصفه واحدا من أهم قادة العالم، والأمر نفسه ينطبق على الرئيس الأمريكي السابق “ترامب”، إذ يمنعون عليهم نشر أي خبر يسيء إلى توجهاته اليمينية والشعبوية المتقاربة مع سياسة الحكومة.
تهديد الصحفيين واختراق الهواتف.. ألاعيب المخابرات
يتعرض الصحفيون المعارضون لتهديدات من قبل أجهزة المخابرات، حتى أنها تجبر بعضهم على ترك عمله أو الاستمرار به في جو يحيطه الخوف. وينقل “أندراس” ما عملت المخابرات أثناء تحضيره لمقال استقصائي، يكشف الهدف الحقيقي من عملية انتقال بنك روسي إلى العاصمة بودابست، ويتوصل إلى حقيقة أن وراء الانتقال وحدة مخابراتية روسية تخطط للعمل وراء واجهة البنك المزعوم.
يتضح للصحفي أن هاتفه المحمول قد اخترقه رجال المخابرات أكثر من مرة، وذلك من خلال برنامج “بيغاسوس” للتجسس، الذي مكّنهم من الوصول إلى معلومات خاصة بالتقرير، كانت محفوظة فيه. ويذكر أن تهديدات كثيرة كانت تصله وتطالبه بالتوقف عن كتابة التقرير، وأنه في حالة رفضه سيواجه صعوبات جدية.
والأمر نفسه يجري مع المصور الفوتوغرافي “دانييل نيمت” الذي يعمل لصالح منصة مستقلة تسعى لكشف التواطؤ الحاصل بين السياسيين الفاسدين من جهة، وبين رجال الأعمال والطُغم المالية القريبة من الدائرة الضيقة لـ”أوربان” من جهة أخرى.
فبعد كشفه عن رحلة ترفيهية ينظمها رجل أعمال على متن يخته الفاخر لوزير الخارجية المجرية، يتعرض المصور للتهديد، ويقرر معهد التصوير المجري التابع للدولة سحب عضويته منه.
أما الصحفية “كريستينا” فبعد معرفتها بسوء ما تنجزه من تقارير كاذبة، قررت ترك العمل الصحفي، لشعورها بالخجل منه. ولضمان عيشها، تخطط للرحيل من بلدها إلى النمسا، للعمل هناك مضيفةً في أحد المطاعم السياحية.
“أوربان”.. ملتقى المصالح المحمي من المحاسبة
يكشف الصحفيون النزهاء فساد الدولة وإضعافها الممنهج، ويتهجم “أوربان” على دول الوحدة الأوروبية المطالِبة بكشف أوجه صرف مساعدات دولها إليه، إذ تحيطها شكوك حول استغلالها لتقوية النفوذ الشخصي، وتقزيم المعارضة والإعلام المستقل، ومع كل ذلك يظل “أوربان” بعيدا عن المحاسبة، فما هو السبب؟
يستعين الوثائقي بخبراء ومستشارين سابقين عملوا في بروكسل، ولاحظوا وجود دول تميل إلى منع محاسبته، لأسباب ذات علاقة بالمصالح المشتركة التي تربط مؤسساتها الصناعية وشركاتها العملاقة بالحكومة المجرية.
ويشير المستشار السابق “لوك فان ميدلار” إلى الامتيازات الهائلة والتسهيلات المقدمة للشركات الألمانية العاملة في المجر، وهي تتجاوز الأطر المحددة لها داخل الوحدة الأوروبية، وبذلك يؤمّن لها أرباحا سنوية بالمليارات. وفي الجانب السياسي، تدعم أحزاب أوروبية يمينية ناشطة -تتشارك مع توجهات حزب “فيدس”- مواقفه التي تضمن لهم نفوذا سياسيا أقوى داخل الوحدة.
تحركات الشوارع.. آمال الخروج من عباءة الفساد
مع كل الأوضاع الجارية، لا تعرف السياسة الثبات على حال واحد، فيأمل الصحفيون المعارضون للحكومة ومن بينهم الناشط الإعلامي “سابوليتس باني” الذي بدأ العمل بمنصة إعلامية بسيطة بعد تركه المؤسسة الرسمية التي كان يشتغل فيها، أن تتسع المواقف الشعبية المتعارضة مع موقف “أوربان” الداعم لـ”بوتين” في حربه ضد أوكرانيا.
وقد بدأت مؤشرات ذلك تظهر في شوارع المدن المجرية، من خلال حركة سياسية نشطة تطالب الحكومة بالابتعاد عن الموقف الروسي، وبالتضامن بدلا من ذلك مع الطرف المُعتدى عليه.
وفي الجانب التعبوي ينشط صحفيون مستقلون للكشف عن فساد الطغمة المالية القريبة منه، فهي تسرق أموال دول الوحدة الأوروبية المخصصة للتنمية والإعمار.
وعلى المستوى الحياتي والمعيشي، تنقل الصحافة المستقلة مطالبة الناس للحكومة بتحسين أحوالهم المعيشية حقا لا قولا فقط، بما يسمعون عنه يوميا عبر أبواقها الإعلامية التي بات الكثير منهم لا يصدقها ولا يصدق من يملكها ويسطر عليها.