“ليلة مظلمة”.. مراهقون مغاربة يسبحون عكس التيار بحثا عن الحياة

يزاوج فيلم “ليلة مظلمة- وداعا هنا، في أي مكان” (Nuit obscure – Au revoir ici, n’importe où) للمخرج الفرنسي “سيلفان جورج” بين الجانب الجمالي والسياسي، ولا يفرّط في أي منهما. وقد نوّهت الناقدة والمنظِّرة السينمائية السويسرية “جورجيا ديل دون” إلى أنّ هذا الفيلم الوثائقي المتفرّد قد “صوّر بألوان سوداء وبيضاء مهيبة، ترفع مغامرات أبطال الفيلم إلى لوحات ضخمة مفعمة بالحيوية بنكهة كارافاجيو”.

لكنها لم تذهب أبعد من ذلك، مُفترضة أن القارئ الكريم مطلّع على التجربة الفنية والجمالية لفنان كبير مثل “مايكل أنجلو ميريزي” المُلقب “كارافاجيو”، الذي أضفى جوا دراميا على مَشاهد لوحاته التشخيصية الواقعية، مُستثمرا ثنائية الضوء والظل، وما ينطويان عليه من تضادٍّ كبير يُحسن استعماله بطريقة فنية لافتة للانتباه.

سبتة ومليلية مستعمرتان إسبانيتان في أراضي المغرب العربي

فمَن يرى هذا الفيلم الوثائقي الطويل (3 ساعات)، سيتيقّن منذ اللحظة الأولى بأنه يُشاهد تُحفة بصرية على صعيد التصوير والمونتاج ومعالجة فكرة الهجرة بمعناها الإنساني، آخذين بعين الاعتبار أنّ هذا الفيلم ينتمي إلى “سينما المؤلف”، لأنّ “سيلفان جورج” هو الذي كتب السيناريو، وصوّر أحداث الفيلم بتأنٍ، خلال ثلاث سنوات أو يزيد.

وقد منتج الفيلم بنفسه، ليظهره بهذه الصورة الآسرة التي تشدّ المتلقي، وتجذبه إلى العوالم الداخلية لشخصياته المتأرجحة بين عالمي الطفولة الغضة والمراهقة التي غادرت براءتها الأولى. ويشارك هذا الفيلم ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة للدورة السادسة لمهرجان الجونة السينمائي لعام 2023.

مليلية.. جيب إسباني في عنق القارة السمراء

لا بد من الإشارة إلى أنّ “ليلة مُظلمة” هو القسم الثاني من الفيلم الوثائقي الطويل “ليلة مُظلمة.. أوراق متوحشة” (Nuit obscure – feuillets sauvages)، الذي بلغت مدة 265 دقيقة، ويرصد فيه المخرج “سيلفان جورج” مدينة مليلية التي احتلها الإسبان في مطلع القرن العشرين، وجعلوها -مثل شقيقتها سبتة- جيبا إسبانيا في المغرب، ونقطة حدود برّية بين القارة الأفريقية وأوروبا.

فقد رآها المخرج منطقة عازلة تصلح لعرض ودراسة سياسات الهجرة الأوروبية، وتحدياتها الخطيرة، وعواقبها الوخيمة، أمام جيوش من الأطفال والمراهقين والشباب الذين لا يكتفون بحرق هُوياتهم وأوراقهم الثبوتية الرسمية، بل يحرقون أنفسهم، ويحرقون البحر مجازا، في إشارة إلى التحدي الأسطوري الذي يحملونه في أعماقهم. وثمة أفلام أخرى كرّسها “سيلفان” لوضع المهاجرين في مدينة كاليه الفرنسية من بينها “دعهم يستريحون في الثورة” (Qu’ils reposent en révolte) و”شظايا” (Les éclats).

ولا يحتاج المتلقي إلى عناء كبير ليعرف بأنّ هؤلاء المهاجرين قد أحرقوا كل شيء خلفهم، وباتوا يتطلعون إلى القارة الأوروبية، ويرونها فردوسا مفقودا يمكن أن يعثر عليه المغربي خاصة، والأفريقي على وجه العموم، كإسبانيا وفرنسا وبلجيكا وغيرها من بلدان الرفاه الاجتماعي، وقد تعرّفوا عليها عن طريق صور ورسائل تصلهم من أناس سبقوهم في خوض مغامرات الهجرة والرحيل إلى مختلف أرجاء القارة الأوروبية، فهي توفّر لهم دراسة اللغة والعمل واشتراطات العيش الرغيد، من وجهة نظرهم في أقل تقدير.

ولا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار أنّ “سيلفان جورج” هو رجل فلسفة وقانون وعلوم سياسية، قبل أن يكون مخرجا سينمائيا، وهو مُلمّ بقوانين الهجرة واللجوء، ويعرف سياساتها وأبعادها الاجتماعية والنفسية عن كثب، وقد حاول في بادئ الأمر أن يصنع فيلما عن

بوستر الفيلم

سياسات الهجرة والتحديات التي تواجه الدول الأوروبية على وجه الخصوص، لكنه حين شاهد “الحرّاقة” وتعرّف على سبل عيشهم في مدينة مليلية، غيّر رأيه وبدأ يرصد لياليهم المظلمة والغامضة على حد سواء.

فقد تبدو حكاية الفيلم أفقية يدور أبطالها في شوارع المدينة، من دون أن يغوصوا فيها أو يتعالقوا مع سكّانها، لأنهم طارئون عليها، ومُقيمون فيها إقامة قصيرة خاطفة لا تتعدى الانتظار المؤقت. فثمة 14 طفلا وشابا أو أكثر علقوا في مدينة مليلية، لكنهم يصرّون على تحقيق حلم الوصول إلى أوروبا، مهما كان الثمن باهظا.

قصة الفيلم.. بحث عن بارقة أمل خلف الأمواج الهائجة

لا يعتمد المخرج “سيلفان جورج” على تقنية “الرؤوس المتكلمة” في هذا الفيلم، فقد أراد التعرّف على شخصياته، والتعايش معهم، وفهم ما يدور في أذهانهم ومشاعرهم الداخلية التي لا يجدون حرجا في البوح بها، والتصريح بها جهارا نهارا.

ولكنه سيلجأ إلى هذه التقنية في المَشاهد الأخيرة، حينما يتعارف اثنان من أبطاله، ويبوحان بكل شيء دفعة واحدة، ناقمينَ على حكومة البلد الغارقة في السرقة والفساد، ومُنتقدين إياها لأنها لم تفعل شيئا لانتشال أطفال المغرب وشبابهم من المحن المتلاحقة التي تطوّقهم من الجهات الأربع، ولم تترك لهم بارقة أمل في الأفق البعيد الذين يتطلعون إليه من خلف أسوار سبتة ومليلية المُحتلتين منذ قرن وبضع سنوات.

السريع الذي يشقّ وجه البحر، وانتهاء بمَشاهد العوم ومراوغة زوارق الحرس المدني وخفر السواحل. فعظمة الصخور القوية، وجمال الأبنية الكلاسيكية القديمة، وخطر الأمواج الهائجة لا بد أن تُشعر الإنسان بضآلته وهشاشته أمام قوة الطبيعة وجبروتها.

ومع ذلك فإن هؤلاء الفتيان العالقين في مليلية يراهنون على قوة الأمل بإمكانية الوصول إلى أوروبا، بواسطة إحدى السفن المتجهة إلى الفردوس الضائع الذين يبحثون عنه في أحلام اليقظة والمنام، وربما تكون باليريا أو آرسماس أو غيرهما من السفن العملاقة هي الوسيلة الوحيدة التي تأخذهم إلى منجم الأحلام السعيدة.

يوميات المراهقين.. مرح وحياة مزرية في العالم الموازي

صوّر كثير من لقطات الفيلم ومَشاهِده من الأعلى بتقنية “عين الطائر” الذي يهيمن على المك

ان ويتسيّد عليه. فهؤلاء الفتيان يعيشون عالمهم الخاص، ولا يفكرون بالماضي إلاّ قليلا، باستثناء الشخصيتين اللتين تعرفتا على بعضهما، وبدأتا البوح والمكاشفة.

مهاجر مغربي على شواطئ سبتة ومليلية لا يجد مأوى يلجأ إليه

فما يهم المراهقين الشباب هو عيش يومهم فقط، وإشباع بطونهم الجائعة من صناديق نفايات يلفظها أبناء هذه المدينة التي تحتضنهم، على الرغم من احتجاجات السكّان ضدهم في كثير من الأحيان، فهؤلاء الشباب يلوذون بهامش المدينة ليلا، ويخبئون ملابسهم وبطانياتهم تحت أغطية المجاري.

وهم لا يجدون ضيرا في النوم على أغصان الأشجار، أو بين صخور الشاطئ، أو على مقربة من أوتار القصب التي تحتضن مخلّفات طعام شهيّ يتفننون في إعداده ضمن عالمهم “الموازي”، الذي صنعوه بأنفسهم في مواجهة العالم الإسباني الغارق في ترفه واسترخائه وهدوئه المطلق وراء أسواره وحواجزه الأمنية واللغوية والاجتماعية.

على الرغم من حالة المرح التي يعيشها مهاجرو المغرب، فإن ذلك لا يمنع من تعرّضهم للضرب وسوء المعاملة الإنسانية

وعلى الرغم من تكيّفهم الغريب وحالة المرح التي يعيشونها، فإن ذلك لا يمنع من تعرّضهم للضرب والتحرّش الجنسي وسوء المعاملة الإنسانية، فالشرطة الإسبانية لا تتورع عن تكسير أيديهم وأرجلهم، إذا ضبطتهم وهم يتسللون، أو يرتكبون مخالفات قانونية، فقد ضربوا ذات مرة أحد الجزائريين حتى أصبح مثلا تتناقله الألسن بين صفوف “الحرّاقة” الباحثين عن كوّة للخلاص.

وقد يتشاجر هؤلاء المراهقون على أبسط الأشياء، مثل خيط سنّارة قطعه أحدهم، أو لقمة طعام خطفها جائع، ولا غرابة في أن يتبادلوا كلمات نابية، لا يمكن أن تسمعها إلاّ في حياة الهامشيين والسوقيين الذين نبذهم المجتمع، وعوّدهم على هذه اللغة البذيئة. وعلى الرغم من بؤس حياتهم فإن بعضهم يتصارع على الزعامة، ويحاول أن يقود الآخرين كلما سنحت له الفرصة.

“الأسماك الميتة تتبع التيار”.. كفاح من أجل الحياة

وإذا كان خط السرد في الأرباع الثلاثة الأولى من الفيلم أفقيا ولا يحاول الغوص إلى أعماق الشخصيات، فإن الربع الأخير أخذ على عاتقه هذه المهمة وتبنّاها، فراح يتوغل في شخصيتين اثنتين تعرّفا على بعضهما، وراحا يبوحان من دون خشية أو تردد وهما هشام ومالك.

مهاجر مغربي يحاول تسلق أحد الجدران العالية في سبيل الوصول إلى الميناء لعل باخرة تقله إلى أوروبا

وقد اختصر هذان المراهقان كل ما يدور في أذهان الباقين من الأطفال والشباب الذين تركوا المغرب وتسللوا إلى مليلية، وعاشوا حياتهم يوما بيوم، وساعة بساعة مُحققين الكثير من البهجة والسعادة على الرغم من المعاناة القاسية، مُنتزعين الفرح من أشداق اليأس والبؤس والانكسار النفسي الذي يمكن أن يمرّ به كل مراهق على انفراد.

ولا يجد المتلقي صعوبة في فهم أنّ هؤلاء الصبيان والشباب المغاربة قد تركوا بلدهم الذي فشل في تلبية احتياجات أبنائه وتطلعاتهم، بل أنجب أبناء خرجوا عن الطريق المستقيم، وانحرفوا صوب المخدرات والمشروبات الروحية التي تفقدهم حواسهم لبعض الوقت، لكنهم سرعان ما يغادرون الوهم الذي سقطوا فيه، حين يتخلصون من نشوة هذه السموم والمُسكِّرات.

مراهقون مغاربة هربوا من قسوة العيش في بلادهم إلى حياة التشريد في بلاد الغربة

ويلتقط المخرج شعارا مجازيا مهما مفاده أنّ “الأسماك الميتة تتبع التيّار”، بينما الأسماك الحيّة تسبح عكس التيّار مُعاندة إيّاه، ومتحدية له. وكأنّه بتأكيده على هذا الشعار يحرّض اللاجئين على المضي في المغامرة إلى أقصاها.

“لا شيء يمكن أن أعمله هنا”.. فرار من الوطن إلى الحرية

تتكرر كلمة “الحرية” أكثر من مرة حتى أنها تتقدّم على عبارة “العيش الرغيد”، فالحرية هي أثمن شيء في حياة الكائن البشري. ولا يخلو الحوار بين الشخصيتين من أسئلة جوهرية مهمة من بينها: لماذا تريد أن تغادر هذا المكان؟ فيأتي الجواب سريعا وخاطفا وكأنه لا يحتاج إلى تفكير عميق: لا شيء يمكن أن أعمله هنا، سأحصل على أوراقي في مركز اللجوء، ثم أنغمس في العمل.

وحين يسأله عن رأيه بشرطة مليلية المتشبِّعين بالنَفَس العنصري يجيب: إنهم عنصريون حقا، يكسّرون أيدينا وأرجلنا، ويضربوننا بالعصي ضربا مُبرِّحا، ولكننا مصرّون على الوصول إلى الضفة الآمنة التي نحلم بها.

مخرج فيلم “ليلة مظلمة” الفرنسي “سيلفان جورج”

ولا ينكر هؤلاء الصبيان والشباب الإحباطات التي يشعرون بها، والانكسارات التي تُثبط عزائمهم، كشعورهم بخيانة بعض الناس الذين يتعرّفون عليهم معرفة خاطفة، ولا غرابة في أن يطعنهم البعض في الظهر، أو لا يُبدي لهم القدر المطلوب من الاحترام، أو لا يشفق عليهم ولا يُحيطهم بمشاعر الحُب الصادق والمودة العميقة. ومع ذلك فهم ماضون جميعا في الحلم الذي قد يبدو نائيا وعسيرا.

قبس التاريخ والغناء والشعر.. دلالات السرد العميقة

ما يميّز هذا الفيلم هو تعالق ما وراء السرد مع التاريخ القريب تارة، ومع الشعارات الثقافية والفكرية والسياسية الراهنة تارة أخرى، ومع الأغنية المُحرِّضة حينا، ومع القصيدة الساخطة حينا آخر.

ففيما يتعلق بالتاريخ، يُرينا المُخرج البيت الذي أقامَ فيه “فرانثيسكو فرانكو باهاموند”، الضابط الذي شارك في جهود الإنقاذ لمليلية سنة 1921م، وسوف يصبح هذا الضابط أعتى دكتاتور عرفته أسبانيا في العصر الحديث.

تحت صخور البحر في سبتة ومليلية وفي أماكن لا تصلح للحياة، يعيش الشباب المهاجرون بانتظار فرصة رحيلهم

أما الشعارات، فقد توقفنا سلفا عند شعار “الأسماك الميتة تتبع التيّار” وأوضحنا المعنى العميق الذي ينطوي عليه. في حين تأخذ الأغاني منحى آخر يدعو صراحة إلى فتح الحدود بين الدول، على أساس أننا جميعا إخوة وأخوات، ونشترك بمصير واحد في هذا الحياة القصيرة الفانية.

وفي خضمّ هذا الجو الساخط الذي يعيشه الراغبون بالهجرة، لا نستغرب أن تصف كلمات الأغنية بأن بلدهم الأصلي غابة ممتلئة بالكذابين واللصوص، الذين ينهبون ثروات البلد ويتمتعون بها من دون خجل أو وجل.

“الطائشة ذات الأسنان”.. قصيدة تقطر بآلام الباحثين عن الهجرة

يُنهي المخرج “سيلفان جورج” فيلمه بقصيدة تنطوي على مضامين متفرقة ساخطة، تصب جام غضبها على من كانوا السبب في تدهور الأوضاع. ويبدو أن الشاعر الذي كتبها -وقد يكون أحد الحالمين بالهجرة- ينتمي إلى الحياة الهامشية الفقيرة التي لا يجد أصحابها ما يسدّون به رمقهم، إذ يقول فيها وهي بعنوان “القصيدة الطائشة ذات الأسنان”:

“نحن الأطفال المتوحشون، الحيوانات الجامحة

نحن ما يُخيفهم أيها الأطفال

نحن ما لا تريده

أيتها البذرة في مهب الريح، العُشب في الجدار، الحصاة في الحذاء، الفايروس المتجول، العنبر الخصب..

لقد تركتمونا أيها الآباء الأعزّاء، والأمهات العزيزات..

يبدو الأمر كما لو كنّا ميتين قبل أن نولد لكن لا يمكننا أن نشكركم بما فيه الكفاية

الطيور في اليدين، أزهار الليل في الجيوب

لقد سئمنا بما فيه الكفاية حتى لا نستطيع إنقاذكم بعد الآن

نحن أقوياء بما فيه الكفاية لاحتضان الأمواج

وأسمعهم يصرخون علينا مثل أيدينا وأرجلنا وأقدامنا تتسلق شواطئ زرقاء جديدة.

“سيلفان جورج”.. خلفية فلسفية لصانع الوثائقيات الاجتماعية

من الجدير بالذكر أنّ المخرج “سيلفان جورج” من مواليد ليون في فرنسا، وقد حصل على شهادات في الفلسفة والقانون والعلوم السياسية والسينما من جامعة السوربون، وأنتج أفلاما وثائقية حول موضوعات الهجرة والحركات الاجتماعية منذ عام 2006.

وقد أنجز عددا من الأفلام القصيرة نذكر منها:

“لا تدخل الليل بدون عنف”. “سيقتلوننا جميعا”. “وجه أمي السوداء”.

كما أخرج عددا من الأفلام الروائية الطويلة وهي على التوالي:

  • “المستحيل.. صفحات ممزقة”.
  • “دعوهم يرتاحون في الثورة”.
  • “شظايا”.
  • “باريس عيد متحرك”.
  • “نحو مدريد.. الضوء المحترق”.
  • “ليلة مظلمة.. أوراق متوحشة”.
  • “ليلة مظلمة، وداعا هنا، في أي مكان”.

إعلان