“أهالي السماوة”.. حنين إلى القرن الأخير من تاريخ يهود السماوة
عاش اليهود في العراق قرابة 2670 سنة، فقد سباهم الآشوريون سنة 722 ق.م وخاصة الأسباط العشرة، وهم القبائل الضائعة بحسب العقيدة اليهودية من أصل 12 قبيلة تعرضت للسبي في ذلك التاريخ.
كما ينضاف إليه السبي البابلي الأول والثاني الذي قام به نبوخذ نصر لآلاف من يهود أورشليم الذين نقلوا إلى بابل سنة 597 ق.م ومُنعوا من العودة إلى فلسطين، لكن الأمور تغيّرت بعد سقوط الإمبراطورية البابلية على يد قورش الكبير، فسمح لهم أو وعدهم بالعودة إلى القدس كما تقول الكتب والمصادر التاريخية.
وهذا تاريخ طويل لم يستطع مخرج الفيلم هادي ماهود أن يتناوله أو يغطّيه، بل انصبّ تركيزه على المئة سنة الماضية التي عاش فيها اليهود العراقيون مكوّنا أساسيا وفاعلا في مختلف مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية وما إلى ذلك.
ومع أنّ اليهود العراقيين عاشوا في المحافظات والمدن العراقية الكبيرة وبعض القرى في شمال العراق تحديدا، فإن المخرج هادي ماهود قد ركّز على بعض اليهود الذين سكنوا محافظة السماوة، وتعايشوا مع أهلها، واندمجوا بنسيجها الاجتماعي إلى درجة التماهي، وصار من الصعوبة بمكان أن تفرّق بين اليهودي والمسيحي والمسلم. وهناك عشرات وربما مئات من القصص تتحدث عن الاندماج الاجتماعي بين أتباع الديانات السماوية الثلاث على مرّ ذلك التاريخ المُوغل في القِدم.
تلاحم المكونات العراقية.. ذكريات ما قبل التهجير الصهيوني
ثمة إشارة مهمة في مُستهل الفيلم يقول فيها المخرج إن الوصول للشخصيات اليهودية كان صعبا ومتعذرا، سواء للذين عاشوا في إسرائيل أو تبعثروا في المنافي البريطانية والأمريكية، وقد استطاع مقابلتهم عن بُعد، وتصويرهم بكاميرات الهاتف والأجهزة اللوحية المختلفة، فأثر ذلك على تباين جودة لقطات الفيلم.
يقول المخرج إن التشبث بإنجاز هذا الفيلم الوثائقي هو الأهم بالنسبة له، لا سيما أنّ غالبية الشخصيات اليهودية والمسلمة قد فارقت الحياة الأمر، مما دفعه إلى مَنتجة الحوارات التي صورها على مدى 17 سنة، ليخرج بنتيجة مفادها حُب المكوّنات العراقية لبعضها، ووفاؤهم للبلد الذي عاشوا فيه، ورأوه جنة الله على الأرض، على الرغم من محنة التهجير القسرية التي خططت لها إسرائيل، ونفّذتها العصابات الصهيونية المتطرفة، بعد موجة التفجيرات التي شهدتها المعابد اليهودية العراقية، إثر إعلان الدولة العبرية، أو ما يسمى بالوطن القومي لليهود.
يتضمن الفيلم 12 شخصية رئيسية، إضافة إلى بعض الشخصيات الثانوية التي تتحدث بجمل مُقتضبة وعابرة عن معبد التوراة اليهودي الذي يقابل المسجد لدى المسلمين، والكنيسة للمسيحيين.
ومن بين الشخصيات اليهودية الرئيسية، شخصية صدّيق سالم شاؤول الذي يتحدث عن نفسه، وعن والده سالم، ويشير إلى خمس شخصيات أخرى وهم يوسف صدّيق، ومنير صدّيق، وساسون موشي، وباروخ صايغ، ويوسف الذي لم يتذكّر اسمه بالكامل.
أما الشخصية الثانية فهي شخصية إسحاق ساسون بن موشي المُلقب “عزّوري”، ويتحدث عن نفسه وعن والده ساسون، وعن صداقاته وعلاقاته الاجتماعية في مدينة السماوة. كما يشير الحِرَفي حميد نغيمش إلى أدوار الذي يملك خانًا للصوف في المدينة.
وهناك عشر شخصيات مسلمة تتحدث عن انطباعاتها وتصوراتها للشخصية اليهودية العراقية، من بينهم القاضي، والشاعر، والمعلم، والمشرف التربوي، ومدير التسجيل العقاري، والمتقاعد، والمرأة الشابة، والعجوز الطاعنة في السن التي جاورت معبد التوراة، وعرفت عن كثب الناس الذين يرتادون هذا المعبد اليهودي يوميا.
لم يقُل له أحد: “إنك يهودي أو نعتهُ بصفة غير مُحبّبة”
نتعرّف في مستهل الفيلم على شخصية صدّيق سالم شاؤول المولود في السماوة سنة 1933، ويمكن للمتلقي أن يستشف من أحاديثه الجميلة طبيعة حُبه العميق لأهالي المدينة وللوطن عموما.
وبينما هو يتحدث عن والده سالم شاؤول الذي يمتلك محلاً لبيع الأقمشة في سوق السماوة يتساءل هل ما زال السوق قائما كما كان قبل التهجير، أم تغيّر؟ وهل معبد التوراة قائما أم تقوّضت جدرانه القوية المرصوصة التي يشدُّ بعضها بعضا؟
يستذكر صدّيق شخصا معروفا اسمه ابن جيجان، كان يبيع أصباغ الشربت التي ذهبت مثلاً على ألسنة الناس الذين كانوا يقولون: “ماي الله وصبغ جيجان”. ثم يعرّج للحديث عن معبد التوراة الذي بُني قبل 100 سنة، مشيرا إلى التعايش السلمي بين الأديان السماوية الثلاث، وحق المكونات الأخرى في ممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية والمذهبية.
ويعترف صدّيق بأنّ اليهود قد عاشوا في السماوة إخوة متحابين متآلفين، يتزاورون ويحضرون المآتم والأفراح، ولم يتذكّر بأنّ أحدا قد قال له: “إنك يهودي أو نعتهُ بصفة غير مُحبّبة”، بل كانوا متآخين يزورون بيوت الأصدقاء ويأكلون من طعامهم، ويستقبلون المسلمين في بيوتهم ويقدّمون لهم الطعام والشراب الذي اعتادوا عليه.
أمّا الصداقات التي عقدها خلال سنوات الدراسة فهي عدة لا يمكن أن يحصيها، ويجزم بأنه لم تحصل له مشكلة واحدة في السماوة، ولم يسمع كلاما جارحا من أحد أصدقائه، ويختصر حياته بأنه قد “عاش أحلى عيشة في مدينة السماوة”.
لم تقتصر المجالس والدواوين على العوائل المسلمة، فقد كان جدّ صدّيق يمتلك ديوانا كبيرا في السماوة، وكان كثير من أبناء المدينة يلتجئون إليه لحلِّ مشاكلهم التي يقعون فيها لسبب أو لآخر. فجده كان مثالا للحكمة، ونموذجا لصاحب الرأي الحصيف الذي يعرف كيف يبلسم جراح الآخرين ويُعيد المتوترين والمنفعلين إلى رُشدهم وصوابهم.
“إحنا سماوتليه أكثر من السماوتليين أنفسهم”
الشخصية اليهودية الثانية التي ركّز عليها المخرج هي شخصية إسحاق ساسون بن موشي المُلقب “عزّوري”، وهو اسم تدليل شائع لدى العوائل اليهودية، وهو من مواليد السماوة أبا عن جد، وكان والده ساسون من الشخصيات المعروفة في السماوة، ويمتلك أراضي زراعية شاسعة، ولديه آلات ترفع الماء من النهر، لأن مستوى الماء كان منخفضًا.
وكانت من العشائر التي كانت تسكن في هذه الأراضي عشيرة آل عبس الذين يحترمون والده ويحبونه جدا، وحينما كان إسحاق صغيرا كان يأتي مع والده، ويسمعهم يقولون: “جاء العبساوي، جاء العبساوي”.
يرى إسحاق أنّ عائلته تعيش في السماوة منذ أكثر من مئة سنة، ونظرًا لتعلّقه بالمدينة وسكّانها كان يقول: “إحنا سماوتليه أكثر من السماوتليين أنفسهم”.
لدى إسحاق كثير من الأصدقاء، منهم فائق حميد الذي يعده من أعزّ أصدقائه وأقربهم إلى نفسه، وجبار إبراهيم سعيد الذي استمرت صداقته في المراحل الابتدائية والثانوية والجامعية.
يتميز إسحاق بتفوقه الدراسي والرياضي، فلقد كان من التلاميذ الأوائل في الدراسة إن لم يكن الأول دائما، كما تألق في الرياضة أيضا، فقد كان يلعب كرة السلّة والكرة الطائرة، كما كان يلعب ضمن منتخب المدينة الذي يتبارى مع منتخب الديوانية وبقية المحافظات المجاورة لمدينة السماوة.
لم تكن حقبة الأربعينات من القرن الماضي مستقرة سياسيا في العراق، فقد نشطت الدعاية الصهيونية في محاولاتها لتهجير اليهود في عدد من بلدان العالم، سواء بالترغيب أو الترهيب، وحينما وقعت عمليات التفجير لعدد من المعابد اليهودية في العراق فُصل الموظفون اليهود من وظائفهم، وكان إسحاق من بين الشخصيات المفصولة التي فقدت وظائفها، مع أن الدولة كانت بحاجة ماسة إلى الصيادلة.
وذات يوم التقى بصديق فلسطيني، وباح له بفصله من وظيفته، فنصحه هذا الأخير بالهرب من العراق، طالما أنّ الحكومة العراقية طردتهم من وظائفهم، ولم تسمح لهم بالحصول على جوازات سفر رسمية، لكي ينفذوا بجلودهم من سياسة التهميش التي تعرضوا لها.
ويتحدث إسحاق عن موشي الذي سيق إلى الخدمة العسكرية، علما بأن اليهود لم يخدموا بالجيش مدة عشرين سنة، لأنّ الحكومة العراقية لم تكن تثق بهم، لذلك خدم موشي جندي شغل، يستغلون طاقته البدنية فقط، ويشككون في نواياه الوطنية على الدوام.
أيام عاشوراء.. شيخ يطلب حضور اليهود للعزاء الحسيني
يُشرِك المخرج عددًا من الشخصيات المثقفة والمتنورة التي ترى الأمور على حقيقتها الناصعة من دون لبس أو تزوير، فقد سمع القاضي رعد الإمامي من أهله وذويه وأبناء منطقته بأنّ معبد التوراة قد بُني من أموال اليهود، وقد كانوا يؤدّون الطقوس الخاصة بهم.
وقد أخبره بعض أصحاب الدور المجاورة لهذا المعبد أنهم كانوا يسمعون دويّ أصوات اليهود عندما يؤدون طقوسهم وشعائرهم الدينية في المعبد، وغالبا ما تكون هذه الشعائر مصحوبة بالحركات القوية والأصوات العالية.
ومن الأمور الطريفة أن أهل السنة في محافظة السماوة كان يشاركون في عزاء الحاج مجلّي الحسون الذي يقع في منطقة القشلة، وبما أنّ عدد أهل السنة قليل في السماوة، فقد طلب من اليهود أن يشاركوهم في العزاء أيام عاشوراء، وعندما رآهم الحاج مجلّي يرحمه الله جاء إلى عم القاضي رعد الإمامي وخاطبه بطريقة لا تخلو من الفكاهة والتندّر، وقال له بالحرف الواحد: “ابن عمي إحنا بيكم رضينا الدور جايبلي اليهود”!
يقول مدير التسجيل العقاري في السماوة محمد عبد الشهيد، إن جميع أملاك اليهود ظلت عائدة إلى وزارة المالية، ما عدا معبد التوراة، فبقي تابعا لمديرية التسجيل العقاري، لكنه مسجّل باسم المذهب الإسرائيلي أو الموسوي.
“أحسن يهودي بالدنيا”.. ذكريات عطرة في قلوب الجيران
يستأنس المخرج هادي ماهود برأي امرأتين من أهالي السماوة تسكنان بجوار معبد التوراة، الأولى هي صبيحة عبد، وهي امرأة طيبة وطاعنة في السن، تتحدث ببساطة من دون تكلّف، لتكشف عن معدنها الإنساني الأصيل، فهي لا تفرّق بين يهودي ومسلم، ولا تميّز بين الكتب المقدسة وتجمعها “قرائين”، أي “مصاحف” لأن القرآن مصدر والمصدر لا يجمع.
تقول هذه المرأة -والعهدة عليها- إنهم يردِّدون في صلواتهم: “ربنا حبنا وانطانا / ربنا حبنا وانطانا”. وكانوا يرتدون الدشايش البيض، ويضعون عرقجيناتهم “كيبوت”، ويقرؤون “القرائين” من هذا الركن إلى ذاك، بينما تمطر عليهم السماء مطرا مدرارا يسمونه “عراجيل اليهود”.
وتثني صبيحة على شخص يهودي اسمه يوسف ويلقّب “أبو يعقوب”، وتصفه بأنه “أحسن يهودي بالدنيا”، وأنّه “زين مع الناس بالسوق بأسلوبه وأخلاقه”.
وترى صبيحه بأنّ هناك عربيدا يحمي معبد التوراة، وأنّ الله قد سخّره لهذه المهمة، وأوكل إليه حراسة هذا الوقف اليهودي، كما تؤمن أنّ الله سبحانه وتعالى قد حرّم الأخذ من ذمة الإنسان غير المسلم، ومن يفعل ذلك فإنّ الله سوف يعذّبه بالنار. وفي إطلالتها الثانية تتحدث بألم عن تهجيرهم، ولا تدري إن كانوا أحياء أو أمواتا، وتستغرب هذا التهجير لأنهم لم يتشاجروا مع أحد، ولم يؤذوا أحدا من أهالي السماوة، وهم على حد وصفها: “يروحون ويردّون بدربهم”.
أمّا المرأة الثانية فهي أصغر سنا من سابقتها، واسمها معصومة، وتتحدث كأنما أفاقت لتوّها من حلم، ورأت ما يراه النائم بأنّ هناك صبيا قفز على الحائط وسرق شباكا، وحينما فزّت من نومها رأت أقزاما صغارا يحملون فوانيس، وما إن شاهدوها حتى ترك الصبي الشباك، ورمى الأقزام فوانيسهم وتواروا عن الأنظار.
أمّا الناس المتنورون فلديهم رأي آخر في الخرافات والأوهام البصرية، فالمشرف التربوي باسم طالب يقول بما معناه: “لنكن دقيقين، هناك بعض من الناس روّجوا لهذه الإشاعة، حتى لا يتجرأ أحد ويسرق شيئًا من المعبد اليهودي”.
هاجس الولاء المزدوج.. تغير الموقف السياسي تجاه اليهود
يسلط التاجر طالب الإمامي الضوء على شخصية موشي، وقد عرفنا أنه التحق بالخدمة الإلزامية التي لم تشمل اليهود عقدين من الزمان أو أكثر، فبعض الحكومات العراقية كانت تخشى من “ولائهم المزدوج”، فأعْفتهم من أداء خدمة العلم، لكن موشي ويهودا آخرين من نفس عمره خدموا في الجيش العراقي، وتحملوا بعض الشكوك والاتهامات المبطنة.
وقد كان موشي يلطم في مواكب العزاء طوال أيام عاشوراء، ويشارك أهل السماوة أفراحهم وأتراحهم، ومع ذلك فلم يسلم -مثل الغالبية العظمى من يهود العراق- من التهجير القسري، فلا غرابة أن يسأل عنه الجميع، ويحاولوا بكل الطرق المتاحة أن يوصلوا تحياتهم وأشواقهم إليه.
ويقول طالب الإمامي إن اليهود حينما هُجروا من السماوة، كانوا يبكون بحرقة على ألم الفراق، وظلوا على مدى سنوات طويلة يتصلون بأصدقائهم هاتفيا، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وحينما يلتقون بفرد من أفراد السماوة في لندن يرحبون به، ويضيّفونه في منازلهم، ويقدّمون له كل أشكال الدعم والمساعدة التي يحتاجها في مُغترَبه الجديد.
“حبكم ساكن في قلبي لا يغادره”.. حنين المغتربين
ينطوي هذا الفيلم على قصص وحكايات متعددة أضفت إلى الفيلم أصداء فكرية وجمالية، ولعل حكاية المتقاعد أحمد أبو يحيى هي واحدة من الحكايات المهمة التي أثْرت الفيلم، وعمّقت مضمونه الإنساني، إذ يتوقف عند شخصيتين، وهما ساسون الذي يدّعي أنه من نسل هارون ويحمل لقب “حاخام”، وموشي الذي أشرنا إليه آنفا، وهو بحسب وصف أحمد أبو يحيى: “مهذّب ونازك، وشكله يدل على أنه متربّي تربية سليمة”.
تتمحور القصة التي يسردها أبو يحيى نقلا عن صديقه محمد جُرمط، أنّ جُرمط قد سافر إلى لندن، لكي يتعالج من مرض ألمّ به. وبينما كان محمد يمشي في أحد شوارع لندن تعرّف على إبراهيم بن يعقوب رجوان، فدعاه لمنزله، واستقبله استقبالا حافلا، وأخبره بجملة بسيطة تنطوي على معان كبيرة، مفادها “إن حبكم ساكن في قلبي ولا يغادره إلى الأبد”. وقال إن اليهود العراقيين يحتفظون بالمودة لأقرانهم العراقيين من مختلف القوميات والأديان والمذاهب.
ثمة مقبرة يهودية يشير إليها أكثر من شخص من بينهم أحمد أبو يحيى الذي يصف القبور اليهودية بأنها مطليّة بالإسمنت، ومدوّن عليها اسم الشخص المتوفى واسم عائلته، وتاريخ وفاته، ولا ينسى أن ينبّه كل من يراه أو يسمع صوته في هذا الفيلم الوثائقي ويعرف المكان الذي يقيم فيه موشي، أن يسلّم عليه وينقل له تحياته الخالصة وأشواقه غير المحدودة.
رفض التعصب الديني.. التحام في أحلك أوقات الحرب
يشترك المعلم المتقاعد حربي عليوي مع بعض شخصيات الفيلم في الحديث عن ساسون بن موشي الذي يمتلك أرضا زراعية شاسعة، ويشغّل الفلاحين المسلمين فيها على مدار السنة. ويذكر عليوي بأنّ السماوة لم تكن تعرف التفرقة الدينية، ولم يكن أحد من أبناء المدينة يقول إن هذا المواطن يهودي أو مسيحي أو مسلم، فالدين من وجهة نظرهم هو دين للأخوة والرحمة والوحدة بين الناس، ويوجز هذه الفكرة بأن سكّان المدينة لم يعرفوا التعصّب الديني.
كما يذكر محاسن سالم شاؤول الذي كان له ديوان كبير، يقصده أهالي السماوة كلّما ألمّت بهم مشكلة تحتاج إلى عقل حصيف يضع الأمور في نصابها الصحيح. ثمة أكثر من إشارة إلى أنّ أهالي السماوة كانوا يرفضون أي اعتداء يحصل ليهود السماوة خلال الحرب العربية الإسرائيلية. ويختم عليوي حديثه بأنّ العراق جنّة لكنها تحتاج لمن يستثمرها بشكل جيد.
ومع أن الفيلم يحتوي نَفَسا فكاهيا بين طيّاته، فهناك مفارقة يذكرها الشاعر محمد عزيز كاندو عن علاقة أحد التجار الوطيدة بجماعة اليهود، فقد ذهب هذا التاجر إلى بيت اليهودي، فخرجت إليه ابنته، فسألها عن أبيها، فأخبرته بأنه موجود خارج المنزل، وكانت الفتاة في غاية الرِقة والجمال، فعاد ثانية وطرق الباب، فأخبرته بنفس الجواب، ولما عاد ثالثة انفجرت بوجهه، وتحدثت بلهجتها اليهودية التي لا يفهمها، فقال شعرا:
“صبر أيوب جيف أصبر من يهود
على خشف الطلع دالع من يهود
نشدته ورد عليّ مزول
بغا شتريد واقف هون ليّه”.
يهود العراق.. شتات بعد 27 قرنا في بلاد الرافدين
يمكن أن نختم حديثنا بالرأيين المعبّرين اللذين أبداهما المتقاعد أحمد أبو يحيى وصدّيق سالم شاؤول؛ فالأول مسلم والثاني يهودي، وكلاهما يحب العراق بطريقته الخاصة، إذ يقول أحمد أبو يحيى: “يهودي عادل أو نصراني عادل، أحسن من مسلم غير عادل، هذه هي الحقيقة”.
أمّا صدّيق سالم شاؤول فيختصر محبته للعراق بالقول: “أنا مشتاق جدا لبلدي، ولا يمكن أن يكون أي بلد آخر أحلى من البلد الذي وُلدتُ فيه، وترعرت بين جنباته، لكن ما الذي يمكن أن نفعله؟ لقد فرّقتنا الظروف”.
لم يتدخل المخرج هادي ماهود كثيرًا ليسحب أجوبة شخصيات الفيلم إلى فضاء قناعاته الفكرية والسياسية والأخلاقية، بل ترك المجال واسعا أمام هذه الشخصيات النقية التي لم تلوثها الأوهام السياسية، لكي تقول ما تريد على سجيتها من دون تكلّف أو تصنّع أو ادعاء، فقدّم لنا في نهاية المطاف فيلما وثائقيا صادقا يعكس ثقافة التعايش السلمي، والتسامح بين المكونات العراقية، على تنوعها العِرقي والديني والثقافي، تحت خيمة العراق.
لقد خسر العراق مكونا أصيلا من مكوناته الدينية والاجتماعية التي خدمت العراق على مدى 27 قرنًا، ثم وجدوا أنفسهم في أحضان كيان صهيوني مصطنع قابل للزوال، إذا ما انهار نظام القطب الواحد، وتغيّرت لُعبة المصالح الدولية التي سوف تُجبر اليهود على العودة إلى بلدان التيه والشتات التي قدِموا منها، في مؤامرة دُبرت في ليل حالِك الظلام، فمهما طال الليل ودَمُس ظلامه، فلا بد أن يعقبه الفجر بخيوطه الذهبية الناصعة التي تُعيد لحياة الفلسطينيين بهجتهم المفقودة.
هادي ماهود.. ابن السماوة يحمل ثقافتها إلى العالم
من الجدير بالذكر أن المخرج هادي ماهود من مواليد السماوة 1960، وقد تخرج في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، وعمل مدير تصوير في فيلم “تراتيل قديمة” مع المخرج “ربينيو روبيني”، ونال منحة قصيرة لدراسة السينما الوثائقية في إيطاليا.
أخرج هادي عددا من الأفلام الوثائقية والقصيرة، من بينها “بائع الطيور”، و”الساعة 1800″، و”الغريق”، و”جنون”، و”تراتيل سومرية”، و”عُرس مندائي”، و”عاشوراء”، و”سندباديون”، و”العراق موطني”، و”سائق الإسعاف”، و”العربانة”، و”انهيار”، و”سوق سفوان”، و”في دائرة الأمن”، و”مراثي السماوة”.
وقد حصد عددا من الجوائز المحلية والعالمية، من بينها جائزة أفضل فيلم وثائقي عن “دائرة الأمن”، والجائزة الأولى عن فيلم “سوق سفوان” في مهرجان بي بي سي عربي للأفلام والوثائقيات سنة 2015. كما أصدر سنة 2022 أول كتاب سينمائي له، يحمل عنوان “الفيلم الوثائقي العراقي والهُوية الوطنية”.