“باي باي طبرية”.. قصة عائلة من فلسطين تلخص مأساة الوطن

القصة شخصية، وهي تتعلق بعائلة مخرجة الفيلم لينا سويلم، لكنها تستخدم هذه القصة لكي تروي مأساة وطن من خلال قصة أربعة أجيال متعاقبة من الفلسطينيات اللاتي تفرقت بهن السبل، منذ وقوع النكبة الكبرى في 1948.
الفيلم هو “باي باي طبرية” (Bye Bye Tiberias) الذي أُخرج عام 2023، وهو ثاني أفلام مخرجته لينا سويلم، ومن الإنتاج القطري بالاشتراك مع فرنسا وبلجيكا وفلسطين. وعرض في مهرجان البندقية وتورنتو ولندن، ونال جائزة “جون غريرسون” لأفضل فيلم وثائقي في مهرجان لندن، وهو أيضا الفيلم الذي اختير لتمثيل فلسطين في مسابقة الأوسكار 2024.
هيام عباس.. امرأة من فلسطين تروي قصة العائلة
يدور موضوع الفيلم عن شخصية الأم (أي أم المخرجة لينا) وهي ليست أي أم، فهي الممثلة الفلسطينية المشهورة هيام عباس، صاحبة المساهمة البارزة في السينما الفلسطينية والعالمية، وهي تعود مع ابنتها اليوم من المهجر الأوروبي إلى موطنها الأصلي، تراجع مسار حياتها، وتزيل الفجوة بين الماضي والحاضر، وكانت قد غادرت موطنها تحت وطأة الكثير من الإحباطات والمشاعر المختلفة.
الرغبة الكامنة لدى لينا الشابة هي التي دفعتها إلى صنع هذا الفيلم، فهي ابنة الجيل الرابع التي غابت منذ طفولتها عن فلسطين مع أمها، وكبرت في فرنسا ولم تغادر فلسطين ذاكرتها قط، ومن تلك العلاقة الوثيقة بين الأم والابنة، تدفع لينا أمها إلى استعادة الماضي، ثم تحاول خلال تلك الاستعادة نسج ملامح القصة الأكبر، قصة الوطن من خلال المرأة، والمرأة في قلب الوطن.
وخلال بحث لينا عما حدث لأمها وما دفعها لمغادرة فلسطين إلى فرنسا قبل 45 عاما، يتوقف الفيلم أمام شخصيات نساء من العائلة، وهن الجدة الكبرى، ثم الجدة، فالأم (هيام عباس) وآخرهن الابنة (أي لينا سويلم نفسها) التي تريد من خلال الفيلم أن تفهم لماذا غادرت أمها قريتها دير حنا في الجليل على بحيرة طبرية، وتخلت بذلك عن أمها وجدتها وشقيقاتها السبع، لكي تعثر على نفسها بعد أن أصبحت تشعر بالاختناق، كما أرادت تحقيق حلم حياتها في أن تصبح ممثلة، الأمر الذي كان والداها يرفضانه.
دير حنا.. رحلة إلى مسقط الرأس
نحن نرى في هذا الفيلم البديع اليوم كيف تواجه هيام عباس ماضيها وماضي عائلتها من دون أن نغفل لحظة واحدة عن وطأة الاحتلال وما سببه من تشتت الأسرة وضياع كثير من الآمال والأحلام، فالفيلم بأسره يمكن تصنيفه قصيدة رثاء للماضي، وفي الوقت نفسه حنينا جارفا لاستعادة ذلك الماضي من خلال الذاكرة؛ الصور والرسائل والمذكرات واليوميات وشرائط الفيديو، والأشياء التي بقيت في الحقائب القديمة والصناديق المغلقة وأركان وزوايا البيت القديم.
تعود لينا مع أمها إلى دير حنا، حيث كانت هيام تصحب ابنتها وهي في عامها الرابع لتسبح معها في بحيرة طبرية، أو تذهبان إلى القدس لكي تتجولا في شوارعها وحاراتها الحجرية الضيقة، لكن كان هذا في الماضي، قبل أكثر من 30 عاما، عندما عادت هيام من الخارج، من فرنسا، قبل أن تعود إليها مجددا.

كثير من هذه الذكريات مصور على شرائط فيديو منزلية قديمة، تستخدمها المخرجة في فيلمها ببراعة، وتضعها وسط المشاهد المصورة اليوم مع صور فوتوغرافية من أرشيف العائلة تستعيدها وترتبها مع والدتها في سياقها المتسلسل.
أرشيف العائلة.. كنوز تصور مظاهر حياة القرية
تستخدم المخرجة كما كبيرا من الصور والمقاطع المصورة التي ترصد كثيرا من جوانب الحياة في دير، ومنها لقطات مأخوذة بكاميرا سينمائية من مقاس 8 مم، تقول هيام إنها عثرت عليها في بيت إحدى خالاتها.
ولولا وجود هذا الكم من الأرشيف لما أمكن أن يأتي هذا الفيلم على كل هذا النحو من الكثافة والسردية البديعة التي تنتقل -ولو على استحياء- بين الخاص والعام، من دون أن يصبح الخطاب مباشرا، بل يظل الفيلم محتفظا برقته وسلاسة تدفق حكاياته المتداخلة، وهي لا تشمل ما ترويه هيام عباس فقط، بل تمتد إلى حكايات شقيقاتها، وما تحكيه هيام التي جاءت اليوم مع ابنتها لحضور جنازة نعمات، وهي والدتها وجدة لينا.
في هذه المشاهد المستعادة من الماضي، نرى كثيرا من مظاهر الحياة في القرية، حفلات العرس التقليدية الفلسطينية، الرقص والاستماع إلى الغناء، والذهاب إلى المدرسة، ونرى هيام في شبابها مع أمها وجدتها وشقيقاتها، ونعرف الكثير عن شخصيتها الجامحة وميلها للتمرد على التقاليد العتيقة، ورغبتها في التحرر والبحث عن حياة جديدة، وعن دور جديد لنفسها، إلى أن أصبحت نجمة سينمائية بلغت شهرتها أن ظهرت أيضا في أفلام من إنتاج هوليود مثل فيلم “ميونيخ” (Munich) للمخرج “ستيفن سبيلبرغ” (2005).
أزمنة الفيلم.. ثلاث حقب من التاريخ تخزنها الصورة
تدور الصور والذكريات في الفيلم عبر ثلاثة أزمنة، أولها الماضي البعيد أو زمن النكبة الكبرى في 1948، من خلال الكثير من لقطات الأرشيف المختارة بعناية التي تصور دخول القوات الإسرائيلية القرى والبلدات الفلسطينية وهدم المنازل، كما تصور أيضا حياة الفلسطينيين قبل الاحتلال وبعده، وبحيرة طبرية التي تعد المحور الرئيسي الذي تدور من حوله الأحداث.

ثم تتناول الزمن الأحدث، أي الماضي القريب ما بين 1992-1994، وتجسده اللقطات الكثيرة المدهشة التي تنسج منها لينا سويلم قصة شباب والدتها وعلاقتها مع شقيقاتها وعائلتها عموما، قبل أن تتغرب وتغترب عنهم. أما الزمن الثالث فهو الزمن الحاضر، أي وقت تصوير الفيلم، إذ تعود هيام مع لينا للكشف عن أسرار الماضي.
على صور الماضي البعيد، تروي هيام أن خالتها حسنية أُجبرت على مغادرة القرية والتوجه مع آلاف النازحين إلى سوريا، حيث كانت تنشد النجاة من بطش قوات الاحتلال التي هدمت البيوت واستولت على الأراضي، وقد استقرت هناك في مخيم اليرموك إلى حين وفاتها.
“ألقت بهم الأقدار في قلب التاريخ”
تقول لينا سويلم من خلال التعليق الصوتي الذي يصاحب الصور، إنها كتبت نصا تلخص فيه ما حدث لجدتها الكبرى أم علي، ثم جدتها الصغرى نعمات، ثم أمها هيام، اللاتي تقول إنهن اضطررن لترك كل شيء ورائهن والبدء من جديد.
ثم تقرأ هيام النص المكتوب بالفرنسية، وهي اللغة التي تجيد لينا استخدامها في الكتابة، وتأتينا قصة الجدة أم علي التي تقول لنا لينا إنها لا تعرف الكثير عنها، لكنها تعرف أنها تزوجت حين بلغت 15 عاما، برجل يدعى حسني طباري -نسبة إلى طبرية التي يعتقد الناس أن المسيح سار فوقها، وتعتقد هي أنها لذلك مكان مقدس-، ثم تعود للقول إن أم علي أجبرت على مغادرة منزلها مع زوجها حسني وأبنائهم، و”ألقت بهم الأقدار في قلب التاريخ”.
هنا نرى لقطات بالأبيض والأسود لحرق وتدمير منازل الفلسطينيين، ودخول قوات الهاغاناه القرى، تعتقل الرجال، بينما تجمع النساء أغراضهن، لكي يقطعن طريق النزوح في صفوف طويلة، وكأننا نشاهد ما يحدث اليوم في غزة.

تعود هيام لتقرأ من النص الذي كتبته ابنتها: سمعت أم علي وهي مع زوجها على الحدود اللبنانية، أن ابنتها حسنية (خالة هيام) توجهت إلى سوريا، وقد أرادت أن تلحق بها لكن زوجها رفض، وأصر على العودة إلى قريته، فهو لم يكن يعرف أن الإسرائيليين استولوا عليها. ووجدت الأسرة مأوى لها في قرية تبعد 30 كيلومترا عن طبرية، داخل حدود دولة إسرائيل. وظل حسني هائما على وجهه، يسأل كل من يلتقيهم عن ماشيته وممتلكاته البسيطة دون جدوى، إلى أن فقد عقله ثم مات حزنا وكمدا، ووجدت أم علي نفسها وحدها مع ثمانية من الأبناء، وبدأت تعمل على آلة حياكة لتوفير القوت لأبنائها.
لقاء الخالة.. قصة مؤثرة تلخص وطأة الشتات الفلسطيني
تروي هيام أنها عادت بعد اغترابها عن فلسطين والعالم العربي كله، أي بعد 30 سنة من الغياب، لكي تزور خالتها في مخيم اليرموك بسوريا. وقد شاهدت امرأة تخرج تقف قبالتها في صمت، ثم اقتربت الاثنتان من بعضهما أكثر وأكثر. إنها خالتها حسنية التي احتضنتها وأخذت تلمس ذراعيها وكتفيها وتقبلها وتتشمم فيها، مرددة أنها تريد أن تشم فيها رائحة كل فرد من أفراد عائلتها التي تفتقدها. وهي قصة مؤثرة تلخص وطأة التيه الفلسطيني.
من هذا الزمن أيضا مشهد لهيام مع والدتها نعمات، وهيام تقول لابنتها تعليقا على المشهد إن الأم لم تشأ أن تتحدث، ولا مرة واحدة، عما وقع في الماضي للعائلة أي بعد الاحتلال في 1948، بل كانت تتجنب دائما الحديث عن تلك الفترة. لكنها سألتها تلك المرة، لماذا كان الصمت عما حدث؟

فتلخص لها الأم في حكمة السنين أن من الأفضل عدم فتح أحزان الماضي، فهي لم تكن تريد أن تنقل الحزن والأسى إلى أبنائها. ولأن هيام لم تكن قادرة في شبابها على الحديث عما وقع، والتعبير عن مشاعرها بالحديث، فكانت تعبر عن هذه المشاعر من خلال الشعر، وكانت تكتبها في القصائد، ونراها تقرأ واحدة أو أكثر منها في الفيلم أمام ابنتها، كما كانت تدون المذكرات.
مسرح الحكواتي.. إعادة تجسيد القصة على الخشبة
في أجزاء الزمن الحالي نرى عودة هيام إلى مسرح الحكواتي في القدس، حيث بدأت مسيرتها في عالم التمثيل، وهناك تقوم مع مدير المسرح بإعادة تمثيل دورها وهي فتاة تريد أن تطلب من والدها أن تتزوج من شاب إنجليزي كان يعمل بالتدريس في جامعة بيرزيت.
وكان والدها يعارض بشدة، لكنها طلبت من أستاذ جامعي مرموق كان صديقا لوالدها، أن يتوسط لها لديه، فنجح في إقناعه. ولكن الزواج لم يستمر طويلا على أي حال، ثم غادرت هيام فلسطين إلى باريس وهناك تزوجت من الممثل الجزائري الأصل زين الدين سويلم، فأنجبت منه ابنتيها لينا ومنى.
ومع ذلك فصورة الأب والرجال عموما (لدى هيام أخوان وثماني أخوات) تكاد تغيب غيابا تاما عن الفيلم، فهذا فيلم نسائي عن النساء، عن قوة المرأة الفلسطينية وكيف انتقلت تلك القوة عبر الأجيال. كانت نعمات والدة هيام، تدرس إلى أن بلغت 16 عاما، ولكنها اضطرت بعد وقوع النكبة إلى ترك المدرسة، واضطرت لمغادرة القرية وقتها، وفيما بعد عملت مدرسة.
“ونحن نقع في الوسط من هذه البلدان”
تجتمع الشقيقات الثماني معا في مشاهد تفيض بالحيوية والتلقائية، مفعمة بالحب والتساند، يسترجعن معا ذكريات الماضي، ويضحكن وهن يتذكرن كيف كن يناقشن مع أمهن نعمات أمورا شخصية للغاية، مثل إنجابها عشرة أبناء وبنات، وهنا نرى المشهد الذي تدور فيه هذه المداعبات بين البنات وأمهن، مصورا في الماضي، بكاميرا فيديو منزلية.

وكل هذه اللقطات المنزلية لا شك أنها كانت جزءا من اهتمام هيام عباس بالتصوير، وأنها كانت تكلف والدها أو إحدى أخواتها بتصوير كل شيء، وكأنها كانت تدرك مبكرا أهمية الذكريات التي ستبقى وتنتقل بين الأجيال وثائق دالة على الماضي.
تظهر في الفيلم كثيرا بحيرة طبرية، ثم تختفي وتعود، فهي التي تنطلق منها الذكريات، كما أنها تجسد الفصل بين سوريا ولبنان وفلسطين والأردن. وهو ما تعبر عنه هيام عباس في أحد المشاهد عندما تقف وتنتقل بأنظارها مشيرة لابنتها إلى حيث تقع لبنان ثم سوريا ثم الأردن، لتنتهي بالقول “ونحن نقع في الوسط من هذه البلدان”. وترمز البحيرة أيضا إلى لحظات الصفاء والبراءة في الماضي.
ثم تشير هيام إلى ما وقع بعد أن أقيمت قاعدة عسكرية إسرائيلية قرب البحيرة، وأقيمت المستوطنات اليهودية في الجبال المطلة عليها. فطبرية لم تعد كما كانت فضاء للحرية، بل أصبحت مكبلة شأن الحالة الفلسطينية كلها.