“واحد منهم”.. مسعفون مقاومون يواجهون فوهات البنادق

الفيلم الوثائقي “واحد منهم” هو من إخراج الفلسطينية أفنان القطراوي في عام 2019، وإنتاج الجزيرة الوثائقية، ويتخذ تجربة زوجين من غزة موضوعا له، فقد اختار الزوجان التّطوّع في مجال إسعاف المتظاهرين في مسيرة العودة الكبرى، لكنّ حدثا مفاجئا سيغيّر خطط المخرجة وطبيعة الفيلم بأسره، وسيأخذنا لنعيش مع مدحت جابر محنته.

ومسيرة العودة هي سلسلة من المظاهرات التي تشرف على تنظيمها جمعية الدفاع عن حقوق المهجرين، تزامنا مع احتفال إسرائيل بيوم استقلالها في 14 مايو/ أيار 1948، بعد إعلان بريطانيا لنهاية انتدابها، تنفيذا لقرار الأمم المتحدة.

مثّل تنظيم المسيرة حدثا سنويا منذ عام 1998، تأكيدا لحق عودة المُهجرين الذي يكفله القرار الأممي رقم 194، وردا على اتفاقية أوسلو التي قادتها منظمة التحرير من الجانب الفلسطيني، وغيبت قضية مهجري الداخل الفلسطيني، وتُختار قرية من القرى المهجرة التي هدما الجيش الإسرائيلي في كل سنة فضاء لها.

مدحت وشفا.. زوجان مسعفان على خطوط النار

ضمن عمل الإسعاف الطبي، يتطوّع الزوجان مدحت وشفا جابر لتأسيس عيادة البراءة الطبية التطوّعية المختصّة في تقديم المساعدات الطبية والاجتماعية للشباب المتظاهر، بعد أن أدركا معاناتهم في الحروب المتعاقبة التي عاشها قطاع غزّة. ويعرض الفيلم وقائع مؤازرتهما للمتظاهرين في مسيرة العودة الكبرى، وهي امتداد لمسيرات العودة.

انطلقت المسيرات في كافة الأراضي الفلسطينية في 30 مارس/ آذار سنة 2018، تزامنا مع الذكرى الثانية والأربعين ليوم الأرض، واستمرت حتى 15 مايو/ أيار من نفس السنة، تزامنا مع الموعد المحدد لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس.

ويمكننا أن نصنّف الفيلم -في قسمه الأول على الأقل- ضمن جنس السينما الوثائقية المباشرة، فتعمل المخرجة على النّفاذ إلى صميم أحداث أهم المسيرات التي أقيمت في غزة، ومثّلت احتجاجا بالقرب من حاجز الفصل الإسرائيلي، وشهدت صدامات مع قوات الاحتلال، ضمن مواجهات غير متكافئة بين متظاهرين عزّل سلاحهم الحجارة، وجنود مسلحين يرمون المحتجين بالرّصاص.

الزوجان مدحت وشفا جابر تطوعا لتأسيس عيادة البراءة الطبية التطوّعية المختصّة في تقديم المساعدات الطبية والاجتماعية للشباب المتظاهر
الزوجان مدحت وشفا جابر تطوعا لتأسيس عيادة البراءة الطبية التطوّعية المختصّة في تقديم المساعدات الطبية والاجتماعية للشباب المتظاهر

ويقدّم مدحت تصوّره لنشاطه، فيعبّر عن الإرادة الداخليّة التي تجعله ينتصر لقيم الخير والإيثار، فيذكر أنه عمل نابع من القلب، بعيدا عن ضغط الواجب الذي يمثله العمل بمقابل. ويتمثّل دوره في النزول إلى الميدان لإسعاف المصابين بالاختناق بالغاز بسبب القنابل المسيلة للدموع، فيتقدّم إلى الصفوف الأولى، ويحتك بالمحتلّ مباشرة، لأن سيارات الإسعاف تكون بعيدة، والحالات غالبا ما تكون مستعجلة، وتتطلب المعالجة الميدانية قبل نقل المصابين إلى المستشفيات.

ضمن هذا الأفق تحاول الكاميرا أن تلتقط مادتها مباشرة من ميدان وقوعها، وترافق الفريق أثناء تقديم المساعدات، وتمنح الكلمة للمنخرطين في المسيرة للتعليق على الوقائع والوضعيات، أو لتنبيه المتفرّج إلى ناحية من النّواحي، وتترك هامشا كبيرا للصدفة. ووجه التميّز في مثل هذه الأفلام قدرتها على الارتجال وعلى بديهة المخرج، ومدى قدرته على تعميق الطّاقات الإيحائيّة للخطاب السينمائي.

استهداف المسعفين.. رصاص الغدر يلاحق الطواقم الطبية

يواجه المسعف خطر القنص ويتحدّاه كالمتظاهر تماما، فشفا جابر تدرك أنّ العدو الإسرائيلي لا يفرّق بين المتظاهرين والمسعفين، وتعلم أن عملها في هذه الصفوف يمثّل خطرا عظيما، فقد خبرت تصميمه على إيذائهم وترهيبهم، حتى لا يقوموا بدورهم الإنساني.

ومع أن فريقها كان يرفع راياته الخاصّة ويرتدي أزياءه المميزة عند عمله على إسعاف أحد المصابين، فإن القوات الإسرائيلية قنصتهم بوابل من الرصاص، ونجا أعضاء الفريق بمعجزة.

مسيرة العودة هي سلسلة من المظاهرات التي تشرف على تنظيمها جمعية الدفاع عن حقوق المهجري

وبالفعل يحصل المكروه الذي كانت تخشاه شفا، ويصاب زوجها، وإذا بالمُسعِف يتحوّل إلى مُسعَف، وينقل إلى مستشفى الشفاء بغزّة، وتكون الإصابة بليغة، بحيث تأتي على النسيج العضلي فتمزّقه، وعلى عظم الساق فتدمره.

وعلى الرغم من السباق ضدّ الوقت لمقاومة الميكروبات والالتهابات الشديدة لإنقاذ ساق مدحت المصابة، فإن المضادات الحيوية لا تجدي نفعا، ويتأكد الأطباء من موت العضلات التي ارتضت وتمزّقت، فيقررون بترها.

“لا تبكي فأنت زوجة بطل”

هذا الحدث الجلل الذي أصاب مدحت، يحوّل الفيلمَ من متابعة انخراط الزوجين في تقديم الإسعافات للمتظاهرين في الميدان إلى متابعة محنتهما، ويحوّل وجهة الكاميرا من متابعة وقائع المسيرة الكبرى بما فيها من احتفالات ومواجهات ومن جعلها خلفية لنضالهما، إلى مستشفى الشفاء ومراكز التأهيل البدني.

سيؤثر هذا كلّه على مقاربة المخرجة الجمالية، فالأحداث أصبحت معلومة، والأماكن معروفة، والكاميرا باتت تدرك ما عليها أن تفعل، فتستعدّ مسبقا لترصد تفاعلَ جسد مدحت مع العلاج، والجدلَ الذي تحاول أن تخلقه شفا لتخفف من وطأة الصدمة على زوجها، وتفاعلَ الأجهزة الطبية مع تعافيه شيئا فشيئا.

شفا جابر تدرك أنّ العدو الإسرائيلي لا يفرّق بين المتظاهرين والمسعفين

فإذا بنا أمام جنس الدّراسة الوثائقيّة التي تحاول أن تكون موضوعية ما أمكن وهي تلتقط وجوها من الحقيقة، وتتابع وضعية الزوجين الجديدة وتجعلها موضوع تأمّل وتفكير، فتركّز على صلابة الزوجين وعلى شجاعتهما وهما يواجهان قدرهما بهمة وعزيمة.

بعد تبخّر الأمل في شفاء الرّجل المصابة، وبعد تردّد وتفكير في نقل المصاب للعلاج في الخارج، يصر مدحت على مواصلة العلاج بالمستشفى، وعلى بتر رجله للتخلص من الأوجاع، وتسلّم شفا بالأمر الواقع في مشهد مؤثر يواسي فيه الزوج زوجته حتى تتقبّل القرار الصعب والواقع الجديد. ويوصيها بألاّ تبكي لأنها “زوجة بطل”.

لقاء المحفز.. حوارات تطرح أسئلة المخرجة

بعد أن أخذ جرح مدحت يلتئم، يتحول إلى مركز الأطراف بغزة لتركيب ساق صناعية، فينفتح باب جديد للأمل على محدودية قدرته على الحركة، وهنا يتولى أحمد أبو شبعان أخصائي العلاج الطبيعي دور المحفّز الذي يقود مدحت إلى المواضيع التي تريد المخرجة التوسّع فيها.

فيأخذنا عبر أسئلته إلى التّعرف على نظرته للأشياء وللعالم ما بعد الإصابة، وتقييمه للأمور انطلاقا من وضعيته الجديدة، ولا يعرض علينا الفيلم رجلا يتألم لفقد رجله وتحوّل فجأة إلى محتاج لغيره، بقدر ما يقدّم لنا شخصية صلبة مستعدّة للعطاء بلا حدود.

كان مدحت يتابع أخبار المسيرة، ويسأل عن إصابات المتظاهرين، وكان يراجع مع ابنته دروسها، وبعدها يواصل عمله التطوعي في الحقل الاجتماعي، بعد أن كيّف جسده ليستطيع قيادة السيارة من جديد، فيشرف على ترميم فريق البراءة لبيوت الفقراء، ويوزّع هدايا العيد على الأطفال، ليزرع في قلوبهم الفرحة التي يفتقدون إليها

مساعدة الآخرين.. شكل آخر من أشكال المقاومة

يبدو مدحت واعيا تماما بأن ما يفعله شكل من أشكال المقاومة، ففضلا عن مساعدة الآخرين، يواصل عمله التطوّعي حتى لا يكون مهزوما أمام المحتلّ. ويذكر بكثير من الحكمة التي علمتها له محنته أن طرفه بُتر خلال أداء واجبه من أجل حياة الآخرين، لذلك فهو لم يذهب هباء، لذلك فهو لا يريد أن يكون معوقا. ولا يريد التخلي عن مساعدة الآخرين.

من منّا لا يتساءل كيف يتحمل الفلسطيني إجرام الاحتلال، وحصاره للأهالي، وتدميره للبيوت على رؤوسهم؟

لنعرف الجواب كان لا بدّ للفيلم أن يسرد قصة الزوجين منذ بدايتها، ففي السرد حِكم لا يطالها التأمل والاستدلال، فبعد زواج امتد 18 سنة لم ينجب مدحت وشفا أطفالا، ووجدا في حنوهما على الأطفال المتظاهرين ضد الاحتلال عوضا للحرمان من مشاعر الأبوّة.

ولكن بعد هذه المدّة جرّبا زراعة الأنابيب، فوهبتهما السماء الطفل مالك، ومع أن حياتهما حدث فيها هذا التحوّل الكبير، فإنها لم يتركا العمل التطوّعي، وبات سلوكا يوميا لهما، فقد كانا يتركان الطفل عند أقاربهما، ويتوجهان لإسعاف الأطفال ضمن عمل عيادة البراءة الخيرية للخدمات التمريضية والطوارئ.

فكرة التكافل.. قيمة متجذرة في عمق الإنسان الفلسطيني

تكشف شفا في بداية الفيلم قبل إصابة مدحت بطلق إسرائيلي، مدى تجذّر فكرة التكافل والخلاص الجماعي في عمق الإنسان الفلسطيني، فهي وزوجها يهبان النفس للمجموعة، ولا تخيفهما فكرة الاستشهاد في سبيل ذلك، ولا يخيفهما أيضا هاجس يُتم الصبيّ مالك، فكما سخّرت هي وزوجها نفسيهما لأبناء فلسطينيين يدافعون عن الوطن، وكما وهبتها صديقتُها ابنتَها لتعيش معها نصف الأسبوع فتعتني بها وتمنحها معنى الأمومة، سيجد مالك فلسطينيين آخرين يعتنون به.

تبرز مثل هذه القصص أنّ الفلسطيني يعي جيّدا أنه يتعرّض إلى جريمة تطهير عرقي ممنهج، وأنّه لا سبيل له في غير المقاومة، فهي فعل حياة، وبدونها ليس ينهزم فقط بل يموت بيولوجيا أو رمزيا. وتكشف أنّه يستمدّ قدرته على التحدي من إيمانه بالخلاص الجماعي، وإدراكه أنّ التضامن ضروري، ليس للعيش معا كما تقول الفلسفات الغربية اليوم، بل للنجاة معا في عصر غلبت عليه الأنانية والبحث عن الخلاص الفردي.

ولا شكّ أنّ الفيلم يقدّم الإجابة الشافية حول الشخصية الفلسطينية، حين يسرد مثل قصص التطوّع هذه، فهي تدرك جيّدا أن المقاومة هي السبيل الوحيد لتجذير وجودها في أرض يتواطأ المجتمع الدولي على اقتلاعها منها.

عنوان العنوان.. مجاز يختصر معاني الحكاية

اختارت المخرجة عبارة “واحد منهم” عنوانا للفيلم، فجاءت غامضة ومستفزة للمتفرّج، فتدفعه ليطرح السؤال حول هوية هذا الواحد، وطبيعة هذه المجموعة التي ينتسب إليها. ولعلّ المتفرّج يجد دلالتين للعبارة، فترد الدلالة الأولى على لسان مدحت وهو يقول إنه أصبح واحدا من المصابين الذين كان يسعفهم، وفي ذلك إشارة إلى أن العدوان الإسرائيلي يستهدف الجميع، وأنّ الدولة المارقة التي يواجهها لا تحترم القانون الدولي، ولا اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب.

والحال أنّ المـادة 14 من اتفاقية جنيف تقول “يجوز للأطراف السامية المتعاقدة في وقت السلم، ولأطراف النزاع بعد نشوب الأعمال العدائية أن تنشئ في أراضيها، أو في الأراضي المحتلة إذا دعت الحاجة، مناطق ومواقع استشفاء وأمان منظمة بكيفية تسمح بحماية الجرحى والمرضى والعجزة والمسنين والأطفال دون الخامسة عشرة من العمر، والحوامل وأمهات الأطفال دون السابعة”.

وتدعو بقية موادها إلى ضرورة احترام الجرحى والمرضى المدنيين، فلا يجوز الهجوم على وسائل النّقل التي يقتصر استخدامها على نقلهم وإسعافهم، وتلتزم جميع الأطراف المتحاربة بأن تكفل حرية مرور جميع رسالات الأدوية والمهمات الطبية، وإن كانت توجّه إلى الخصوم.

ويولّد الفيلم عبر مادته الدلالة الثانية لعبارة واحد منهم، فمدار رسالته على أنّ مدحت ليس واحدا من المصابين فقط، بل هو واحد من الفلسطينيين المقاومين من أجل الحرية والكرامة، أولئك الذين يصابون ومع ذلك يصمدون، لأنهم يدركون أنهم ولدوا ليقاوموا، وأن المواجهة قدرهم المحتوم، وليست عنصرا ما ضمن قائمة خيارات متعدّدة.


إعلان