روسيا.. سير نحو عسكرة المجتمع منذ أيام المدرسة

تعمل روسيا بشكل مُمنهج على عسكرة مجتمعها، وتضع الإستراتيجيات البعيدة المدى، لتحقيق ذلك الهدف دون تأخير.. ذلك ما يتوصل إليه الوثائقي الفرنسي “روسيا.. شعب يسير على الخطوة” (Russie: Un peuple qui marche au pas)، من خلال بحثه الميداني داخل روسيا عن الممارسات العملية المؤشرة على ذلك التوجه.

كما هو متوقع، يبدأ الأمر من المدارس ومن المعسكرات المخصصة لتدريب الصغار على استخدام السلاح، وشحذ هممهم بالحماسة الوطنية، وتهيئة أذهانهم لقبول كل أشكال الدعاية التي تروج لها الحكومة الروسية ومؤسساتها الإعلامية والعسكرية.

عسكرة الأطفال.. نواة المجتمع الحربي الجديد

يشير الوثائقي في مُفتتحه إلى تزايد الاهتمام بالتربية العسكرية للأطفال، ولا سيما بعد شن روسيا الحرب على أوكرانيا، ومعها تزايدت أيضا الدعاية العسكرية المبررة لها، بحجة الدفاع المشروع عن حدود روسيا ضد الهجوم الذي يقوده الغرب ضدها، مما دفع الرئيس “بوتين” للقيام بـ”العملية العسكرية الخاصة” ضد أوكرانيا، كما يسميها.

عسكرة المجتمع هدف مركزي للرئيس بوتين

ووسط حالة الخوف المنتشرة بين الروس اليوم، تجد الدعاية طريقها إلى عقولهم بسهولة، كما يسهل على زعيمها تحقيق استراتيجيته لعسكرة المجتمع، وهي تتضح بشكل جلي من خلال زيارة صانعتي الوثائقي “سينا بولخاكوفا” و”فورونيكا دورمان” إلى أحد معسكرات الطلائع المعروفة باسم “يورنامي”، والمنبثقة من مشروع خاص لتدريب الأطفال الصغار والشباب على استخدام السلاح في عموم البلاد.

“أولغا زاخران”.. نشاط حربي يلفت نظر وزير الدفاع

ينقل الوثائقي مشاهد مصورة وفيديوهات تصور أطفال ومراهقين يتدربون في معسكر تشرف عليه “أولغا زاخران” التي توجز مهمتها بخلق محاربين روس، توكل إليهم مهمة الدفاع عن الوطن مستقبلا. ومن دون انتظار، تعرّج على الحرب في أوكرانيا، وتقول بحماسة إن مهمتها تتوافق مع توجهات “بوتين” بتجريد أوكرانيا من سلاحها، وإجبارها بالقوة على التخلي عن توجهاتها “النازية”.

معسكر تشرف عليه “أولغا زاخران” التي توجز مهمتها بخلق محاربين روس من الأطفال

وتستغل المخرجتان وجودهما في المعسكر لمعرفة المزيد عن المدربة، ويتضح أنها من منطقة لوهانيسك التي كانت يوم مولدها تابعة لجمهورية أوكرانيا السوفياتية، وأنها درست القانون، لكنها بعد نشوب الحرب في منطقة دونباس الأوكرانية عام 2014، انضمت إلى وحدات الانفصاليين الموالين لروسيا، وأُوكلت إليها مهمة التنسيق لتوصيل المساعدات إلى الجنود والمدنيين في القسم الذي يسيطر عليه الجيش الروسي.

منطمة ميموريال لحقوق الإنسان تعري جرائم النظام الروسي

ونتيجة لنشاطها الملحوظ، أوكل إليها وزير الدفاع الروسي الإشراف على “مجموعة يورنامي” التي أمر بتأسيسها، وبسرعة قياسية تنامت قوة “مجموعة يورنامي” للطلائع. وخلال العام 2022، وصل عدد المنتسبين إليها حوالي مليون وربع مليون منتسب، وفي السنوات الماضية أخذت تشارك بشكل منتظم في الاستعراضات العسكرية التي تقام كل عام في الساحة الحمراء وسط العاصمة موسكو، كما خصصت المدارس حصصا لها.

“التربية الوطنية الجيدة”.. برامج دراسية لخدمة الدعاية الحربية

يذهب الوثائقي إلى مدرسة رقم 36، في منطقة روستوف نا دونو، ويوثق مراسيم رفع العلم التي يشرف عليها أعضاء من المجموعة، فقد باتت جميع مدارس المنطقة ملزمة بتطبيقها، إلى جانب تخصيصها حصصا لـ”التربية الوطنية الجيدة” و”يوم المتطوعين”، وهي حصص أضيفت حديثا إلى المناهج الدراسية.

آثار نفسية مؤلمة لدى الأطفال لما بعد صدمة التجنيد

وتحضر المخرجتان عرضا لتسجيل دعائي خاص بالطلبة أعدته وزارة التربية، وفيه يقدم اختصاصيون معلومات عن الحرب في أوكرانيا، ويشرحون معاني “العملية العسكرية الخاصة”، وأن روسيا قد وجدت نفسها مجبرة للدفاع عن نفسها، ومع ذلك يؤكدون أن الجيش الروسي لا يهاجم المدنيين، ولا يضرب البنى التحتية الأوكرانية.

ويتأكد الوثائقي من صحة معلومة تفيد بأن حوالي 20 مليون طالب روسي شاهدوا ذلك البرنامج الدعائي الذي عرض في جميع مدارس البلاد، وأن بعض إدارات تلك المدارس قد نظموا مظاهرات للطلبة، يعبرون فيها عن تأييدهم للعملية العسكرية.

غسل أدمغة الطلاب.. تنشئة على دعم سياسات الدولة

في الظاهر، يبدو أن أغلبية الروس يؤيدون “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، ولا يعارضون الخطوات العملية الممهدة لعسكرة المجتمع الروسي، لكن وجود الوثائقي داخل روسيا وتجواله في مناطق مختلفة منها كشف عن وجود معارضة لذلك التوجه، مع ما يكتنف تلك المواقف من تبعات خطيرة على أصحابها.

فمن بين المعارضين لنشر الروح العسكرية بين طلاب المدارس معلمة المدرسة رقم 1747، “تاتيانا تشيرنينكو”، فهي تشرح لصُناع الوثائقي ما يعنيه تعبير “الحديث عن الموضوعات المهمة”، وهو تعبير تستخدمه إدارات المدارس عند استدعاء المدرسين للمشاركة في الاجتماعات الخاصة بموضوع “العملية العسكرية”، ويُطلب منهم فيها نشر معلومات دعائية عنها وأيضا الترويج لها بين الطلبة.

مقابلة تلفزيونية مع المعلمة “تاتيانا” التي تقف ضد تجنيد الأطفال، تسببت في طردها من وظيفتها

ترفض المعلمة “تاتيانا” المشاركة في تلك الحملات، اقتناعا منها بأن “غسل أدمغة” أطفال في عامهم التاسع أو العاشر بشعارات تحببهم بالحروب وتشجعهم على العنف، لا يتوافق مع القيم التربوية، ولا هي في الأساس من المهام المنوطة بالمعلمين.

ولا تكتفي المعلمة بالتعبير عن موقفها علنا أمام إدارة المدرسة، بل تشارك في بعض الندوات التلفزيونية التي تنظمها بعض المؤسسات الإعلامية المستقلة، والمحسوبة على المعارضة، مثل تلفزيون “دوجد”. وبعد مرور فترة وجيزة على لقاء تلفزيوني أجرته القناة معها قررت وزارة التربية طردها من الوظيفة بحجة إخلالها بالوظيفة!

براغي آلة الدولة.. هيكلة عسكرية للأمة الروسية

تساعد المحامية الروسية “ماري تافتيان” مُشاهد الوثائقي على فهم الآلية التي تعمل بها المؤسسات الروسية، لتحقيق إستراتيجية الرئيس “بوتين” لنشر الثقافة العسكرية في المجتمع، وإشاعة الخوف من كل مُعارضة له، وتشير إلى وجود العنف وتغلغله في هيكلية الدولة الروسية، حتى قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، لكنه ازداد قوة بعدها.

بوتين.. والوقوف إلى جانب الانفصالين الروس

وهذا موجود وظاهر في المناهج المدرسية وفي بقية المؤسسات الرسمية التي تعمل على تحويل المواطن إلى برغي في آلة الدولة، ولا تُبقي له خصوصية، وتريد منه الذوبان الكامل داخلها. وقد ترسخ هذا الوضع في عهد الرئيس “بوتين” بشكل واضح، لكنه أفرز أيضا قوى معارضة له يحاول النظام طمسها وتجهيل الناس بها.

وتُذكّر المحامية بمظاهرات عام 2011، التي خرجت وهتفت بصوت عالٍ “نريد روسيا من دون بوتين”، كما رفض المتظاهرون بعدها نتائج الانتخابات البرلمانية عام 2012، بعد تأكدهم من وجود عمليات تزوير وتلاعب بأصوات الناخبين، وطالبوا بإعادتها.

“بوتين = الأمن والاستقرار”.. معادلة تحارب أطياف المعارضة

لم يأبه “بوتين” لكل تلك المظاهرات المعارضة، على مشروعيتها، بل أصر بعد توليه الحكم مجددا على المضي في نفس الطريق الذي اختطه لنفسه، وكرّس من خلاله معادلة “بوتين = الأمن والاستقرار”، وهي معادلة خدع بها قطاعات كبيرة من المجتمع الروسي، فثمة قطاعات قبلت بدافع الخوف، بالمساومة السياسية التي تخلت بموجبها عن حريتها وحقوقها مقابل حصولها على الأمن.

محاكمة وسجن “إيليا ياشين” بسبب استنكاره للجرائم التي ارتكبها الجش الروسي في أوكرانيا

ومن نتائج تلك السياسة انحسار شديد في وسائل التعبير عن الرأي، وإسكات متعمد للصحافة المستقلة والحرة، إلى جانب حل المنظمات غير الحكومية، ومنع المظاهرات من الخروج، كما كان من نتائجها هجرة الكثير من الناشطين إلى خارج البلاد، خوفا على حياتهم، بعد أن تعرض زملاء لهم للتصفية أو السجن.

ومع كل ذلك لم تنته المعارضة تماما، وظهرت من بينها أسماء أخافت النظام، ولهذا حاول إسكاتها بكل السبل، ومن بين تلك الأسماء “إيليا ياشين” الذي حكم عليه بالسجن أكثر من 8 سنوات، لمجرد استنكاره للجرائم التي ارتكبها الجش الروسي بحق المدنيين العزل في مدينة بوتشا الأوكرانية. وتوثق صانعتا الوثائقي مجريات محاكمة “إيليا ياشين”، وتنقلان مقاطع من رسائل كتبها في السجن، يؤكد فيها ثباته على موقفه.

رسومات الأطفال.. رهاب السلام يلاحق السلطات الروسية

وتتصل امرأة روسية بفريق العمل، وتطلب منهم تسجيل شهادتها حول ما جرى لها ولابنتها، بسبب رسمة بسيطة رسمتها الطفلة في المدرسة، وتظهر فيها طالبتان صغيرتان يحيط بهما قلب كبير يرمز إلى الحب، ويضم العلمين الروسي والأوكراني، فقامت إدارة المدرسة بإبلاغ الشرطة عنها، فجاءت واعتقلت الأم وابنتها. واليوم، وبعد الافراج عنهما، تفكر الطفلة -على صغر سنها- بالهروب من البلد، خوفا من انتقام الشرطة منها ومن والدتها.

رسمة طفولية بسيطة تسبب مشاكل للطفلة وأمها

ولكن الوثائقي لا يكتفي بعرض الجانب المعارض، بل يذهب لمقابلة امرأة في الثمانين من عمرها، تعلن أمام كاميراته موقفها المؤيد لجيش بلدها في حربه ضد أوكرانيا، وتردد العجوز نفس الجمل التي تسمعها من التلفزيون يوميا، فهذه هي الوسيلة الوحيدة المتوفرة عند أكثر من %70 من الشعب الروسي للحصول على معلومات عما يجري في الجبهة.

دعاية الجيش الأحمر.. تعكز على أمجاد حروب الماضي

يوثق المؤرخُ “ألكسندر تشركاسول” الناشط في منظمة “ميموريال” لحقوق الإنسان الحاصلة على جائزة نوبل للسلام، انتهاكاتِ حقوق الإنسان في روسيا، ويصف في مقابلة للوثائقي معه الأسباب التي تبرر بها روسيا الحرب على أوكرانيا بأنها مثيرة للسخرية، وأنها تأتي في سياق تاريخي ظلت الدولة الروسية -مع كل ما ارتكبته من فظائع بحق شعبها- تنأى بنفسها عنه، وللتغطية عليه تبرز الجوانب التي تكرس انتصاراتها، وهذا ما حصل تحديدا خلال عهد “ستالين”، ويعاد اليوم في عهد “بوتين” بنفس الشكل.

سيدة عجوز تستمد موقفها السياسي من أخبار التلفزيون الرسمي

وينقل الوثائقي -توافقا مع كلام المؤرخ- جانبا من الحملات الدعائية المنتشرة اليوم في شوارع المدن الروسية، وهي تذكر بانتصار الجيش الأحمر على النازية في الحرب العالمية الثانية، وأنه نفس الجيش الذي سيهزم “النازية الأوكرانية”.

وعلى الخط البحثي للوثائقي، تأتي شهادة أحد الجنود الروس، فقد عاد من الحرب بعد إصابته في رأسه، واليوم يعاني بسببها من الآثار النفسية لما بعد الصدمة، التي تحيل حياته إلى عذاب ينسحب على علاقته بعائلته والمقربين منه، ويخشى صادقا أن يواجه المجندون الشباب الروس نفس مصيره المؤلم.


إعلان