“طفولة أسيرة”.. اعتقال ونفي قسري للأطفال داخل الوطن المُحتل
لم يسبق لأية دولة في العالم أن اعتقلت الأطفال وحبستهم في بيوت أقربائهم، وفرضت عليهم الإقامة الجبرية، ومنعتهم بالخروج أمام عتَبَة الدار، باستثناء إسرائيل؛ فهي الدولة الوحيدة التي تستخف بالقوانين الدولية، ولا تراعي حقوق الإنسان بشكل عام، وتنتهك حقوق الأطفال على وجه التحديد.
يتميّز فيلم “طفولة أسيرة” للمخرج الفلسطيني اللمّاح رأفت أبو زيد بقدرته الفائقة على التقاط موضوع إنساني مُوجع وحسّاس، يمكن أن يهزّ الضمير الإنساني في كل مكان من هذا العالم، باستثناء الكيان الإسرائيلي الغاصب الذي يتصرّف بغِلظة ووحشية وجنون لا يمكن أن تجده حتى عند الكائنات المُفترِسة.
فمن غير المعقول أن تمارس إسرائيل اعتقال الأطفال وحبسهم في بيوت أقربائهم بتُهمٍ مُلفّقة لا أساس لها من الصحة، لتحرمهم في خاتمة المطاف من حنان الأبوين ودفء مشاعرهم، وتمنعهم من الذهاب إلى المدرسة، أو اللعب مع أطفال الحيّ، والأقسى من ذلك هو الإحساس الموجع بأنك سجين ومُقيّد، ولا تستطيع أن تتنفس هواء الحرية في الشارع أو الحارة التي تحتضن بيتك.
يتابع الفيلم ثلاث حالات حبس منزلي لثلاثة أطفال لم يغادروا طفولتهم ويفاعتهم بعد، وهم مسلم موسى عودة، وحسن العفيفي، وصُهيب الأعور. كما يركِّز على أمهاتهم وبعض أقربائهم مثل خلود الأعور والدة صهيب، ووالدة حسن العفيفي، وعيسى الأعور خال مسلم موسى عودة، إضافة إلى شخصيتين مهمتين أحسنَ المخرج في اختيارهما وهما سمير الطرمان، رئيس قسم الإرشاد والتربية الخاصة بالقدس الشريف، وعايد أبو قطيش، مدير برنامج المساعدة في الحركة العالمية للدفاع عن حقوق الأطفال.
وهذه الشخصيات الثماني تفي بالغرض المطلوب وتغطّي موضوع الحبس المنزلي والأفكار الجانبية المتعلقة بالموضوع الرئيسي.
مسلم موسى.. طفل يواجه النفي القسري في الوطن الأم
يمكن إيجاز قصة مسلم موسى عودة بأنه طفل لم يجتز عامه الثالث عشر، ومع ذلك فقد اعتقل رغم يفاعة سنّه 10 مرات، وواجه في المرة الأخيرة الحبس الفعلي، فأُبعِد عن منزله في حي البستان بالقدس إلى بيت خاله في جبل المُكبِّر، ليقضي فترة عقوبته هناك.
حُرم مسلم من الذهاب إلى المدرسة والعودة إلى البيت، كما فرضت عليه شروط الحبس ألا يغادر الدار التي أُبعد إليها، فتغيرت حياته كليا، وصار طفلا مُبعدا ومنفيا في مدينته ووطنه الأم، وتتحدث معه أمه على الهاتف النقّال وتلبّي احتياجاته وطلباته، لكنه يخبرها بأنّ أوضاعه جيدة، ويطلب منها ألاّ تكلّف نفسها عناء الاهتمام به، لأنّ خاله لم يُقصّر معه أبدا، ولم يفرّق بينه وبين أبنائه قط.
وحين تزوره أمه أو أخته، تخفّف عنه هذه الزيارة كثيرا من وطأة النفي القسري، إذ يتحدثون ويضحكون ويتسلّون معا وينقلون له تحيات أصدقائه الذين يفتقدونه ويشعرون بغيابه.
يروي مسلم طريقة اعتقاله المخيفة، فقد كانوا يُرعبونه بالكلاب التي كانوا يقرّبونها منه، ثم أخبروا العائلة بأنّ لديهم قرارا من المحكمة باعتقاله. ومع أنه طفل صغير فقد قيّدوا يديه بالأصفاد، وربطوا عينيه بخرقة، ثم فتشوا ثيابه وملابسه الداخلية. وبعد مرور شهرين من الحبس المنزلي في بيت خاله، اعتُقل 7 أيام أخرى، ثم أصبح حُرا طليقا، وصار بإمكانه أن يلعب ويفعل ما يشاء.
حسن العفيفي.. حبس منزلي لجريمة لم ترتكب قط
حسن العفيفي هو طفل آخر أكبر من مسلم، تعرّض للحبس المنزلي 14 يوما، عقابا على جريمة لم يرتكبها، فقد وجّهوا له تُهمة مُلفّقة، وهي محاولة طعن أحد أفراد القوات الخاصة الإسرائيلية التي ضربت منزله بقنبلة صوتية، وهجموا على أبيه وحاول أن يزيحهم عن بدن الوالد، لكن عددهم الكبير الذي تجاوز 15 جنديا أو أكثر حالَ دون ذلك، فأشبعوه ضربا وركلا واصطدم رأسه بالأرض، وكانت النتيجة عدد غير قليل من الكدمات والبقع السوداء التي خلّفتها أيادي الجنود وبساطليهم حول عينيه، كما قطّب أحد الأطباء جرح عينه اليسرى بأربع تقطيبات، فشعر بالظلم، لأنه لم يقترف ذنبا ولم يفعل أي شيء.
ويتسم التحقيق مع كل الضحايا بكثير من القسوة والإهانة والإذلال النفسي، ولم يجد حسن بُدا من تحمّله، ولم تنتهِ معاناته بانتهاء مدة حبسه المنزلي، بل فرضوا على أحد والديه أن يرافقه في الذهاب والعودة من المدرسة، مما يحرمه من رغبة الاستمتاع بالأوقات الجميلة التي كان يقضيها مع أصدقائه الطلبة، كما لم يكن بإمكانه المشاركة في الرحلات المدرسية التي تحقق له الراحة والاسترخاء النفسيين.
ولم يكن هذا الحبس المنزلي التجربة الأولى في حياة الطفل حسن العفيفي، فقد سُجن 5 أيام أخرى منعته من الذهاب إلى المدرسة، وبما أنه كان يريد أن يصبح ميكانيكي سيارات فقد مجبرا على الحضور وعدم الغياب لأي سبب كان، لأنه لا يستطيع أن يعوّض الحصة الدراسية التي فاتت عليه، وقد عانى كثيرا من هذه التجربة القاسية لكنه تجاوزها بشجاعة، وما إن أنهى مدة الحبس حتى قرر الذهاب إلى المدرسة من جديد.
صهيب الأعور.. لقد أصبح الاعتقال لعبة الأطفال المقدسيّين
لا تقل معاناة صهيب الأعور عمّا كابده مسلم وحسن على أيدي السلطات الإسرائيلية، فهو من سكّان حيّ سلوان، وقد تعرّض للاعتقال 6 مرات ما بين 2010-2012. وهو يشعر بالتمييز العنصري بين الطفل العربي والإسرائيلي، فالعربي مُعرّض للاعتقال في أي وقت، بينما يتمتع الطفل الإسرائيلي بحقوق لا حصر لها. فذات يوم دهمته “قوات المستعربين” واختطفته، مُتهمة إيّاه برشقهم بالحجارة، وكان يومها ابن 13 عاما.
أمّا آخر مرة سُجن فيها فكانت بتاريخ 5/3/2012، فقد اعتُقل مع عدة شباب من أبناء الحارة، بحجة رمي الزجاجات الحارقة على بيوتهم وسياراتهم، والعبث بأرواح اليهود في حي سلوان. وقد استمر التحقيق مدة 10 أيام، وكان المحققون يشتمونه وينعتونه بألفاظ نابية، ثم حُكم عليه بالإقامة الجبرية، وأُبعد عن حي سلوان 4 أشهر، قبل أن يحّول إلى دار عمه 9 أشهر. وبسبب الغيابات الخارجة عن إرادته، فصلته المدرسة، وكان يشعر بأنهم يهدفون إلى تدمير مستقبله وتحطيم مستقبل الأطفال الذين تعرّضوا للسجن أربع أو خمس مرات في أقل تقدير.
يشعر صهيب بالتفرقة العنصرية بسبب تجاربه اليومية، ففي إحدى الليالي خرج فوجد اليهود يحتفلون بعيد “المسخرة” وهو (ذكرى لخلاص اليهود من مجزرة هامان)، ويتذكّر بأن اليهود المنهمكين بهذا العيد لمحوا الأطفال الفلسطينيين المصفّدين فبدؤوا يسخرون، ويهتفون بشعار “الموت للعرب، وأننا خُلقنا للسجن والقتل والاعتقال فقط”!
ولا يدخّر صهيب وسعا للاحتيال على السطات الأمنية التي تريد أن تدمر مستقبله، إذ يدهمون منزله بين آونة وأخرى، فلا غرابة أن يتوقع قدومهم كل ليلة، حتى أن أباه كان يستفيق كل صباح ليتفقّد الشارع والحارة، ليتأكد من خلّوها من عناصر الجيش أو الشرطة.
لم يعترف صهيب أمام المحققين لأنه لم يقترف ذنبا، فكانوا يُمعِنون في تعذيبه، إذ يطرحه المحقق أرضا، ويضع قدمه تحت رجل الكرسي، ثم يجلس عليه حتى يكاد يسحق قدمه، وإذا لم ينجح بهذه الطريقة يلجأ إلى تهديدات أخرى يتهمه فيها بالعمالة والتجسس لمصلحة اليهود، أو التحقيق مع أمه وأخته وما إلى ذلك من وسائل الضغط المعروفة.
وفي موقف لاحق، يخبرنا صهيب بأنّ المحقق كان يستفزه ويسعى لترحيله من بلده الذي يعيش فيه. وإمعانا في الإساءة إليه زجّوه في سجن “أوفك” بين المجرمين الكبار المُدانين بأحكام ثقيلة، مثل القتلة والمتاجرين بالمخدرات والمحكومين بأكثر من 20 سنة.
وقد حاولت عصابة يهودية قتله أو طعنه بسكين، لكنهم لم يفلحوا بمسعاهم الخائب ضد طفل لم يصل إلى سن الرشد بعد. لقد حاولوا التأثير عليه بشتى الوسائل مثل المراقبة والتجسس والكاميرات والسمّاعات المرزوعة في كل مكان من السجن، وحينما فشلوا أدخلوا عليه عميلا يبلغ 27 عاما، فأخبره بأنّ أخاه يعمل محاميا، ويمكن أن يدافع عنه إذا اعترف بأنه طعن شخصا أو رمى زجاجة حارقة، لكنه رفض وقال إنّ الاعتقال قد أصبح لعبة عنده، وكلما أوغلوا في الإساءة إليه كان حقده يزداد، وردود أفعاله تتضاعف، فالطفل الفسطيني لا يشعر بالخوف من السلطات الأمنية مهما تفاقمت وحشيتها.
حبس الأطفال.. وباء نفسي يلاحق أفراد العائلة
يلتقي المخرج بثلاث أشخاص آخرين وهم عيسى الأعور خال مسلم موسى عودة، وخلود الأعور والدته، وأم حسن والدة حسن العفيفي. ومن خلال هؤلاء الشخصيات نتعرّف على جوانب أخرى من معاناة الأطفال المقدسيين الثلاثة الذين تعرّضوا للحبس المنزلي والإبعاد والغرامات المالية، والأنكى من ذلك شعورهم بالنفي القسري ضمن حدود الوطن المحتل.
يؤكد الخال عيسى بأنّ الطفل مسلم موسى يتحسّر على أشياء كثيرة لأنه رهين المنزل، ولا يستطيع أن يغادره، وهو يلعب معه تارة، ويمزح معه تارة أخرى، لكي يشغله ويبدّد فكرة الحبس المنزلي التي تسكن في عقله ومخيلته، لكن هذا الحبس أثّر على الخال عيسى نفسه، لأنه لا يستطيع أن يقوم بالواجبات الاجتماعية، خشية أن تأتي الشرطة على حين غرة وتدهم المنزل.
أمّا عن الجانب النفسي للطفل فإنه غير راضٍ عن الوضع الذي يعيش فيه، حتى وإن أخبرك بأنه مسترخ ويعيش في أفضل حال، فهو في قرارة نفسه يتألم ويشعر بالظلم الكبير الذي وقع عليه وحرمه من أشياء كثيرة، أهمها عائلته التي تتردد عليه بين آونة وأخرى.
وتشعر خلود الأعور بأنّ ابنها صهيب قد فقد حريته حينما عُوقب بالحبس المنزلي، ولو كان مسجونا بالفعل ومُحاطا بالسجّانين فيمكن أن يعد الوضع طبيعيا، ولكن أن يُحبس في منزله ويرى الأطفال يتمتعون بحريتهم، وهو لا يستطيع أن يزاول حقه في الحرية، فهذه مشكلة حقيقية تحزُّ في النفس. وقد شاهدت خلود كدمات عدة على وجه ابنها جرّاء الضرب والتعذيب، وهذا انتهاك صريح لحقوق الطفل، كما رأت خروقات وانتهاكات لحقوق أطفال آخرين.
ولا تختلف معاناة أم حسن عن بقية الأمهات اللواتي يتعرض أطفالهن إلى الحبس المنزلي، فهي لم تستطع أن ترى الفيديو الذي صوّروه وهم يضربون ابنها حسن على رأسه وهو مُكبّل بجامعة اليدين وجسمه ينزف دما.
وتؤكد أم حسن بأنها لم تستطع أن تنقذ ابنها من الجنود الإسرائيليين، ليس لأنها خائفة أو جبانة، بل لأنهم وقفوا أمام الباب، ومنعوها من الوصول إلى ابنها الملطخ بالدماء. وتروي بعض التغيرات التي طرأت على شخصية طفلها خلال مدة الإقامة الجبرية، مثل الأرق وفقدان الشهية.
قانون الأطفال.. تفنن في التعذيب والتنكيل بأفراد العائلة
ينتقي مخرج الفيلم شخصيتين مهمتين، الأولى هي شخصية سمير الطرمان، رئيس قسم الإرشاد والتربية الخاصة بالقدس الشريف، وهو يحيطنا علما بأنّ المحبوس منزليا يشعر بالإحباط والخوف الشديد من الإقامة الجبرية التي تُفرض عليه بعد المحاكمة التي قد تكون مرتبطة بغاية ثانية، مثل الغرامة المادية التي قد تصل إلى 5 آلاف شيكل، أو تهديد الأب، أو هدم المنزل، مما يفضي بالنتيجة إلى إصابة الطفل بالصدمة النفسية في بعض الحالات.
وأشار الطرمان إلى أنّ السلطات الأمنية تمارس أحيانا أفظع الأساليب التي لا تخطر على بال بشر، فهم يتفننون في الإذلال والعقوبة النفسية والجسدية للطالب، حتى أنه يستطيع أن يصرّح ببعضها، ويكتم البعض الآخر، فتظل حبيسة في أعماقه.
أمّا الشخص الثاني الذي يطل علينا في الفيلم فهو عايد أبو قطيش، مدير برنامج المساعدة في الحركة العالمية للدفاع عن حقوق الأطفال، وهو يؤكد بأنّ القانون المدني الإسرائيلي ينطبق على الأطفال الفلسطينيين في مدينة القدس، لكنّ هناك تمييزا في الممارسة، بالإضافة إلى أنّ الإفراج عن الأطفال يكون بالكفالة، لكنّ القانون الإسرائيلي يبحث عن كثير من البدائل القاسية بعد الاعتقال، مثل الحبس المنزلي والإبعاد والغرامات المالية، وهي عملية صعبة التحقيق على الطفل الفلسطيني وعلى أسرته.
فالإسرائيليون في هذا الصدد يتفننون في إذلال الطفولة، وحينما يصبح الأب سجّانا للطفل يُجبرونه على أن يكون معه في داخل البيت، ويمنعونه من الخروج من المنزل، وهي عقوبة مزدوجة للأب والابن معا.
رأفت أبو زيد.. مخرج من فلسطين يرصد المأساة
يُعد فيلم “طفولة أسيرة” من الأفلام الوثائقية المميزة في رصيد المخرج رأفت أبو زيد، وعلامة فارقة في مقاربة موضوع مُرهف وحسّاس، يتمحور على معاناة الأطفال واليافعين الفلسطينيين وانتهاك حقوقهم بطريقة وحشية لا مثيل لها، حينما حوّلتهم السلطات الأمنية الإسرائيلية، هم وذويهم، إلى سجناء ومنفيين في وطنهم المحتل، ولعلّ أصعب قدر في الحياة أن يتحوّل الأب إلى سجّان لابنه وفلذة كبده.
من الجدير بالذكر أنّ رأفت أبو زيد هو مخرج فلسطيني درس الإخراج والإنتاج السينمائي في جامعة مدينة نيويورك، وعمل مصورا ومونتيرا في قسم الأفلام في هيئة الأمم المتحدة، وأخرج عدة أفلام وثائقية لعدة قنوات تلفزيونية عربية وأجنبية، ويواصل دراسة “مساقات السينما والتلفزيون” في جامعة القدس.