“الفن في زمن الحرب”.. دخان القذائف يصنع لوحات الكفاح ضد الاحتلال

يستلهم المخرج الفلسطيني ماجد جندية حكاية فيلمه الوثائقي “الفن في زمن الحرب” من تداعيات العدوان الذي شنّته القوات الإسرائيلية على قطاع غزة في 8 يوليو/تموز 2014، وعلى الرغم من بشاعة الحرب وما تخلّفه من مآسٍ وكوارث بشرية مفجعة لا يمكن نسيانها أو غضّ الطرف عنها، فإنها تستفز الفنان المبدع، وتفجّر مواهبه الكامنة في الأعماق.
يُصنّف فيلم “الفن في زمن الحرب” بالفيلم “الوثائقي الفنيّ” أو “الثقافي” بالمعنى الأوسع، على اعتبار أنّ الفن قرين الثقافة وصنوها الأقرب، وإن كان الفيلم يراهن على الصورة وخطابها البصري، بينما تعتمد الثقافة على الكلمة المنطوقة البليغة والمنمّقة التي تصل حدّ الحكمة والقول المأثور.
فيا تُرى هل استطاع الفنانون أن يحوّلوا أعمدة الدخان المتصاعدة من انفجارات القنابل وصواريخ الطائرات الإسرائيلية إلى لوحات فنية تلفت انتباه محبيّ الفن التشكيلي؟ وهل نجح بعضهم في تحويل حُطام المباني والبيوت التي دمّرها القصف الوحشي إلى سطوح تصويرية جذّابة، تأسر الناظرين وتثير في أذهانهم سؤال الوجود والعدم؟ وهل يمكن لهذه الأعمال الفنية المُستفزة أن تنتمي إلى الفن المُقاوم الذي يُرجع الحق إلى نصابه، ويُعيد للحياة بهجتها المفقودة؟

مَنْ يتأمل هذا الفيلم جيدا سوف يجد إجابات شافية ووافية، لأن مُخرجه أعاد صياغة القصص المألوفة في زمن الحرب، وخلق منها شيئا غير مألوف، كما يصنع النحّات تمثالا جميلا من كتلة صخر صمّاء، أو يقترح أشكالا أخرى للأعضاء المبتورة التي خسرها الشهداء لحظة استشهادهم.
فنانون على ثغور الكفاح الفني.. شخصيات الفيلم
يروي فيلم “الفن في زمن الحرب” قصة ستة فنانين تشكيليين، هم إياد صبّاح، ومحمد أبو حشيش، ومنال أبو صفر، وبشرى شنان، وصبحي قوتة، وفتحي غبن. وثمة شاهِدان على الجرائم البشعة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية بحق المواطنين العُزل، وهما عودة التلباني والد الشهيد عبد الرحمن، وفاطمة والدة الشهيد هاني أبو حشيش.

هذه الشخصيات الثماني هي التي تصنع قصة الفيلم المحبوكة التي يقترن فيها الفن بالإبداع، ويتعانق فيها الحُب مع النفَس الإنساني الذي يمكن تلمّسه في أحاديث الشخصيات الثماني التي تؤثث متن النص البصري، أو الشخصيات الأخرى التي تتطلّع من الهامش، لكنها تشعرك بحضورها القوي في أفكار وآراء الشخصيات المتكلمة التي لا تخشى في الحق لومة لائم.

ويطرح المخرج ماجد جندية في فيلمه الوثائقي قضايا متعددة لا تقل إيلاما عن الحرب مثل الحصار، وغلق المعابر، ومنع السفر وعشرات الإجراءات المُذلة والمهينة للكائن البشري الذي يرزح تحت نير الاحتلال، ولا يستطيع في بعض الأحيان أن يفعل شيئا أمام طيّار مجنون، أو قائد دبّابة فقدَ أعصابه وأمعنَ في الخراب والدمار.
إياد صبّاح.. فنان غزي حبسه إغلاق المعبر في تونس
يُذكِّرنا الفنان التشكيلي إياد صبّاح بالشخص المنفي الذي عَلق في تونس ولا يستطيع العودة إلى غزة بسبب غلق المعابر، مع أنّ أصدقاءه الفنانين يريدون الاحتفال بافتتاح النصب الذي عمله واشتغل عليه لمدة زمنية طويلة، وكرّسه لذوي الاحتياجات الخاصة وبعض الشرائح الأخرى المهمشة في المجتمع الفلسطيني.

كما يعقد صبّاح مقارنة بين ساحل تونس وميناء سيدي بوسعيد، وبين ساحل غزة وميناء الصيادين، ومع ذلك يظل ساحل غزة وبحرها مميزا، لأنه المتنفس الوحيد لها، فهي محاصرة من كل الجهات تقريبا.
وثمة نصب آخر لا يمكن أن نمرّ عليه مرور الكرام، وكان قد شُيّد تخليدا لسفينة مرمرة التي استشهد على متنها 10 أشخاص أتراك، كانوا يحاولون فكّ الحصار الظالم عن مدينة غزة.

وتأخذ تونس حصتها الطبيعية في هذا الفيلم، فالفنان صبّاح لا يُجانب الصواب حين يقول: نحن في تونس نشعر بالارتياح، لأنّ الشعب التونسي مهتمٌ بالقضية الفلسطينية، وتربطه رابطة مودة بالشعب الفلسطيني. وفي تونس تشعر بأنك امتداد لجزء حقيقي من وطنك العربي الكبير، وهذا المكان يذكِّرك دائما بكل شيء في مدينتك الجميلة.
دخان القذائف المتصاعد.. لغة الفن في زمن الحرب
تمهّد الفنانة منال أبو صفرة العائدة إلى مدينتها دير البلح للحديث عن مساوئ الاحتلال، فالسكّان يعانون من انقطاع التيّار الكهربائي، والمدينة معتمة، ولا تصدق أنها قد وصلت إلى بيتها، فالعدو الإسرائيلي نهب ثروات البلد وخيراته جهارا نهارا، ولم يترك لهم من كل شيء إلاّ القليل النادر.

وتنهمك منال برسم لوحات تشكيلية عدة، من بينها “امرأتان في حالة شموخ”، وليس بالضرورة أن يكون هذا هو العنوان، وإنما هو فكرة العمل الذي تضع عليه لمساتها الأخيرة، وتستعد لرسم أعمال إبداعية جديدة.
كما يعتمد المخرج على تقنية التعليق الصوتي، ليسلّط الضوء على الحكاية الأساسية للفيلم، فيقول: في الثامن من أيلول/سبتمبر 2014، كان القطاع على موعد مع صيف ساخن، عندما قررت حكومة الاحتلال الإسرائيلي شنّ حرب ثالثة على غزة، ربما تكون هي الأعنف منذ عام 2008م.
وعند الحديث عن الفن في زمن الحرب لم تكن الريشة والألوان هي الحل الأمثل للأحداث المتلاحقة، فكانت المفاجأة عندما اهتدى بعض الفنانين التشكيليين إلى فنٍ من نوع جديد يتناسب مع شراسة وجبروت الاحتلال.

يضم هذا الفيلم شخصية تشكيلية من الضفة الغربية هي بشرى شنان، وهي تشعر بالعجز، لأنها لم تفعل شيئا لغزة التي تتعرّض للعدوان الإسرائيلي، وتكتفي بمتابعة الأخبار، ومشاهدة صور الانفجارات، وسماع صراخ النسوة والأطفال، فتشعر بالألم الذي يعتصرها في الأعماق.
“شارة النصر”.. لوحة دخانية طبقت شهرتها الآفاق
ترى الفنانة منال أبو صفر أنّ إحساس الفنان يختلف عن إحساس الإنسان العادي، فالفنان يستطيع أن يحوّل الأشياء التي يراها لموضوع يلامس الواقع، ويتشابك معه بسريالية الخيال الكامن في أعماقه.
ففي أوقات الحرب، كانت منال تصعد إلى السطح وتلتقط صورا للانفجارات وأعمدة الدخان المتصاعدة التي تتشكّل على هيئة صور عدة. وذات مرة اقتنصت صورة “شارة النصر”، ووضعتها في تطبيق “الرسّام” في حاسوبها، وحدّدتها بخطوط خارجية فقط، فتجسّدت فيها “علامة النصر” التي لا يحتاج رسمها سوى 3-4 دقائق فقط، بينما لا تستغرق عملية نشرها عبر الفيسبوك أو وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من ضغطة زر.

وقد حققت هذه اللوحة شهرة كبيرة لمنال، سواء داخل الأراضي المحتلة أو في الوطن العربي، بل حتى في بلدان العالم المتعاطفة مع القضية الفلسطينية العادلة، ولعل عنصر المفاجأة في اللوحة قد لعب دورا كبيرا في ذيوعها وشهرتها بين محبي الفن التشكيلي، فحصلت على كثير من الإعجاب والمشاركات غير المحدودة، وصارت اللوحة الدخانية مقرونة باسمها.

بعد ذلك، بدأ عدد من الفنانين الفلسطينيين يرسمون هذا النمط من اللوحات، حتى أصبحت “المدرسة الدخانية” علامة مسجّلة باسمهم. وحين وضعت الحرب أوزارها طلب فنانون من مختلف بقاع العالم الإذن من منال وغيرها من الفنانين الفلسطينيين، في أن يستعيروا هذه التقنية وينفذّوا بها رسوماتهم الدخانية الجديدة التي يستوحونها من تقنية منال ورؤيتها للموضوعات الفنية التي يمكن أن تجود بها أعمدة دخان الانفجارات المروِّعة في زمن الحرب.
أعمدة الدخان.. إلهام فني ينبثق من عمق الكارثة الإنسانية
لا تختلف الفنانة بشرى شنان عن صديقتها منال أبو صفر في التقاط الصور الكامنة أعمدة الدخان، فقد كانت تنقلها إلى شاشة الحاسوب وتتأملها جيدا، لتلتقط ما فيها من قصص وحكايات وأشكال غريبة لا تستطيع أن تتوارى إلى الأبد.
وبما أنّ التعاون كان مثمرا بين منال وبشرى، فقد حصلت بشرى على دعوة من مؤسسة الإغاثة الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية للمشاركة في معرض فني، على أن تتحمل المؤسسة تكاليف الرحلة وتذكرة السفر والإقامة والمصروفات الأخرى، وقد أرسلت لها كل الأوراق المطلوبة للحصول على التأشيرة السياحية من السفارة الأمريكية.

ولم تكن “شارة النصر” لمنال اللوحة الدخانية الوحيدة التي طبقت شهرتها الآفاق، فبينما كانت تطمح لإقامة معرض فني في الضفة الغربية وأراضي الـ48، ذاع صيت لوحة دخانية أخرى تجسّد رقم هُوية الجندي “شاؤول آرون” الذي أسره الفدائيون، لينفتح الفيلم على موضوع المقاومة بأشكالها المختلفة ثقافيا وفنيا وعسكريا.
تعترف منال بأنّ بشرى قد طوّرت لوحاتها الدخانية، وكانت سعيدة جدا بهذا التطوير الذي يعزز التعاون والتضامن بين فناني قطاع غزة والضفة الغربية في وقت الحرب، وتقول إنّ فكرة الرسم على الدخان المتصاعد قد انبثقت من قصف العصابات الصهيونية للأراضي الفلسطينية المحتلة في حربي 48 و67.
شمع النحل.. معرض يحيي الشهيد على أنقاض بيته
يجمع هذا الفيلم الوثائقي الغني بين الرسم والنحت، فمحمد أبو حشيش -الذي استُشهد أخوه هاني وفقد بعض أطرافه في القصف الإسرائيلي- هو نحّات، وكان يتردد كثيرا على المكان الذي استشهد فيه أخوه في شرق مخيّم المغازي بالقرب من الحدود الإسرائيلية.

كانت الطائرات الإسرائيلية قصفت منزل أبو حشيش بأكثر من صاروخ، فقرر أن ينحت أطراف أخيه المفقودة، ويشترك بها في معرض يقيمه على أنقاض البيت، ويطلق عليه اسم “كرامات”، وقد صنع هذه الأطراف من مادة شمع النحل، وهي مادة ليّنة سهلة التشكيل قريبة من لون بشرة الإنسان، ولم يستعملها أحد من قبل على حد علمه.
تحضر المعرض الأم فاطمة أبو حشيش، فتنخرط في البكاء على استشهاد ولدها، لكن الأسرة برمتها تتمنى أن يرزقه الله بالفردوس الأعلى وأن يحشره مع الشهداء والصديقين. أمّا عودة التلباني الذي فقد ابنه أيضا، فقد كان رابط الجأش متماسكا وهو يستذكر ابنه عبد الرحمن الذي واراه الثرى من دون أطراف كاملة.
مواصلة الكفاح.. رسائل فنية تتحدى ظروف الحصار
لم يستطع الفنان محمد أبو حشيش السفر إلى النرويج لتلبية الدعوة التي تلقاها لإقامة معرض لمنحوتاته الفنية، لأنّ المعبر كان مغلقا. كما لم تستطع بشرى أن تسافر إلى أمريكا، لأنها لم تحصل على تأشيرة الدخول في نهاية المطاف. وأما الفنان إياد صبّاح فقد ظل الفنان عالقا في تونس، بينما كان أصدقاؤه يحتفلون بافتتاح النصب التذكاري الذي أنجزه تحيةً للمعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة.

ومع فشلها في الحصول على تأشيرة الدخول إلى أمريكا، فإن بشرى لم تيأس، وبدأت ترسم لوحات فنية على البيوت المهدمة التي تَغيّر منظرها كليا، وصار مقترنا بكثير من الجوانب الفنية والجمالية.
ويعرّج الفنان صبحي قوتة للحديث عن نصب المعاقين، إذ يرى فيه محاولة جدية لدمج ذوي الاحتياجات الخاصة بالمجتمع الفلسطيني، وأنّ فكرة المعاقين قد تولّدت من الحروب المتتالية والاجتياحات المستمرة لقطاع غزة، الأمر الذي أفضى إلى هذه النسبة الكبيرة من ذوي الاحتياجات الخاصة، فلا غرابة أن يبعث بتحية حارة من القطاع الحبيب إلى الفنان إياد صبّاح العالق في تونس الخضراء.
“خطوط على الدخان”.. معرض متزامن في الضفة وغزة
مع أن فكرة تنظيم “جمعية الرسم على الدخان” لم تتحقق على أرض الواقع، فإن منال لديها مفاجأة جميلة، تتمثل بإقامة معرض للرسوم الدخانية في غزة والضفة في آنٍ معا، وقد انضوى المعرض تحت عنوان “خطوط على الدخان”، تتحدث فيه بشرى عن بعض لوحاتها الرمزية التي تتمحور على الأطفال الشهداء وأرواحهم البريئة التي تضيء صفحات السماء.

يتحدث الفنان السادس والأخير فتحي غبن، فيقول إن الدخان استطاع أن يشكّل في السماء لوحات تجريدية كأنها مستمدة من لوحات واقعية.
وتختم بشرى قصة هذا الفيلم بالحديث عن “لوحة النصر”، وأن قبضة اليد القوية تدل على القوة والصمود، ثم نوّهت بأنّ هذه اللوحة قد أنجزتها قبل إعلان النصر، لأنها كانت موقنة بأننا سوف ننتصر في يوم من الأيام، فهل ستتحقق هذه النبوءة في القادم من الأعوام؟
ماجد جندية.. أعمال فنية تعزز ثقافة المقاومة
جدير بالذكر أنّ المخرج ماجد جندية من مواليد غزة سنة 1967م، وقد درس السينما في ألمانيا بعد أن تخلى عن دراسة الطب، وأنجز عددا من الأفلام، من بينها فيلم “عماد عقل” (2009)، وهو أحد مؤسسي كتائب عز الدين القسام. كما بدأ بإخراج فيلم سينمائي بعنوان “الوهم المتبدد”، و”غزة تحت الحصار”.
وبعد وفاته في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، وصفته وزارة الثقافة الفلسطينية في نعيها له “بأنه من أبرز المخرجين السينمائيين في قطاع غزة، فقد أسهم بشكل واضح من خلال أعماله الفنية الإبداعية في تعزيز ثقافة المقاومة، وإظهار معاناة الشعب الفلسطيني الذي يكابد المشقة والويلات بسبب الاحتلال وسياساته الإجرامية”.