“هاربة من الماضي”.. نقاط مظلمة من حياة المرأة اليهودية في الطائفة الحسيدية

في كتاب “البحث عن الجنة” الصادر حديثا، يطرح الكاتب “بيكو إير” أفكارا حول العادات الروحية من جميع أنحاء العالم، يتأمل من خلالها جميعا في فكرة الجنة، والأفكار الموجودة عن النار والعذاب “بوصفها معضلة مضادة للجنة تنشأ أساسا من التشدد”. يزور الرجل مساجد إيران وشوارع كوريا الشمالية المعزولة، وجبال اليابان وصحاري أستراليا، وصولا إلى بلفاست (الموطن الروحي للحرب الأهلية بالنسبة للكثيرين وفق قوله)، ثم إلى مناطق وجود اليهود.
يرى من خلالها “كيف مزقت الصراعات المتشددة عددا من الجنان المحتملة، انقسمت الأفكار والمشاعر بسبب التشدد الديني الذي أبعدنا عن الجنة، أصبح العالم يبدو كما لو كان دائما يغلي في حالة من عدم الإجابة”.
يصالح الكاتب نفسه تدريجيا مع تناقضات الجنة الأرضية، فيقول “أجمل الأزهار لها جذورها فيما نعده قذارة وقذارة”، ومن كل ذلك يترك تصوّرا عن المجتمعات المتشددة التي تنتزع إنسانية أصحابها دون أن يدركوا ذلك، تُفرّق بين رجاله ونسائه، تدمر الإنسان وتتجنى بشكل أكثر قسوة على المرأة التي في داخله، هكذا يدين الكتاب فكرة التشدد التي تخلق مجتمعا معاديا للجميع.
“تحت قبة السماء”.. عنف تباركه طائفة المورمون المتطرفة
مع صدور الكتاب، وإلى جانب أعمال أخرى، ظهرت بعض الأصوات الغاضبة ممن أدان الكتاب تشددهم، وبشكل عام باتت الأعمال الفنية المكتوبة والمصورة أشد حساسية في الفترة الماضية تجاه الخطاب الذي تتناوله، بسبب الخوف من ردود الأفعال الغاضبة ممن تنتقدهم، وهذا يجعل مجرد طرحها بمباشرة ما نوعا من المقامرة والجرأة من أصحابها.
على سبيل المثال يمكن أن ننظر لما حدث في مسلسل “تحت قبة السماء” (Under the Banner of Heaven) الذي كان يعرض فكرة جريمة مروعة تثير الجدل حول طائفة المورمون، وهي إحدى الطوائف “المتطرفة”، وبحسب المسلسل فإنها تبارك العنف.
يلخص فكرتها أحد أبطال المسلسل قائلًا للمحقق المورموني “إذا كنت لا تزال تعتقد حقا أن إلهك هو الحب فأنت لا تعرف من أنت، يا أخي هذا الإيمان، إيماننا، يولِد رجالا خطيرين”، وهو كلام يؤكّد ما تناوله كتاب “البحث عن الجنة” الذي أبرز عالم التشدد الديني المسكوت عنه، أنتج مجتمعات غير سوية، ذكورية تماما وعنيفة في حق النساء.
الطائفة الحسيدية.. جماعة يهودية يجرّم الحديث عن تشددها
كل تلك الأعمال في جوهرها حديث عن مجتمع مغلق، يمكن الانطلاق في الحديث عنها من واقع حياة أشخاصها، مجتمع ينكمش على ذاته، يصبح أكثر ذكورية يوما بعد الآخر، بسبب تقديم ذكوره للخدمة المجتمعية، وتراجع المرأة إلى أدوار ثانوية بشكل مجحف.
هذه المرة يمكننا تحليل خطاب نموذج من تلك المجتمعات من خلال أعمال تناولت حياة الطائفة الحسيدية اليهودية، فكيف تعيش؟ وما الذي يجعل الحديث عنها مغامرة خطرة؟ ولماذا يجرّم الحديث عن تشددها في أي مكان؟
ربما نحاول طرح الأمر من خلال فيلم “واحد منّا” (One of Us)، ومسلسل “هاربة من الماضي” (Unorthodox)، فقد قدما الفكرة ذاتها تنويها على حياة الطائفة، وبالتحديد معاناة النساء داخل قسوتها وانغلاقها المدمر، هذه المرة من خلال طوائف يهودية أكثر تطرفا وتشددا من الجميع، مما يجعل الفيلم يتقدم خطوة على مستوى خطابه، ويخبرنا عن مأساة يحاول اليهود بكل الطرق إخفاءها.
“هاربة من الماضي”.. فتاة يهودية تفلت من عمق الجحيم
تظهر الأحاديث عن تصورات الجماعات اليهودية المتطرفة من كتابات أشخاص من داخلهم، يدينون حياة المرأة الجحيمية وتعاليم العداء، وهي تأتي في لحظة كاشفة يتهم فيها أغلب اليهود داخل فلسطين المحتلة وخارجها كل تلك الفظائع بأن منبعها أديان أخرى، بينما يتصدر اليهود الأحاديث عن القتل المستمر داخل غزة وأحيانا كثيرة خارجها، كما يتصدر الحديث مأساتهم الداخلية في التعامل مع النساء تحديدا.
يتجاهل العالم ذلك، في لحظات استثنائية تظهر تلك الأعمال التي تبرز المأساة، وتؤكد على جذور التشدد اليهودي ووحشيته، كما تظهر مدى الكبت والمأساة التي تعيشها المرأة اليهودية أحيانا، بينما يجرّم التحدث عنها في كثير من السياقات.
المسلسل القصير “هاربة من الماضي” للمخرجة “آنا وينجر”، مأخوذ من السيرة الذاتية للكاتبة اليهودية “ديبورا فيلدمان” التي صدرت في عام 2012، ويحكي قصة فتاة يهودية في عامها التاسع عشر، تفر من مجتمعها اليهودي الحسيدي الذي نشأت فيه في ويليامزبرغ في بروكلين بنيويورك، هربا من القيم الاجتماعية المتشددة التي تحيط بها، وقد اتخذت برلين موطنا جديدا لها، فعاشت حياة جديدة خارج المجتمع المحكم والمنغلق الذي تركته وراءها.
تأخذنا أحداث المسلسل إلى التناقض الصارخ بين القيم الاجتماعية التي نشأت عليها يهوديا، وبين الحرية التي اكتشفتها بعد هروبها، لتضعنا أمام التساؤلات حول المجتمع والهوية والانتماء التي تنشأ بين الشخصيات التي تركتها في ويليامزبرج، بما في ذلك زوجها الذي انطلق في مهمة لإعادتها.
ربما كان من أكبر نقاط القوة في المسلسل الأداء الذي قدمته الممثلة “شيرا هاس”، لأنها قدمت واحدا من أفضل أدوارها على الإطلاق، تتلمس فيه حقيقة المذكرات التي اقتبس منها المسلسل قصته، كانت صامتة حزينة غاضبة، تتخفى وراء بركان من المشاعر التي تريد الخروج والتجريب في عالم أكثر حرية وطلاقة.
بشكل مؤسس يحكي المسلسل قصته عن الطائفة من خلال حياة موازية تعيشها الفتاة التي تهرب في الحلقة الأولى مباشرة، لنرى من خلالها ذكريات عاشتها في المجتمع أمام عالمها الجديد، الذي تتخفى فيه خوفًا من بحث الطائفة التي تسعى لاسترجاعها إليهم، بوصفها حقا مكتسبا ولا يمكنها حتى الهرب منه.
طوائف التطرف.. أعمال تكشف خبايا مجتمعات محافظة
أثار المسلسل انتقادات في أوساط المنتمين إلى الطائفة الحسيدية، فقالوا إنهم يتعرضون للتشهير ومحاولات لتشويه صورتهم من خلال العمل، التعليقات ذاتها ستجدها موجودة على الكتاب الأصلي المقتبس عنه هذا المسلسل، وهو أيضا ينقل واقعة حقيقية حدثت داخل هذه الطائفة “المتطرفة”، وظهرت بعض الاتهامات اليهودية بأنهم يحاولون برغبتهم الخاطئة اتهام كل دين عموما على أنه عنيف في جوهره.

تنقل الكتابات على المسلسل أو من خلاله تأكيد أن اليهودية المتشددة أصبحت ساخنة للغاية في الوقت الحالي أكثر من أي وقت آخر، مع أن الأعمال الداخلية للمجتمعات الأصولية المنعزلة كانت دائما مصدرا للفضول الثقافي الشعبي، فقد شهدت السنوات الماضية انفجارا في وسائل الإعلام رفيعة المستوى لتسليط الضوء على التطرف الذي تمثله هذه المرة طوائف يهودية.
وقد عرضت نتفليكس أيضا فيلما وثائقيا مروّعا عن اليهود الحسيديين السابقين، جنبا إلى جنب مع المسلسل الإسرائيلي “شتيسيل” الذي أُحيي مؤخرا، ويتبع عائلة متطرفة.
كل ذلك مهّد الطريق أمام مسلسل “هاربة من الماضي” الذي يستعرض قيود الحياة الزوجية وخبايا المجتمع المحافظ للغاية في ويليامزبرغ، من خلال فتاة تقيم صداقة مع بعض طلاب الموسيقى، على اعتبار ذلك نتيجة التشدد الذي عاشته لسنوات، تفضح من خلاله جذورها الحسيدية، ينتج كل ذلك الخنق المجتمعي أناسا كارهين للآخر وعدائيين تجاه كل شيء.
“واحد منا”.. وثائقي يكشف قضايا العنف ضد المرأة
يبدو وثائقي “واحد منا” الذي صنعته “هيدي إيونغ” بالتعاون مع “راشيل غريدي” مساحة تأويلية لعدد من النماذج، بخلاف مسلسل “هاربة من الماضي” الذي يعتمد على قصة واحدة، يحاول الفيلم التأكيد من خلال نماذج مختلفة أن الأمر ليس في الأشخاص، قدر تورط الخطاب اليهودي ذاته في التطرف والعنف غير المبرر تجاه المرأة تحديدا، ويبدو منبع التشدد الذي يتطور في أشكال همجية أخرى.
يكاد المشهد الأول في الفيلم يقف في مواجهة مع المشهد الأول في المسلسل، لأنهما يُظهران نقطة التطور الدرامي بينهما كاملا، وما يمكن أن يخطوه هذا أو ذاك من تنويعات على قصة التطرف اليهودي الذي يمكن اعتبار جوهره قائما على إدانته من خلال نموذج حياة النساء في الداخل.
بينما نرى المسلسل يبدأ بداية صامتة موتّرة، لا يترك مقدمات تعريفية لمشاهده، نرى محاولة البطلة الهرب سريعا من مكانها، تخطف معها مُشاهدا يشعر بالتوتر معها دون أن يفهم كثيرا، يؤجل تبريراته ويحبس أنفاسه حتى تهرب هذه الفتاة من عالمها الذي يبدو غير مرحب به من جانبها.
يبدأ الفيلم من لقطة أوسع قليلا لرجل يرقص في سعادة، سريعا ما تبعد الكاميرا إلى الفتاة والعالم العاصف الذي سندخل إليه، المختزل في صمت وغموض ووجوه تسمع حديثها ولا تراها الكاميرا، لكنها تكشف منذ اللحظة الأولى تباين العالم الذي يعيشه الأبطال مقابل العالم الأوسع.
“لوزر”.. ممثل طموح فر إلى تحقيق أحلامه
يركز فيلم “واحد منا” على ثلاثة مواضيع فقط، ثلاث قصص مختلفة لأشخاص هربوا من عالمهم المتشدد، “لوزر” هو الأكثر جاذبية بين المجموعة تلك، وهو ممثل طموح بدأ لعب الشخصيات الحسيدية في السينما مستغلا خلفيته، تعلم عن العالم العلماني في سن المراهقة من خلال مشاهدة الأفلام سرا في سيارته. يقول: “كانت الخطة تتمثل في الحفاظ على الرواتب واللحية وإبقاء السوق على الممثلين الحسيديين”.
إنه “يشعر بأنه أقل ميلا إلى الحسيدية” في لوس أنجلوس، لا يريد أن يعرف الناس حقيقته، خوفا من أن يؤثر ذلك على صورته. “لا يعني ذلك أن لدي صورة، ولكن إذا كانت لدي صورة، فستؤثر عليها”، حتى هرب الرجال هنا أقل هونا لدى الطائفة التي تبحث عن النساء الهاربات وتجبرهن على العودة بالقوة والعنف.
“لوزر” في العشرينيات من عمره، وقد تحرر تماما، تؤكد ذلك مشاهده الوثائقية وهو يغني في سيارته بحرّية تامة، استلزم ذلك التخلّي عن زوجته وأطفاله والهروب إلى لوس أنجلوس، لمتابعة حلمه في أن يصبح ممثلا، وهو يعيش الآن في عربة سكن متنقلة ويعمل سائق أجرة لكسب لقمته، وهو رجل هارب غير متأكد من كيفية الازدهار في مجتمع لم يكن مستعدا للدخول إليه، بسبب نشأته المغلقة.
أثناء تعلّمه التمثيل يطلب منه المدرب أن يتعمق في الشخصية أكثر، ويصبح حزينا بالفعل، يسأله أن يتخيل أحزانا حقيقية من حياته ليجبر على تمثيل المشهد، لا يجد أمامه سوى تذكّر زوجته التي تركها دون مصير في مجتمع يبدو واضحا وضع النساء المخيف في داخله. قصة “لوزر” في النهاية تنويعة أكثر قسوة على حياة امرأة أجبرت على الزواج به والاستمرار من بعده، من دون أي سماح للاختيار أو التجربة.
“هل أنت واحد منا؟”.. عقلية مجتمع كاره للعالم الآخر
في أحد المشاهد الوثائقية، يستفسر حاخام حسيدي شاب ما إذا كان “آري” يتحدث اليديشية، إنه قلق من أن الأولاد المحليين يتسكعون في الحديقة للحصول على الإنترنت المجاني. قال له آري: “إنه عام 2015، لا يمكنك إيقاف وصول الإنترنت عن الناس”.

ينظر الرجل لأعلى ولأسفل، فيرى شابا حليق الذقن، ولكن لا يزال يرتدي اليارملك (من الطائفة ذاتها) يسأله الحاخام “هل أنت واحد منا؟” هكذا يرى العالم الذي يريده، واحد منّا هو أي إنسان لا يقبل أن يستخدم الأطفال الإنترنت، تعبيرا عن العالم الخارجي المدمر.
في مشهد آخر مؤسس يصرخ حاخام في تجمع “سيتي فيلد” لعام 2012 ويهدد بالطرد من لم يتقيد بالإرشادات الدينية التي تجرّم حمل الأطفال للإنترنت، والتشديدات التي تنالها النساء، إذ يجب عليهن السمع والطاعة ليستمر هذا العالم الضيق، ربما في ذلك وجاهة أكبر من كل شيء، رعب هرب النساء منه يعني عدم وجود سند حقيقي لاستمراره، لذلك يمثل موعظة أساسية في كل حديث لحاخام.
تفكيك أفكار المؤمنين.. بيئة متشددة تخلق التطرف المرعب
تبدو كل تلك الأشكال التي تظهر العنف والتشدد الذي يخلق مجتمعات كارهة للعالم نموذجا مرعبا للحديث، أولا لأنه يمنع الحديث عنها في أغلب الأحيان، بأشكال أكثر تطورا، ومساحة للتفكير أكثر في إمكانية مقارنة تلك الأشياء عمليا بالأعمال المتخيلة التي تدين مجتمعات مثل المجتمعات الإسلامية بتشددها ومأساة المرأة في داخلها دون سياق واضح، تنتزع تلك الأعمال أهميتها بأنها مصنوعة بناءً على تجارب حقيقية تدين ذلك التشدد.
في لحظة فاصلة نسبيا، تثبُت همجية الكثير من اليهود كل يوم بشكل أوسع من سابقه، على مستويات متعددة من التشدد والتطرف الذي ينمّي الغضب والقتل في سياقات مختلفة، للرجال والنساء على حد سواء، يبدو أن تفكيك أفكار بعض المؤمنين بكل ذلك من الداخل، قد يساعد على إظهار المأساة الداخلية على الأبناء، أو الخارجية التي تدعم آلة القتل المستمر في فلسطين تحديدا، ثم السعي في محاولة حلّها، بدلا من السعي غير الدقيق لإدانة مجتمعات دينية أخرى بشكل أرعن.
تلك الإدانة الرعناء لا تساعد على حل أي شيء، سواء للنساء المقهورة بسبب هذا التشدد، أو للشهداء الذين يذهبون كل يوم نتيجة الإيمان المنغلق على ذاته الذي يبدو مثلما وصفه الكاتب في كتاب “البحث عن الجنة” نقيضا للإيمان ونقيضا للجنة، ينتج التشدد كما في الحالة اليهودية الحسيدية جحيما على الجميع دون استثناء.