“مقعد خالٍ”.. آخر ما بقي من ذكرى الأصدقاء الذين اختطفتهم الحرب

تبدأ روان الصباح حكايتها من لحظة نجاتها هي وأسرتها من الحرب في غزة، النجاة في زمن الحرب معجزة، وقربانا عليها أن تفقد مقابله شيئا ثمينا. عاشت روان لكنها مع بداية العام الدراسي الجديد وجدت نفسها تمشي وحيدة إلى مدرستها، بعد أن كانت تقضي وقتها كله مع صديقتها رغد، لا لشيء سوى أن رغد لم تجد المعجزة ولم تنجُ، فقد استشهدت في الحرب، ليبدأ فصل جديد في حياة صديقتها روان اسمه الفقد.

“كنت كتير أحبها، كنت كل يوم أنا وياها مع بعض، ماشيين رايحين جايين، في كل وقت وكل ساعة وكل دقيقة مع بعض، ومن كتر ما كنا مع بعض كانوا البنات بيفكرونا أخوات”

يتسلل الحزن إلى قلب روان كل مرة ترى فيها صديقتين تمشيان معا في الشوارع، فثمة شيء ما يحرك الذكرى بقلبها، فتتذكر رغد. وليست روان وحدها من فقدت صديقتها، ففيلم “مقعد خال” هو مرثية طويلة لكل الأطفال الذين فقدوا أصحابهم في الحرب، وتركوا خلفهم مقاعد فارغة في المدارس، وفتحوا سجلا جديدا في سجلات الموتى.

وحدة الطريق.. بحث عن الأحباب بين الأطلال

بعد أن فقدت روان عليوة صديقتها نجيّة في الحرب، باتت تمضي في الشارع وحدها دون رفقة، فقد كان الشارع هو الملتقى بينهما، فكانت تلتفت لتجد نجية قادمة من بعيد، فتنتظرها لتمضي معها إلى المدرسة. ولكن بعد الحرب لم يعد لنجيّة وجود، لا هي ولا أسرتها بأكملها.

رفيقتان في طريق المدرسة قبل الفراق

كما أن الشارع أيضا لم يعد كما كان، فقد صار مهدما، وتتراكم على جانبيه أطلال البيوت المنسوفة والمهدمة. لم تستوعب روان غياب صديقتها فأخذتها قدميها لبيت صاحبتها، وراحت تفتش عنها بقلة حيلة بين ركام البيت.

الطريق الطويل الذي يقطعه الأطفال يوميا من بيوتهم إلى المدرسة ذهابا وعودة هو رحلة من الألم اليومي، فمن نجا من الحرب ستطارده ذكراها على الطريق، وستلتقي عيناه بحوائط البيوت الناجية التي زينت بصور الشهداء وأسمائهم، إنها الذكرى التي لن تنسى، وهي أيضا لعنة الأحياء في فلسطين بعد الحرب.

شعور الفقد والوحدة.. كرسي فارغ يذكر بالحبيب الغائب

تسبق الدموع كلمات نور الهدى وتغلبها، وتختلط عليها الذكرى بمشاعر جديدة تشكو أنها لم تتأقلم عليها بعد، تلك الوحدة التي تحاوطها بعد أن فقدت صديقتها المقربة وكل أصحابها السابقين، فبعد الحرب لم يبق لها سوى تلك الوحدة وزميلات جدد لا تعرفهن، وعليها أن تبني علاقات معهن من الصفر، لكنها لا تستطيع النسيان ولا تتصالح مع الوضع الحالي.

“أول يوم في الدراسة كنت شاعرة بالوحدة، مش متعودة أكون لحالي”

مقعد مدرسي خال، ليسعليه سوى اسم وصورة الطالبة نجية الحلو

تلك الوحدة هي الشعور الذي أجمع عليه كل من فقد صديقا له في الحرب، فربما هي أيضا وحدة تجاه هذا العالم الفسيح الذي تشعر فيه فجأة بالغربة وبأنك منسي، ووحدك تحمل عبء نفسك وتلك القسوة الضاغطة، بينما الحطام ما زال يحيط بك.

ولا تزال روان تذهب إلى مدرستها التي تحطمت جدرانها من أثر الحرب على غزة، إذ لم تصلّح الجدران بعد، ولم تسد فجوات الحوائط، فأي شعور بالأمان يمكن أن يتسلل إلى قلوب الطالبات وآثار الحرب تحيط بهم من كل الجهات؟ فقد تُركت روان مع مقعد فارغ هو مقعد صديقتها، ليكون في قلبها ثقبان لا يلتئمان؛ الوحدة والحرب.

الطالبة نور الهدى تقف على أطلال بيتهم المهدم

أزعل على دارنا ولا أزعل على صاحبتي، ولا أزعل على مدرستي اللي راحت.. أنا مش عارفة إيش أعمل

تحتفظ المقاعد الدراسية بذكريات الطفولة، فهناك أجيال متعاقبة جلست على المقاعد ذاتها، وكل عام تتجدد الأمنيات والأحلام والمشاعر أيضا. وتسأل المعلمة الطالبة نور الهدى عن مشاعرها أثناء الحرب، فتجيب وهي في حيرة: “أزعل على دارنا ولا أزعل على صاحبتي، ولا أزعل على مدرستي اللي راحت.. أنا مش عارفة إيش أعمل”.

ثم يأتي صوت المعلمة من بعيد، لتخبرها أن البيت يعوض، والمدرسة تعوض، وأن صاحبتها لن تنسى ذكراها، فتبكي نور ذكرياتها لأنه “ما ضل إشي”.

“نديم كان لسه معي، كيف استشهد؟”

يحكي حكم أبو حويج عن ذكرياته مع صاحبه نديم في يوم ذكرى النكبة، فقد التقطوا صورة معا ما زال يحفظها على صفحته الشخصية على الفيسبوك، ولم يكن يعرف أنها آخر ذكرى ستجمعه بصديقه الذي قتلته رصاصة من الجيش الإسرائيلي غدرا، وأن صاحبه سيكون شهيد ذكرى النكبة عام 2014.

مسيرة تندد بقتل الأطفال وتلاميذ المدارس

لم يُقتل نديم نوارة فحسب، بل سجلت كاميرات الصحافة لحظة سقوطه واستشهاده بالرصاصة، كشجرة لم تصمد وانتزعت من جذورها وطرحت أرضا بفعل شيطاني، وكأن شيئا لم يكن.

ويفاجئنا الفيلم بمشهد القتل من كافية الزوايا، حين يسقط نديم، ويجري الشباب تجاهه، ثم يحملونه على أعناقهم، ليواجه الموت وحده، وتعلو أصوات أصحاب نديم تخالطها الدموع والدهشة، إذ لم يستوعبوا كيف أن صديقهم الذي يلتقون به يوميا، وكان معهم قبل ساعات بات شهيدا، وأن هاتفه لن يجيب بعد اليوم على مكالماتهم.

ويشعر حكم أبو حويج بالذنب لأن صديقه مات وحده، ويتخيل مصيرا آخر لو أنه كان برفقته لحظة موته، فربما لم يمت، أو ربما كان احتمى معه بحائط ما ولم يحدث ما حدث، فمن يبقى حيا سيغوص في أفكار ومشاعر متضاربة، وسيلوم نفسه على الحياة. ولم يستطع عدد قليل من أصحابه سوى الدخول إلى ثلاجة الموتى لتوديع صاحبهم، وتلك ذكرى جديدة ومؤلمة لآخر لقاء يجمعهم بنديم.

على الهواء مباشرة يسقط نديم، فيجري الشباب تجاهه، ثم يحملونه على أعناقهم

فماذا يفعل الموت بالأحياء؟ إنه يتركهم مع أسئلة لا إجابة لها، ومشاعر تصعب مواجهتها أو حتى فهمها، فقد احتاج أصحاب نديم وقتا طويلا ليفهموا معنى أن صاحبهم لم يعد له وجود، وأن مقعده في المدرسة بات فارغا منه، والاقتراب من مقعده هو اقتراب من جرح عميق بداخلهم لم يداووه بعد.

“الإنسان يتلاشى وتبقى ذكراه تنير دروب الآخرين”

تلتقط الكاميرا أسورة زرقاء تزين معصم الطفلة روان، تبدو زينة عادية لمن يراها، لكن روان تحكي أنها أسورة صديقتها رغد، وأنها أعطتها إياها لتكون ذكرى منها إذا ماتت أو استشهدت، وقد وفّت روان بالوعد، فلا تزال الأسورة في يديها، وربما لا تزال تحمل رائحتها. ونحن نشاهد الأسورة ونفكر: هل يحق لطفلة صغيرة أن تفكر في موتها عوضا عن التفكير في حياتها؟

أسورة زرقاء تزين معصم الطفلة روان أهدتها إياها صديقتها رغد لتكون ذكرى منها إذا ماتت أو استشهدت

“الإنسان يزول ويتلاشى، وتبقى ذكراه شمعة مضيئة تنير دروب الآخرين”. تلك الكلمات كتبتها نجيّة لصاحبتها روان في دفترها الصغير، تفتح روان الدفتر وتمر بأصابعها على السطر الذي تركته لها صاحبتها.

سطور في دفتر، وأسورة، وصور شخصية، وملعب رياضة، ومقعد دراسي، كلها أشياء يتركها الشهيد لتستمر ذكراه، وبعد أن تنقطع طرق الحياة لا يبقى أمام أصحابه سوى طريق واحد يمشونه وحدهم صوب قبره.

إحياء الذكرى.. عيد ميلاد وزيارة للمقام الأخير

تطلب روان من أمها أن تأخذها إلى مقبرة صاحبتها رغد، تقول إنها لا تعرف الطريق إلى قبر رغد، لأن الأرض مقبرة كبيرة بها الكثير من الشهداء، ورغد وأسرتها دفنوا جميعا في مكان واحد. فما من شاهد قبر تكتب عليه الأسماء وتحصى الأعداد، بل هو محض فضاء صحراوي شاسع يحيط به حطام البيوت المهدمة بفعل الحرب، فثمة بيوت بها حياة وأناس يعيشون وتطل شرفاتهم الصغيرة يوميا على الموت.

روان مع أمها في المقبرة لزيارة قبر صاحبتها رغد

واليوم يحتفل أصدقاء نديم بعيد ميلاده، فيحيطون صورته التي تزين كعكة عيد الميلاد، أما روان وصاحبتها فهما تقفان على قبر نجية صاحبتهما، يسألانها عن حالها اليوم، بينما تغمر روان تربة المقبرة بالماء، لعل شربة ماء تصل إلى صاحبتها، أو ربما تزهر من عتمة قبرها زهرة تخبرهما أنها حقا بخير.

وهكذا، ومع كل حرب ثمة قبور جديدة تحفر، ومقاعد جديدة يغادر أصحابها فتبقى خاوية، ولكن من يضمد جروح الأصدقاء الذين تورطوا بعدهم في الحياة؟


إعلان