“بيسان”.. طفلة من غزة ترفض الموت تحت الأنقاض
تصعب متابعة فيلم يحكي عملية إنقاذ حقيقية لما بقي من عائلة تحت الأنقاض، يصعب هذا حتى في فيلم روائي، فكيف الأمر مع كاميرا تتابع مباشرة إخراج أحياء؟ إنه الأمل الذي يحثّ المشاهد من البداية، أملٌ بحياة ستنتصر ولو جزئيا على الموت، سيشهدها وستظل تثير فيها الانفعالات حتى لو مضى عليها زمن.
ليس الزمن هنا مهمّا، فما يهمّ هو أنه يشهد إنقاذا لأرواح بريئة كانت بين موت وحياة تنتظر منقذا، تنتظر معجزة، فهناك نوع من يقين من هذه المعجزة التي ستحدث في نهاية الفيلم، وأن أرواحا ستنعم بولادة جديدة، لكن هذا كلّه لن ينسي من بقي إلى الأبد تحت هذا الدمار.
يتابع فيلمُ “بيسان” الوثائقي الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية (2014)، عملَ فريق من المسعفين في غزة، الجريحة الأبدية في هذا العالم الظالم، غزة التي تخرج من عدوان لتقع تحت آخر.
نحن في 13 تموز/ يوليو 2014، والعدوان الإسرائيلي كان قد بدأ منذ أسبوع. وفي المشاهد الأولى من الفيلم اثنان من رجال الدفاع المدني الفلسطيني يبحثان عن متجر مفتوح لشراء بعض الأغراض، ليس أدوية أو ما يتعلق بعملهما الشاق، بل شوكولا وزجاجة ماء بارد.
دكان الحلوى.. وعد لطفلة خارجة من تحت الأنقاض
كان أحد رجال الدفاع المدني -ويدعى علاء- قد أنقذ الصغيرة بيسان وأخرجها من تحت الأنقاض، يريد تنفيذ وعده لها، يحضر لها ما طلبت وهي على الحمالة، خارجة لتوّها من جدران وأسقف هبطت عليها بعد قصف وحشي لمساكن في غزة.
يعود الفيلم إلى الوراء، بعد أن طمأن المشاهدين من البداية أن هناك أحياء نجوا، وهم هنا الآن، مما يخفف قليلا من أسى يسود مع مشاهد دمار في المدينة والسيارة تتنقل فيها. إنها بيسان، كتبت لها الحياة هي وزوجة أخيها.
يضع الفيلم مُشاهده في أجواء القصف، مشاهد رأيناها من قبل ونراها حاليا وقد نراها مستقبلا، وتثير دائما رد فعل متكرر يتراوح بين ثورة وغضب وألم. فيها نساء يهرعن بعيدا عن منازل تنهار تحت قصف أعمى، وأطفال على الأذرع والأكتاف وفوق الأرض متمسكين بأمّ مرعوبة تركض بهم، وأب يسحبهم بعيدا عن مصير أسود، بينما تقف امرأة مفجوعة في منتصف شارع يُقصف، تصرخ بصوت يحرق القلوب “ابني راح”.
قصف المنازل الوحشي.. ذنب الطفولة في غزة
كان الاحتلال الإسرائيلي أعلن بعد أيام من بداية العدوان على غزة أن حيّ الشجاعية، الواقع شرق المدينة، منطقة عسكرية مغلقة. وها هي مدفعياته التي تساندها الطائرات تقصف بوحشية منازل المواطنين، وتجبر عشرات الآلاف على النزوح من سكناهم.
وهذه بيسان ضاهر تسرد قصة إنقاذها، وما زالت على جبين هذه الصغيرة ذات النظرة البريئة آثار حروق تصل إلى عينها، وينفطر القلب لرؤيتها، ما ذنبها؟ كل ما فعلته أنها كانت جالسة في منزلها، لكن الطفل في غزة لا يحق له أن يكون ذا منزل، ولا أن يعيش حياة طبيعية كأي طفل.
تقول بهدوء إنها رأت ضوءا أحمر قبل أن تُقصف دارهم، وها هي مع كل عائلتها تحت أنقاض هذه الدار. استُشهد ستة وبقيت هي وشيماء زوجة أخيها الحامل، يا لقدر هذا الطفل في بطن أمه التي نجت مع بيسان، وولدت بعد شهرين من إخراجها، لقد ولدت محمد الذي أخذ اسم والده الشهيد.
شيماء ذات السمع المرهف.. صرخة من الأنقاض
يعود الفيلم من جديد إلى عملية الإنقاذ، فقد كان صوت شيماء هو الذي دلّ المسعفين على وجود أحياء، ولم يكن أحد يتوقع ذلك، فقد كان الدمار هائلا لدرجة تجعلك تظن أن كل من تحت هذه الجدران والأسقف قد فارق الحياة لحظتها. لكن شيماء التي كانت ترهف السمع إلى كل دبيب، سمعت أصواتهم وبدأت بالصياح بصوت يثير مشاعر ودموعا لدى متلقيه، سواء أكان فريق المسعفين أم المتابعين من بعيد أمثالنا.
كانت شيماء قد صحتْ بعد غيبوبة، فوجدت نفسها في هذا القبر، وكل شيء يكبس على أنفاسها، تشعر بأفراد من عائلتها حولها، ولكنها لا تعرف أكانوا أحياء أم أمواتا.
يتابع الفيلم عملية الإنقاذ، كل ما يصادف المسعفين من مشقات لا تحصى حقا، فالخطر يواجههم من جميع الجهات، فهم مهددون بالقصف، أو بحصول انهيار كامل لدى محاولتهم إنقاذ الناس تحت الدمار، مهددون بتساؤلاتهم ومشاعرهم أيضا. كيف يستطيعون إنقاذ الأحياء، وماذا لو لم يتمكنوا، ماذا لو تركوا نفسا تنتظر الموت بينما هم هنا قد لا يستطيعون شيئا لها؟ إن عليهم اتخاذ قرارات خطيرة بسرعة، وإلا فإن أرواحا ستضيع، فالتردد لا يصح في هذه الأحوال، مع أنهم مهددون أيضا، وكانوا قد فقدوا زميلا في نفس الصباح.
“شغلة بسيطة قد تقتلنا كلنا”.. عملية الإنقاذ
يتحدث عدد من المسعفين في الفيلم، يبدون مشاعرهم الحقيقية بكل صدق، إن الوضع أكبر وأشد تعقيدا من أن يحتمل، فهناك قرارات خطيرة عليهم اتخاذها، مثل قرار التدخل الذي كان صعبا، لأن المنطقة مهددة بقصف دائم.
ويبدي الفيلم أفكارهم ومشاعرهم عبر حوار فيما بينهم، أو أمام الكاميرا، وكيف يمكنهم قبول الانسحاب من دون إنقاذ أناس يعرفون جيدا أنهم على قيد الحياة في مكان ما، فأولئك ما ينتظرون إلا وصولهم؟
حين يقررون التدخل في الشجاعية، بناء على طلب من المسعف علاء زميلهم، تبدأ استعداداتهم، وأهمها تحديد الموقع بالضبط، فأي حركة غير مدروسة جيدا ستقود إلى سقوط المزيد من الجدران الهشة، ثم إلى موت الجميع، لأن “شغلة بسيطة قد تقتلنا كلنا”.
يحبس الجميع أنفاسه، مع أن المُشاهد يعرف أن عملية الإنقاذ ستنجح، ولو كنا نشاهد فيلما روائيا لقلنا إن هناك مبالغة، وإن من المستحيل إنقاذ أحد تحت هذا الركام. ويعرض الفيلم الخطوات بدقة، وكيف يكسرون أحجارا أحاطت بشيماء وبيسان، وكيف سُحبتا في نهاية المطاف.
“تحيا فلسطين عربية حرة”.. أهازيج الأمل وبلسم المعاناة
يهتم الفيلم بحياة الناجيتين بعد أشهر من إنقاذهما، فها هي بيسان تغني ووجهها يحمل كل البراءة والجمال متحديا تشوهه، وهي تردد: “تحيا فلسطين عربية حرة”. وأما شيماء فتربي وليدها محمد.
ويتابع المسعف علاء والمصور الاهتمام ببيسان، فقد تعلقا بها، وهما يجلبان لها الألعاب ويحاولان تخفيف آثار الصدمة النفسية على طفلة لم تعش طفولتها كما ينبغي أن تعاش.
ثم يتنقل الفيلم بين ماض وحاضر، وإن كانا قاتمين بكل هذا الدمار وهؤلاء الشهداء، لكن هناك شيئا من أمل، فيه نجاة بيسان الصغيرة، وولادة محمد، وعمل المسعفين الجبار، واستعدادهم الدائم الذي يتحدى الخطر.
إنه التاريخ يعيد نفسه اليوم، وكأن عقدا لم يمر، فهناك كثيرون مثل بيسان، وهناك آخرون أكثر لم يسعفهم الحظ بالنجاة من أطفال غزة، وهناك دائما أطفال ونساء وشيوخ ورجال ينتظرون يدا تمتد تحت أنقاض غزة.