“جحيم التفوق”.. زهرة الشباب تغرق في وحل المنظومة التعليمية الكورية

تمتلئ العاصمة الكورية سول بالعرّافين، ويصغي الشباب باهتمام لما يخبئه لهم المستقبل، ويقصد 40% منهم العرافين، ويوجد في كوريا أكثر من نصف مليون عرّاف ومشعوذ، وتزيد مستويات التوتر لدى الكوريين عن المعدلات العالمية، ويعتبر معدل الانتحار من الأعلى في العالم، وسببه الضغط الشديد الذي يواجهونه سعيا للنجاح، وهو ما اصطلح الكوريون على تسميته “جحيم التفوق”.

في السلسلة التي تعرضها قناة الجزيرة الوثائقية بعنوان “الهوس الكوري”، تصحبنا الصحفية “جو لي” الأمريكية ذات الأصل الكوري، ونتعرف في هذه الحلقة على مقومات النجاح المطلوبة في كوريا، وتقابل من يناضلون لتغيير النهج السائد، وتحاول أن تعرف لماذا يشبّهون كوريا الحديثة بجحيم على الأرض.

جحيم تشوسون.. إرث السعي الشاق نحو التفوق

حكمت سلالة “تشوسون” كوريا خمسة قرون حتى زوالها في 1910، ويقارن الشباب الكوري اليوم واقعهم بالمملكة المنهارة لفداحته، ولكن ما الذي يدعوهم لهذه المقارنة، وأين الجحيم في كوريا اليوم؟ فقد تحولت هذه الأمة الزراعية الصغيرة التي عاشت الاستبداد بأبشع صوره، إلى دولة ديمقراطية حديثة ومزدهرة.

لا تزال كوريا ترزح تحت ظلال الحكم العسكري والقبضة المستبدة منذ السبعينيات

ربما يتعين علينا أن نعود إلى مقاعد الدراسة لفهم ظهور مصطلح “الجحيم”، وسنلتقي طلابا حديثي التخرج من جامعة “يونسي” المرموقة، كان عليهم اجتياز اختبار “سونونغ” السيئ السمعة من أجل الحصول على مقاعد في هذه الجامعة، وهو يعادل اختبار “سات” الأمريكي، ويرتكز على المواد الأساسية في المرحلة الثانوية.

يمتد الامتحان على مدى ثماني ساعات في عدة جلسات، وهو امتحان جدي يصيب كوريا كلها بالشلل التام في نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام، ويمنع الطيران من أجل عدم تشتيت انتباه الطلاب، ويتحدد بناء على نتائجه اسم الجامعة التي سيلتحق بها الطالب، وقد يضطر الطلاب لإعادة هذا الإمتحان أكثر من مرة للحصول على النتيجة التي يودونها.

تعتبر كوريا إحدى أكثر بلدان العالم تفوقا في التعليم، ويلتحق 70% من طلابها بالجامعة، ويعتبر التخرج من جامعة “سكاي” أحد أهم مظاهر التميز للطلاب، إذ تقبل هذه الجامعة 2% فقط من الطلاب المتميزين.

تبدأ معاناة الخريجين عندما يتقدمون للوظائف، ونظرا لمحدودية الفرص فإن الحصول على عمل يعدّ تحديا جوهريا للخريجين، وهذا يصيبهم بكثير من التوتر والإحباط، بعد كل هذا الجهد الذي بذلوه. وقد يضطرون للانتظار سنوات قبل أن يحصلوا على فرصة، فهنالك 21% من العاطلين عن العمل تتراوح أعمارهم بين 25-29 عاما، وهذا أكبر معدل في العالم المتقدم.

بدائل الجامعة.. فرص للخروج عن القطيع الحكومي

لقد أضحى عبء النجاح ثقيلا، لدرجة أن ثلث الطلاب قد راودتهم أفكار الانتحار جراء هذا الضغط الذي يواجهونه، وأن ربع الخريجين تراوده نفس الأفكار السوداء لعدم تمكنه من الحصول على وظيفة، فقد تكون الحياة صعبة للطلاب غير المتفوقين، ولكن هنالك خيار آخر للذين لا يتأقلمون مع هذه المنظومة التعليمية الصارمة، إذ يوفر مركز “هاجا” فرصا بديلة بمدارسه التي تبلغ ألفا، وتنتشر في أنحاء البلاد، وفيها يستطيع الكثير من الطلاب الحصول على تعليم مهني يوافق رغباتهم.

يتحدث “لي تشونغ هان” رئيس التخطيط في مركز “هاجا” قائلا: يقاسي جيل الشباب الأمرّين من نظام التعليم الصارم والمتخلف، إنه تعليم محدود يعتمد على التلقين ولا يقوم على الإبداع. فكيف ستخلق جيلا منتجا مبدعا، إذا لم يفكر فيما يتعلم؟ عليك أن تترك للطالب مساحة للاختيار، حتى يبدع فيما يحب أن يتعلم.

مركز “هاجا” يعلم الطلاب المهارات الحرفية التي تنفعهم في حياتهم

لا تزال كوريا من نواحٍ عدة ترزح تحت ظلال الحكم العسكري والقبضة المستبدة في السبعينيات والثمانينيات، وكانت السلطات تحكم قبضتها على كل ما يراه ويسمعه ويفكر به الشعب الكوري، لذا كان التعليم أداة مركزية في تعزيز فروض الطاعة، وهو ما استمر إلى يومنا هذا.

ويتابع “هان” حديثه قائلا: يكفي أن تعلموا أن أصغر مرشح لمنصب عمدة سول كان من خريجي مركز “هاجا”، وهنالك آخر يعمل مخرج أفلام ومدافعا عن حقوق الإنسان لذوي الاحتياجات الخاصة، كما أن عراب موسيقى الهيب هوب الكورية هو من خريجي مركز “هاجا” أيضا، فالطلاب هنا يحصلون على ما يمكنهم من متابعة حياتهم العملية.

ويتسرب أكثر من 50 ألف طالب من المدارس كل عام، فلا غرابة إذن في زيادة شعبية مواقع أخرى مثل مركز “هاجا”، لكن هنالك معوقات تواجه فكرة التعليم البديل، فكثير من هذه المراكز غير معترف به من قبل الجهات الحكومية، كما أن الجامعات تتطلب درجات متقدمة لدى اجتياز امتحان سونونغ.

جيل “سامبو” و”آمبو”.. خروج من فردوس القناعة إلى جحيم التفوق

يشكو بعض أولياء الأمور من أن نظام التعليم السائد يهتم بالنخبة المتميزة من الطلاب، بينما لا يكترث بالغالبية العظمى، ويتركهم يواجهون مصيرهم بأنفسهم، ويتخوف الأهل من نتائج المجازفة بالذهاب إلى المراكز البديلة، ولكن على المدى القصير فقط، فصدمة مواجهة المجتمع بعد التخرج يشترك فيها خريجو الجامعات والمراكز البديلة، وبعدها يتأقلمون مع واقعهم ويبدؤون في الإنتاج.

تبلغ نسبة البطالة بين الشباب الكوري 21.6% ما يؤدي ببعضهم إلى الانتحار

قد تنتج مبادرات التعليم البديل ثمارها في المستقبل، ولكن إلى أن يأتي ذلك الوقت يظل الشباب محتجزين في دوامة التنافس مع المحيطين بهم، ويحصد قلة قليلة منهم الثمار، وبفعل هذا الضغط الشديد يخفق كثيرون في الوصول، حتى بتنا نرى هذا القطاع الواسع من الشباب المحبطين الذين ترافقهم خيبة أمل عميقة.

وقد ظهر مصطلح جيل “سامبو” أول مرة سنة 2011، ويشير إلى الجيل الذي يتنازل عن ثلاثة أشياء جراء الضغوط الإجتماعية المتزايدة، وهي تكوين العلاقات والزواج وإنجاب الأطفال، وذلك بسبب التبعات الاقتصادية، وإذا أضفنا شراء المنزل والتواصل البشري والأحلام والأمل والصحة والاهتمام بالمظهر، فيتحول المصطلح إلى جيل “آمبو”.

وخلافا لمصطلح “الحلم الأمريكي”، حيث يبني الإنسان نفسه ويصل إلى مستوى من المعيشة بقدر ما يبذل من جهد، فإن الإنسان الكوري محكوم بظروف ولادته ونشأته، فكيف إذن هي الحياة في كوريا لمن يجدون أنفسهم أسفل السلم الاجتماعي؟

شباب كوريا.. عزوف عن القفص الذهبي في مجتمع يقدس الزواج

التقت مقدمة الفيلم الصحفية “جو لي” أحد العمال اليدويين واسمه “لي تشنغ يو”، ويبلغ 40 عاما، وهو يدير قناة يوتيوب واقعية مشهورة، يتابعها أكثر من 125 مليون مشترك، يتحدث فيها عن يومياته الواقعية البسيطة من داخل منزله المتواضع، وهو واحد من 9 ملايين شخص يعيشون في منازل مخصصة للعزاب.

“لي تشنغ يو” البالغ من العمر 40 عاما يدير قناة يوتيوب يتابعها أكثر من 125,000 مشترك

يتحدث “لي تشنغ يو” عن منزله قائلا: منزلي متهالك مبني منذ 32 عاما، وقيمته حوالي 26 ألف دولار، يتفاعل الناس مع مقاطعي على اليوتيوب، يرونها حقيقية وصادقة، بعضهم يراني تعيسا وكثير منهم يتعاطفون معي، وتسود في كوريا ثقافة المقارنة، فالناس يتطلعون إلى ما في أيدي الآخرين، ويشعرون بالنقص إذا لم يحصلوا على المِثل.

ثم يتحدث عن أوضاعه المادية قائلا: أعاني من عدم وجود وظيفة مستقرة، وقد بلغت منتصف العمر ولم أحصل على وظيفة، لأن المعايير السائدة تصعّب أن أنافس الجامعيين على وظيفة، وسبق أن حاولت الزواج أيضا ولم أفلح، لأن النساء هنا يتطلّبن معايير قاسية لزوج المستقبل، وأنا لم أحقق هذه الشروط، فلن أجد الفتاة التي تقبلني بظروفي هذه.

لقد انخفضت معدلات الزواج لأدنى مستوى لها على الإطلاق، على الرغم من وجود 1600 مكتب للزواج في كوريا، فالوساطة في الزواج نشاط تجاري مربح يدرّ مبلغ 88 مليون دولار.

يوجد في كوريا أكثر من 1600 مكتب للزواج ومع ذلك تنخفض معدلات الزواج لأدنى مستوى لها

والديانة الغالبة في كوريا هي الكنفوشية، ولذا فالزواج أمر مهم هنا، ويشترط التجانس بين العائلتين بشكل كبير، ولكن الجيل الحالي يعزف كثير منه عن الزواج، وتزيد نسبة النساء العازفات عن الزواج على نسبة الرجال، فبينما نجد 40% من الرجال راضين عن حياتهم بعد الزواج، فإن هذه النسبة تنخفض إلى 10-20% فقط لدى النساء.

ومن هنا ظهر مصطلح “بيهون” للتعبير عن الفتيات العازفات عن الزواج، وهو مصطلح يحمل دلالات سلبية في مجتمع يقدس الزواج، ويمكن أن يكون نمط التعليم المعاصر عاملا مهما في زيادة نسبة البيهون، فهل يئس الشباب من الوضع الراهن؟ أم أنهم فقط آثروا الانسحاب من مشهد ينكث فيه النظام بوعوده؟

“نتميز بالقناعة والرضا”.. ثورة سلمية على المنظومة الفاسدة

التقت الصحفية “جو لي” بفرقة “لانش”، وهم شباب في الثلاثينيات من العمر، متفائلون وينظرون بإيجابية ونوع من السخرية للأمور، ويرون في جحيم تشوسون نوعا من التحدي، وهو التنازل عن أشياء في مقابل الحصول على أشياء أفضل، ويؤمنون بأن الإنسان لا يستطيع الحصول على كل ما يريد، ومن الأفضل له أن يكون قانعا بما اكتسب.

فرقة “لانش” هي مجموعة شباب في الثلاثينات من العمر، متفاؤلون ويتحدون الـ”تشوسون”

وقد أحدثت شبكة الإنترنت تغييرا هاما في مفهوم الطبقية في كوريا، فبينما كان يُنظر بازدراء للفقراء وغير المتعلمين، أصبحت الفجوة تضيق أكثر بفضل الإنترنت. يقول قائد الفرقة: سنتظاهر ونرفع أصواتنا ضد الظلم. نعم إن كوريا بلد متقدم من حيث التعليم، ولكن يجب أيضا أن نعلم أبناءنا أن كل الوظائف ووسائل كسب العيش النظيفة هي أيضا أشياء جيدة، يجب أن نحارب ثقافة التفوق وجحيم تشوسون من أجل الحصول على وظائف معينة، فالمهم هو أن يجني الشباب من الوظيفة -أيا كانت- ما يكفيهم، دون أن نشعرهم بأي تمييز أو تحيز.

ويتابع قائد الفرقة قائلا: لسنا كسالى أو متقاعسين، نحن نبذل جهدنا أيضا من أجل كسب ما يكفينا، ولكننا نتميز بالقناعة والرضا، ونحب أن نكون سعداء، لا نريد أن نفرط بسعادتنا من أجل أن نعيش وفق معاييرهم.

اختراق المنظومة السياسية.. محاولات التغيير في قلب الجحيم

يشعر 68% من الكوريين بالتشاؤم حول طريقة عمل النظام السياسي في إدارة البلاد، وخصوصا بعد موجة من الاتهامات للنظام بوجود فساد مالي وإداري، وفضائح أخلاقية، وتتألف الجمعية الوطنية (مجلس النواب) من 81% من الرجال الخمسينيين، وتتطلع الفتيات الشابات إلى تمثيلٍ أكثر حضورا في هذه الجمعية “الذكورية”.

ومنذ تحولها إلى الديمقراطية في 1987، هيمن حزبان سياسيان على الجمعية الوطنية في كوريا الجنوبية، هما حزب “سلطة الشعب” والحزب الديمقراطي الكوري، وهو أمر أفقد كثيرا من الشباب الأملَ في التغيير، لعدم توقعهم أن يتغير هذا المشهد، ولذلك فهم بعيدون كل البعد عن أي نشاط سياسي.

“شين جي هاي” صاحبة حزب “الدخل الأساسي المعمّم” واحدة من النساء في برلمان أغلبيته من الرجال

وبالرغم من هذا المشهد القاتم، يحرص بعض الشباب على طرح بدائل ثورية في عالم السياسة والمجتمع، وهم يطمعون أن يحدثوا تغييرا ولو على المدى البعيد، ويعيدوا رسم المشهد السياسي بما يلبي طموح الشباب، ويجعلهم ينخرطون أكثر في عملية التغيير.

من هؤلاء “شين جي هاي” التي أسست حزبا أسمته “الدخل الأساسي المعمّم”، ويستند إلى فكرة توفير دخل أساسي -مهما قلت قيمته- لجميع فئات المجتمع الكوري، وتعتمد موارد هذه الفكرة على الضرائب العقارية التي ترى أنها يجب أن تكون أكثر إنصافا وأعلى نسبة وأوسع تطبيقا.

الفكرة العامة هي أن فئات عريضة من الشباب لم تستسلم لجحيم تشوسون، وهم يبتدعون أفكارا جديدة كل يوم، من أجل خلق أجواء من التفاؤل والإيجابية لدى الشباب، وجعْلِهم يبتعدون بقدر الإمكان عن الاحتراق في نار هذا الجحيم.


إعلان