“شاب إيطالي”.. روح أفريقية معلقة بالوطن وجسد معذب في المهجر

يُعاين المُخرج الإيطالي “ماتيو فولبي” قضية الهجرة واللجوء في فيلمه الوثائقي “شاب إيطالي”(An Italian Youth)، لكن مقاربته الفنية للحبكة الوثائقية تختلف كثيرا عن المعالجات التي شهدناها في أفلام أخرى. فلم تكن أي مدينة إيطالية هي “أرض اللبن والعسل”، كما لم تكن الدراسة أو المرأة الشقراء أو الحرية التي يسعى إليها غالبية البشر هي الأهداف الأولى التي تشغل بال “سوكورو”، وهو البطل والشخصية الرئيسية في هذا الفيلم المتمحور حول الهجرة والتكيّف والاندماج، وقصة الحُب التي تُستدعى من الوطن الأم بوركينا فاسو، أو “أرض الناس النزيهين”.

تدور أحداث الفيلم بين العاصمة البوركينابية وغادوغو وضواحيها، مثل قرية واغا، وتمتد إلى غاردوني في شمال إيطاليا، وهي بلدة صغيرة محاطة بالجبال المغطاة كليا بالأشجار، وهي مثل بقية البلدات والمدن الصغيرة المكتظة بالمصانع الصغيرة والمتوسطة الحجم التي يستغل أصحابُها اللاجئينَ والمهاجرينَ الأجانب، إذ يعملون ساعات طوالا بأجور منخفضة جدا لا تكاد تكفي لسد احتياجاتهم اليومية، ولا يستطيعون أن يدّخروا منها إلا النزر القليل.

نصيرة.. زواج تقليدي حسب الأعراف الاجتماعية

يعود “سوكورو” إلى بلده عدة مرات، ويمكث في كل مرة شهرا أو شهرين بين أهله وذويه وأصدقائه، وحينما يحتفل بعيد ميلاده الخامس والعشرين في بوركينا فاسو يقرر أن يتزوج نصيرة، وهي فتاة شابة من قرية واغا، لكي يديم الاتصال بأرض أسلافه، ويتعلّم تقاليدهم الاجتماعية التي درجوا عليها في تلك المضارب المحتفية بالثقافة الإسلامية، وكما هو معروف فإن نسبة المسلمين في بوركينا فاسو تتجاوز 60%.

كان زواج “سوكورو” من نصيرة زواجا تقليديا تجري وقائعه وفقا للأعراف والتقاليد الاجتماعية المتعارف عليها في تلك المضارب، وقد وعد زوجته بدعوتها إلى إيطاليا فور الحصول على عقد عمل ثابت يتيح له القيام بإجراءات لمّ الشمل بطريقة قانونية لا غُبار عليها.

وفي هذه الزيارة على وجه التحديد، نتعرّف على أصدقائه وعائلة زوجته الذين حضروا مراسيم الزفاف، واستعرض أمامهم قدرته المادية التي تؤمِّن لابنتهم عيشا رغيدا، لكن الادعاء شيء، وواقع الحال المرير شيء آخر، فما ينفقه عليها من آلاف الفرنكات الأفريقية لا يعادل سوى بضعة دولارات أمريكية.

ومع أن الحياة رخيصة جدا في بوركينا فاسو، فإنها تحتاج إلى دخل متواصل يؤمِّن تكاليف الحياة اليومية، بما في ذلك إيجار البيت الذي تسكنه نصيرة، ووجبات الطعام التي تتناولها، والملابس التي تقتنيها، ومستلزمات الزينة التي تحتاجها كلما خرجت من المنزل لقضاء حاجة أو زيارة صديقة لتزجية الوقت الذي يمرّ ثقيلا، بسبب إحساسها بالوحدة والانعزال.

منزل العائلة.. لمحات للتعرف على شخصيات الفيلم

حين تنتهي العطلة التي استمرت شهرا واحدا، لكنها مرّت سريعة كالبرق الخُلّب، يعود “سوكورو” إلى رتابة العيش في الشقة الصغيرة مع أسرته المؤلفة من الأب والأم وأخيه الأصغر نصير ذي الأعوام التسعة، وشقيقته “فاليرا” التي بلغت عامها العشرين.

لم تُتح مدة الفيلم البالغة 81 دقيقة أن نتعرف من كثب على مجمل أفراد العائلة، ولعل المخرج -الذي اشترك في كتابة السيناريو مع “بيير إدوارد جاسمن”- اكتفى بالإشارات الخاطفة للسِير الذاتية لشخوص الفيلم، على اعتبار أن التلميح يُغني عن التصريح، فالأب يعمل في المناوبة الليلية، ويعود بعد التاسعة مساء، وهو لا يتدخل كثيرا في شؤون الأبناء، كما سنكتشف لاحقا أنه متزوج من امرأة ثانية تقيم في قرية واغا، وقد ترك العبء الأكبر في تربية الأولاد وتوجيههم على زوجته الأولى وأم أطفاله التي لا تترك شاردة وواردة إلاّ وتتعرف عليها، وحين تعجز عن إيجاد حل لمشكلة عويصة تلجأ لزوجها، أو لابنها البِكر الذي يسكن في شقة مستقلة مع زوجته.

سوكورو يتواصل مع زوجته هاتفيا في أوقات فراغه القليلة

أما الزوجة الأولى فهي تشكو من عدة أمراض، من بينها ارتفاع ضغط الدم، ومشكلة في تسارع دقّات القلب، وتريد أن تضع الأمور في نصابها الصحيح، قبل أن تودّع هذه الدنيا الفانية. وأما نصير فهو يواصل دراسته يوميا، يلعب كرة القدم، ويذهب إلى الجامع ليقرأ القرآن، ويعود إلى المنزل لإكمال واجباته البيتية، قبل أن يتفرغ للعبة “بلاي ستيشن”.

وعلى الرغم من أهمية هذه الإضاءات لشخصيات الفيلم الثانوية، فإن شخصية “سوكورو” هي الأكثر إثارة، لأنها تشكّل المَسار التصاعدي في بلدة غاردوني، بينما يقابله ويوازيه مَسار نصيرة في وغادوغو أول الأمر، ثم ينتهي بها المطاف في قرية واغا التي ستكون مُنعَزلا نموذجيا للوحدة والتأمل والضياع.

استغلال المصانع وضعف المكاسب.. بداية التدهور

يكتسب “سوكورو” في مُغتربه الإيطالي معارف جديدة، فرغم أنه يعيش ويعمل في بلدة نائية، فإنه ينغمر بالحياة الحديثة، ويتطور من دون أن يشعر بذلك، فهو يعمل في المصنع ساعات طويلة قد تتراوح بين 12-15 ساعة يوميا، وربما يضيف لهم رب العمل ساعة أخرى بأجور زهيدة، مما يكشف عن جشع أصحاب المصانع الذين لا يفكّرون إلا بزيادة الأرباح، على حساب المهاجرين الفقراء الذي لا يحصلون بالنتيجة إلا على سقط المتاع، والكثير من الألم والصداع من أجل رخصة العمل، والإقامة الشرعية، والأمل الواهي باستقدام زوجته التي تنتظره على أحرّ من الجمر.

تتدهور أوضاع “سوكورو” النفسية، ويشعر باليأس والإحباط، حتى أنه لم يعد يتصل بزوجته، ولا يردّ على مكالماتها الهاتفية، وبدأ يخرج من المنزل كثيرا، من دون أن يُخبر أمه ولا يعود إلا في ساعة متأخرة من الليل.

ورغم أن بعض أصدقائه كانوا يخفِّفون وطأة المشاكل التي يعاني منها، فإنه كان يشعر بالفشل على أكثر من صعيد، وإذا ما جمع بعضا من النقود، فإن والده يطلب منه أن يسدد فاتورة الكهرباء التي تعادل أكثر من نصف راتبه الشهري، مما يدفعه للتقصير تجاه زوجته التي تطلب منه إرسال النقود بشكل متواصل، كما تدعوه لزيارتها إذا سنحت له الفرصة أو سمح له ربّ العمل.

يلبي “سوكورو” رغبة زوجته ويعود إلى بلده بعد أن فقد عمله، وينغمس في قضايا متعددة، أولها الحصول على الوثائق الرسمية له ولزوجته بغية الزواج بطريقة مدنية هذه المرة، على أن تكون المراسيم في صالة البلدية، وبشهود يقفون أمام القاضي ليعلنهما زوجا وزوجة.

القرية المنفتحة على الطبيعة بعيدا عن صخب المدينة

تكلفه هذه الإجراءات 115,500 فرنك أفريقي، وهو مبلغ كان يمكن أن يسدّد به احتياجات زوجته التي ستضطر لقبول فكرة زوجها بالذهاب إلى قرية واغا، والعيش بالقرب من زوجة أبيه الثانية.

حياة بدائية في قرية نائية.. تضاؤل الحلم

في قرية واغا نتعرف على هذه المرأة التي قبلت بالزواج من رجل يقيم بشكل دائم تقريبا في بلدة غاردوني منذ خمس عشرة سنة، لكنه يسافر إلى زوجته الثانية في أوقات متباعدة. ويبدو أن “سوكورو” قد استنسخ تجربة والده، إذ يتركها في تلك القرية النائية لتزرع الأرض وتربي الماشية، وتعيش على غلّة الحقل، وتتطبع على التقاليد الريفية التي تنطوي على تناقضات كثيرة.

ينقلب حلم نصيرة من السفر إلى إيطاليا والعيش في واحدة من مدنها أو بلداتها المتطورة، إلى الانتقال من العاصمة وغادوغو نفسها إلى قرية واغا النائية التي تعيش فيها حياة بدائية بسيطة تضطرها لحمل الماء على رأسها بإناء كبير إلى المنزل.

ففي العاصمة كانت تتنقل هي وزوجها بين المقاهي والمطاعم والمراقص مُستعرضَين ثراءهما البسيط في الأمكنة التي لا يدخلها عامة الناس من ذوي الدخول المحدودة، لكنها الآن تراجعت إلى أبعد الحدود، وبات الجلوس في المقهى أو الدخول إلى مطعم حُلما يصعب تحقيقه.

مختار القرية.. دعوة التكيف والانغماس في المجتمع الريفي

يخفف مختار القرية بعضا من إحباطات نصيرة حين يطلب لقاءها، ويشرح لها ظروف حياتها الجديدة، ويدعوها للانفتاح على فتيات القرية ونسائها ومشاركتهنّ الهموم والهواجس اليومية، ونصحها بالانغماس في العمل سواء في البيت أو المزرعة، لأنه السبيل الوحيد لنسيان المشاكل الخاصة.

نساء قرويات يعملن طوال الوقت في المزارع والبيوت لتأمين هاجس الطعام

فبدلا من أن تتكيّف مع المجتمع الإيطالي وتندمج في منظومة قيمه الجديدة، نراها تتكيّف مع منظومة القيم القروية البسيطة التي تجد تعدد الزوجات أمرا طبيعيا لا يُثير حفيظة النساء، خصوصا أن أمامها الزوجة الثانية لوالد “سوكورو” التي لم تتذمر قط، وتعتبر زياراته المتباعدة أمرا طبيعيا، طالما أنه يرسل لها بعض النقود بين آونة وأخرى.

نصيرة وسوركو.. سجينة في البيت وتائه في الحانات

تحوّل “سوكورو” إلى متشرّد، خاصة بعد أن طرده صاحب المصنع، وبات يبحث عن مهن أخرى مثل جني الثمار، وهي مهنة شاقة، لكنها تؤمِّن له بعض النقود، كما تتيح له اللقاء بأقرانه البوركنابيين أو المهاجرين الأفارقة الذين يجدون عزاءهم في هذه اللقاءات اليومية التي يستطيعون من خلالها أن يبثوا شكاواهم لبعضهم، وينفّسوا عن معاناتهم وإحساسهم بالعبث وعدم جدوى فكرة الهجرة والتكيّف في المجتمع الجديد.

وكأنّ لسان حال المخرج يقول إن الهجرة ليست مجدية دائما، خاصة لدى الإنسان الذي لم يستأصل جذوره تماما، كما حصل لـ”سوكورو” الذي اشترى أرضا لكي يشيّد عليها منزل الأحلام، وحرّض زوجته على أن تترك العاصمة وتعود إلى القرية بوصفها النبع للبراءة، ومن أجل سهولة العيش، والتماهي مع الطبيعة التي لا تمزقها الطرق الإسفلتية، ولا تحجبها البنايات الشاهقة، ولا يؤرق أهلها ضجيج الشوارع المكتظة الصاخبة.

سوكورو ونصيرة يستمتعان بالجلوس في مقاهي العاصمة واغودوغا

تنطوي قصة الفيلم على لحظات رومانسية، لكنها لا تُسمن ولا تغني من جوع، فلقد تحولت نصيرة إلى سجينة في غرفتها، ورهينة في بيتها القروي الذي يفتقر إلى مجمل المعطيات الحضارية، بينما يتيه “سوكورو” في شوارع غاردوني وحاناتها مع أقرانه الشباب الذين يعملون في مهن ينفر منها الإيطاليون، طالما أنّ المهاجرين يتقبلون أداءها بصدر رحب، بعد أن ضاقت بهم سُبل العيش، وتعسّر تحصيل الرزق الحلال.

“ماتيو فولبي”.. جوائز وإنجازات مخرج الأفلام القصيرة

من الجدير بالذكر أن “ماتيو فولبي” من مواليد روما 1990، لأم بلجيكية وأب إيطالي من مدينة باري في جنوب البلاد.

انتقل “فولبي” إلى بلجيكا لدراسة صناعة الأفلام سنة 2009، وأنجز عددا من الأفلام القصيرة، من بينها “أراضينا” و”سرّ الثعبان” و”طفل الطلاق”، كما وضع اللمسات الأخيرة على فيلمه الروائي الطويل الأول “الذهب الأحمر” الذي فاز بجائزة المخرج الناشئ، وفيلم “شاب إيطالي” هو فيلمه الوثائقي الطويل الأول الذي اشترك في مهرجان “إدفا” للأفلام الوثائقية في أمستردام.