“دار من الشظايا”.. فلذات أكباد ضائعة بين مقتل الآباء وسُكر الأمهات

من قبل أن تبدأ الحرب في أوكرانيا، كانت هناك في شرقي البلاد دار لإيواء الأطفال الذين تخلى عنهم آباؤهم، أو بالأحرى الذين أهملتهم أمهاتهم، فهاموا على وجوههم، أو قامت مؤسسات الرعاية الخيرية بانتشالهم من وهدة الإهمال والضياع.

المخرج الدنماركي “سيمون ليرنغ ويلمونت” خاض تجربة فريدة ربما تكون غير مسبوقة في اقتحام عالم هؤلاء الأطفال، لكي يقدم صورة مضنية مثيرة للشجن، تثير الحزن، لكنها من جهة أخرى تدعو إلى اليقظة، وإلى القيام بعمل حقيقي من أجل إنقاذ أمثال هؤلاء الأطفال، وقد صوّر فيلمه في بلدة تبعد عن حدود أوكرانيا الشرقية 20 كيلومترا فقط، قبل غزو القوات الروسية لأوكرانيا.

مركز الإيواء.. تسعة أشهر من الحنان المؤقت

يحمل الفيلم الوثائقي عنوان “دار من شظايا” (A House Made of Splinters)، وقد أنتج عام 2022، والمقصود بالشظايا هنا هم الأطفال أنفسهم الذين تشظّت حياتهم وتفتتت وهم ما يزالون في عمر الزهور، فأصبحوا غير قادرين على المضي قدما في حياتهم، والحصول على التعليم الجيد المناسب، بعد أن افتقدوا حب وحنان الأمهات الذي لا يعادله شيء في حياة أي طفل.

الدار أو المنزل المقصود في الفيلم هو مبنى كبير يضم عددا من القاعات والغرف والمكاتب، وهو مخصص لإيواء الأطفال المشردين، أو الذين تخلت عنهم أسرهم، وتقديم الرعاية الاجتماعية والنفسية لهم خلال فترة وجودهم داخل هذا المركز أو “الدار”.

لكن هذا الوجود مؤقت، فليس مسموحا لهم بالبقاء أكثر من تسعة أشهر، يحاول المسؤولون والأخصائيون الاجتماعيون العاملون بالمركز خلال تلك الفترة الاتصال بذويهم، فربما تحمس أحدهم لأخذهم الطفل ورعايته، أما إن لم يحدث، فينقل الطفل إلى دار من تلك الدور المخصصة للتبني، أي تتيح الفرصة أمام الأطفال لأن تتبناهم أسر أخرى.

آباء قتلى وأمهات سكارى.. آثار وحش الحرب

سيدور سؤال مباشر هو لماذا التركيز على غياب دور الأمهات وماذا عن الآباء؟

الإجابة الواضحة على هذا السؤال ترتبط ببساطة بالصراع المسلح الذي كان يدور في تلك المنطقة عبر سنوات، فقد راح ضحيته عدد كبير من الرجال، ومن الواضح أن هؤلاء الأطفال الذين نراهم في الفيلم فقدوا آباءهم ولم يعد لهم سوى أمهاتهم.

محاولة لسماع صوت الأم على الطرف الآخر

لكن الأمهات أغرقن أنفسهم في الخمر، ربما رغبة في نسيان مأساة الفقدان المبكر، وبالتالي أصبح الطفل يجد نفسه وحيدا، لا أحد يهتم به، وعندما يهيم على وجهه، تتدخل الدولة وتودعه في بيت من هذه البيوت المخصصة لرعاية “اليتامى”، رغم أنهم ليسوا يتامى تماما، فهناك من انتهوا إلى هذا الحال بسبب التأثيرات النفسية الخطيرة التي وقعت على الأب -إن كان يعيش- والأم، بسبب النزاع المسلح في إقليم دونباس، مع هدم البيوت وانقطاع الخدمات.

قصص العنف.. سُكر وعدوان يمزق عُشر بيوت البلدة

لا يُروى الفيلم من خلال التعليق الصوتي الموضوعي، بل من خلال ما ترويه لنا ثلاث مشرفات يعملن في هذه الدار، والحديث لا يأتي دائما بشكل مباشر من خارج الصورة، بل كثيرا ما يصلنا من خلال الحوار بين المشرفة الاجتماعية والأطفال.

وفي المشهد الأول يستعرض الفيلم نمط الحياة البديلة التي تحاول المشرفات على الدار توفيرها للأطفال في هذا المكان، بما في ذلك الألعاب ووسائل التسلية المختلفة، يقول لنا صوت المشرفة النفسية: إن واحدا من بين كل عشرة بيوت في هذه البلدة توجد في داخله أسرة محطمة.

في هذه الدار تتوفر كل وسائل التسلية، ويحتفل المشرفون معهم أيضا بأعياد الميلاد وغيرها من المناسبات. هناك أقلام ملونة وكراسات وأوراق للرسم والتعبير، وقاعة خاصة لممارسة الألعاب الرياضية والرقص والفرجة على التلفزيون، لكن هناك خلف هذه البهجة السطحية حزن عميق.

إيفا ذات النظرات الحائرة

إننا نرى على سبيل المثال أطفالا متأثرين كثيرا بما شاهدوا آباءهم يفعلونه: هناك أولاد يتبارون في قص الأقاصيص المرعبة المخيفة، منها على سبيل المثال ما يرويه أحد الأولاد عن أبيه الذي طعن أمه بسكين في صدرها عندما كان سكران، وكثيرا ما يسكر، ثم خرج من السجن بعفو صحي.

يستمع الأولاد إلى مثل هذه القصة ويضحكون أو يشيحون بوجوههم في عدم مبالاة، وهناك فتيات يتضاحكن ويتحدثن عن أمهاتهن مدمنات الخمر، وطفلة تسأل زميلتها هل جربت شرب الخمر مرة أو أكثر؟ وبقدر ما نرى فتاة حزينة منكسرة هادئة تشي ملامح وجهها بالقلق وبعض الاكتئاب، نرى أيضا فتاة أخرى تميل للسلوك العدواني والمشاغبة.

أبناء المدمنات.. انتظار الأمل الذي قد لا يصل أبدا

يتركز بناء الفيلم على ثلاثة من الأطفال تتباين حالاتهم: أولاهم “إيفا”، وهي فتاة تبلغ نحو 10 أعوام، ومن الواضح أنها جاءت أكثر من مرة إلى هذه الدار، مشكلتها أن أمها أدمنت الخمر، وهي تحاول باستمرار -كما نرى- الاتصال هاتفيا بها، لكنها لا تتلقى ردا، فالواضح أن الأم قد تخلت عنها، وهي تأمل أن تستجيب جدتها وتأتي لتأخذها للإقامة معها، وهو ما سيحدث في النهاية الوحيدة السعيدة في الفيلم.

أما الطفلة الثانية فهي “ساشا”، وهي فتاة جميلة هادئة يئست من احتمال أن تأتي أمها لتعيدها إلى منزلها، وتقيم صداقة مع طفلة أخرى لا تقل عنها اكتئابا وشعورا بالمرارة رغم لحظات اللهو الطفولية الطبيعية، ثم لا تجد في النهاية إلا أن تستسلم وتقبل بالذهاب للعيش في كنف سيدة وحيدة أبدت سعادتها بتبنيها لتصبح ابنة لها.

كوليا يحلق له طفل أكبر شعره

لدينا ثالثا حالة الطفل “كوليا” الذي يبدو كأي مراهق صغير متمرد يرفض الالتزام بالسلوك القويم، يستمع جيدا إلى ما تقوله له المشرفة الاجتماعية، لكنه يضرب به عرض الحائط، فهو لا يشعر بالتحقق إلا وسط مجموعة من الأولاد الذين يكبرونه في العمر، فيتسلل معهم إلى الخارج في البرد من أجل التدخين، أو للملاكمة والشجار، يرسم على ذراعيه الوشم، كما يسرق، ثم يحلق شعره بطريقة غريبة.

“كوليا” رغم سلوكه الفظ، فإنه يعاني في صمت، يتشبث برعاية أخيه وأخته، وكلاهما أصغر منه، وهما يقيمان معه في هذه الدار، وعندما تأتي أمه ذات مرة لزيارتهم، يصر على أن يشم رائحة فمها ليتأكد من أنها ليست مخمورة، والأم تؤكد لأطفالها أنها تحبهم، وأنها لا بد أن تأتي لاستعادتهم، لكننا سنعرف أنها تقيم مع رجل، تشاركه تناول الخمر كل ليلة حتى الثمالة، لذا فهي لا تأتي أبدا.

ونحن نعرف مما تقوله المشرفة الاجتماعية أن الحياة هناك ستختلف تماما عن ما هي في هذا المركز المؤقت للرعاية، فهناك سيصبح الواقع اليومي قاسيا خاليا من اللهو والمرح.

أطفال بلا طفولة.. قطعة من حياة أطفال على الهامش

يقوم المنهج الذي يتبعه المخرج في تصوير الفيلم على المتابعة اللصيقة، أو المعايشة اليومية التي جعلت وجود الكاميرا أمام الأطفال غير محسوس، لذلك استطاع المخرج الحصول على كل ما أراد، من مشاهد للأطفال وهم يتصرفون بعفوية وتلقائية، يمارسون حياتهم كالمعتاد، يتشاجرون، ويثرثرون ويضحكون، ويبكون أيضا كما في حالة “كوليا” الذي لا يملك نفسه وينهار باكيا أمام المشرفة الاجتماعية بعد أن يعلم أن مصيره قد أصبح محددا بعد انتهاء فترة التسعة أشهر، وأنه يجب أن يتخلى عن أخويه ويذهب إلى دار التبني.

يبدو الفيلم كأنه قطعة من الحياة، لا أثر فيه لما يعرف بـ”إعادة تمثيل الواقع” أمام الكاميرا، وهو ما يشي بأن فريق الفيلم أصبح جزءا من الحياة اليومية داخل هذا المنزل العتيق الذي يبدو من الخارج مثل سجن كبير، والسرد بشكل عام أقرب ما يكون إلى يوميات مصورة لمجموعة من الأطفال فقدوا حس الطفولة، وأصبحوا يتكلمون مثل الكبار.

فيلم “منزل من الشظايا” عمل مؤثر قد لا يتحمل كثيرون مشاهدته، بسبب صوره الصادمة المحزنة المؤثرة لأطفال حقيقيين من لحم ودم، يعيشون على هامش الحياة، لا يعرفون ماذا يخبئ لهم القدر، والفكرة لا تنتهي مع نهاية الفيلم وافتراق الشخصيات الثلاث الذين نشاهدهم في الفيلم، فهناك عشرات غيرهم رُحّلوا من هذه الدار إلى حيث ينتظرون من يأتي لتبنيهم، ومع كل طفل يغادر الدار، يأتي طفل جديد، والدائرة لا تنقطع.

سنعرف في نهاية الفيلم أن جميع الأطفال الموجودين فيه نقلوا بعد دخول القوات الروسية إلى المنطقة.