“اليد الخضراء”.. معارك الاحتلال والفلسطينيين في حقول الزعتر والعكّوب

في فيلم هو بين الوثائقي والروائي، تُبلّغ جمانة منّاع الفنانة الفلسطينية عن نزاع محتدم بين السلطات الإسرائيلية المسؤولة عن الحدائق والمحميات الطبيعية وبين الفلسطينيين، لا سيما كبار السن منهم.

لقد اعتاد هؤلاء منذ أجيال على قطف النباتات البريّة الضرورية في عاداتهم الغذائية، لكن اليوم، بل منذ عدة عقود، باتت تضاف قيود إلى أخرى يفرضها احتلال يعوق حريتهم في ممارسة ما فعلوه أبا عن جد في أراضيهم.

في فيلمها الوثائقي السابع “اليد الخضراء” (2022) تعود المخرجة والمنتجة جمانة مناع المستقرة في برلين إلى أرض الأجداد والآباء، لتحكي عن قضية قد توجد في كل مكان، لكنها في فلسطين تتخذ معاني أخرى.

جمع النباتات.. جريمة الفلسطيني في قضاء الاحتلال

لقد أصدر الإسرائيليون تشريعات تحظر قطف بعض النباتات، بهدف حماية أنواع في الطبيعة معرضة للانقراض في عدة مناطق من فلسطين، وحظروا بشكل خاص جمع الزعتر البري والعكّوب الجبلي (يُدعى السلبين أيضا، وهو نبات ينمو في مناطق بلاد الشام الجبلية)، وكل من ينتهك القوانين يتعرض لدفع غرامات مالية أو المثول أمام القضاء.

يبرز الفيلم مقاومة الفلسطينيين، هؤلاء الناس المقموعون في عاداتهم وثقافتهم، من خلال معايشة يومياتهم، ومعاينة ردود أفعال بعض قاطفي الأعشاب البرية من عدم اكتراث بقرار المنع.

قطف الزعتر والعكوب.. ذنب رجال الطبيعة في عالم عبثي

يُستهل “اليد الخضراء” بلقطة واسعة عُلوية تبدي طبيعة جبلية خضراء أخاذة، ثمة كائن يبدو ضئيلا في هذا الفضاء الشاسع، يتنقل تارة مغادرا مكانه، ويختفي تارة أخرى تحت أشجار قصيرة. تقترب الكاميرا شيئا فشيئا من هدفها ليتبين أنه رجل (زيدان) يقطف بسكين حادة أعشابا برية، وفي لقطة أخرى رجلان يترصدان في سيارة حدثا متوقعا.

العكوب.. نبتة جبلية يحبها أهل بلاد الشام ويعدونها وجبة شهية

تترافق اللقطات مع أنغام موسيقى إلكترونية تساهم في خلق توتر ضروري للمشهد العام، فقد وظّفت الموسيقى كذلك على نحو يوحي بعالم خيالي، بشيء عبثي وحدث هزلي، وكأن المشهد يدور في فضاء آخر، وكأن أمرا غير جدّي قيد الحصول، أو تمثيلية نهايتها متوقعة والجميع يعرف دوره فيها.

كل هذه التنبؤات والأحاسيس سيؤكدها ما يلي، إذ يحدث المُتوَقع ويقع المذنب في أيدي الحراس، ويُقبض عليه بالجرم المشهود، وستوجّه له اتهامات خطيرة بالتسلل لمنطقة محظورة، وقطف عشبة برية وربما عشبتين، هما الزعتر والعكّوب.

لعبة الفريسة العنيدة والصياد.. أسلوب ساخر

المطاردات المستمرة بين الفريسة (وهو هنا قاطف العشبة) والصياد المتمثل في حُماة المحميّات الطبيعية في إسرائيل؛ تُشكّل محور الفيلم، وهي مطاردات تحمل رغم تشابه أسلوب تنفيذها مفاجأة طريفة مع كل قاطف جديد، فالفيلم اختار أسلوب الدعابة الخفيفة والساخرة لتوصيل فكرة وتبيان حالة. هذا يجعل المشاهد ينسى تساؤلات أولية، كيف ستملأ قضية “العشبة” فيلما يدوم ساعة من الزمن؟

إضافة إلى أسلوب فكاهي اعتمدته، تمكنت المخرجة عبر شخصيات جذابة خفيفة الروح مثل زيدان وسمير وغيرهم (ومنهم والدا المخرجة)، من دفعٍ للاهتمام بهذه القضية، فلكل دوافعه في عملية القطاف، هذا للمتاجرة وذاك للاستهلاك الشخصي.

الزعتر.. عنوان الثقافة الفلسطينية إلى جانب العكوب والزيتون ونباتات أخرى

وقد تابعت شخصياتها في حياتهم اليومية، وما يشكلّه لهم موسم العكوب من أهمية، فبغض النظر عن كونه مكوّنا من مكونات عاداتهم الغذائية، فهو وسيلة تواصل بين المعارف والأقرباء، إذ ينشغلون معا بتحضيره، أو يجتمعون حول وجبة منه، أو يسعون معا للحصول عليه لدى من يقوم بمهمة قطافه المعقدة والخطرة. وفي حبّه لا يشاركهم الإسرائيليون.

“طول عمرنا نحوّش في هذا الحقل من زمن أبي وجدي”

إن كان اليهود (كما يُدْعَون في الفيلم من قبل الفلسطينيين) غير مهتمين تماما بالعكّوب، فإنهم يعتبرون الزعتر فخرا لهم، وهنا تكمن المشكلة، فهو يمثل فخر الفلسطيني أيضا، أو بالأحرى أولا، إذ يعتبره أجمل هدية يحملها إلى الأهل والأحباب خارج الأرضي المحتلة، كما يتبين من تقرير قديم من أرشيف التلفزيون الإسرائيلي استعان به الفيلم.

موسم قطف العكّوب الجبلي الذي حظرت إسرائيل قطفه على الفلسطينيين

هكذا عرّض القطف المستمر هذه النبتة الشهية للانقراض، مما دفع لإصدار قانون عام 1977 لحماية الأنواع البرية ومنها الزعتر، وأضيف إليه العكّوب عام 2005، وبات الفلسطينيون المهتمون أكثر بهذه النبتة متهمين في عاداتهم، إذ يرون أن هذه النبتة موجودة منذ زمن الآباء والأجداد، ولم تكن قط مهددة، فلماذا الآن؟

كما يرون أن قطف الزعتر مثلا مباح لليهود، لكن ليس لهم، وبالتالي فلا خضوع، كما يقول سمير في الفيلم “طول عمرنا نحوّش في هذا الحقل من زمن أبي وجدي، ولن أتوقف اليوم بسبب القوانين”.

“هذه الأرض ليست لكم، ولا العشبة أيضا”

تبدو مقاومة الفلسطينيين لقرار المنع على نحو طريف في الفيلم، كأن ينفّس زيدان الدواليب الأربعة لسيارة حرس المحميّة الطبيعية في انتقام سلمي إن جاز التعبير، وتنفيس عن غضب متراكم.

عائلة فلسطينية تشتري العكّوب الجبلي على الطريق

هنا، للتعريف بأساليب القاطفين وما يدور في أذهانهم، تتخلى المخرجة عن التوثيق الواقعي، وتنتقل إلى توثيق روائي، تتخيل حوارات كتبتْها تدور بين متهمَين بخرق قانون المنع، وهم قيد الاستجواب من قبل المحكمة، ليشكّل هذا أحد أجمل مقاطع الفيلم وأمتعها وأكثرها سخرية من الواقع، إذ يعبّر خلاله فلسطينيون عن كل ما يجول بخاطرهم دون حرج.

من الحوارات تتجلى هذه العلاقة بين من يقول إنه صاحب الأرض وبين المحتل، كأن يقول أحدهم “هذه الأرض ليست لكم، ولا العشبة أيضا”، وهذا الإحساس بالتفرقة والعنصرية التي يمارسها المحتل، كأن يردّ المتلبس بالجرم على سؤال “ألا تعرف أن قطف الزعتر ممنوع”؟ قائلا إن القطف ممنوع للعربي وليس لليهودي، والتصميم على المقاومة كما يفعل “صاحب سوابق في القطاف في أعوام عدة ماضية حين يواجه بسوابقه، وستمسكون بي أيضا مع أولادي وأحفادي في 2050”.

محاكمات الأطفال.. مزج ساخر بين الروائي والوثائقي

يلجأ آخرون إلى التهرب من أحكام الغرامة أو السجن التي يشعرون بغبنها، عبر نفي نية المتاجرة بالعكّوب، على الرغم من تلبسهم مع كميات كبيرة. يعيد أحدهم ذلك إلى تناول هذه العشبة يوميا مع أطفاله الثمانية.

تنظيف نبتة العكوب من الشوك لتحضيرها للطبخ

تبدو المحاكمات وكأنها تدور بين أطفال ارتكبوا ممنوعا ينكرونه وهم قيد المحاسبة، ولا سبيل أمامهم إلا الإنكار تخلصا من العقوبة، بينما تستنكر امرأة ترك الحراس لها “تشقى طوال النهار وهي تقطف، قبل أن يقرروا إلقاء القبض عليها وإعلانهم أن قطف العكوب ممنوع”، لتنتقل من دور المتهَمة إلى المتهِمة، فالإسرائيليون يفعلون هذا بغرض بيع عكوبهم الذي بدأوا بزراعته.

يتابع الفيلم هذا المزج بين الروائي والوثائقي، فينتقل نحو المزرعة الإسرائيلية التي تزرع العكوب من البذور. لقد قررت الحكومة زرعه بهدف الحفاظ على العكوب البري، ولتلبية الطلب المحلي العربي على وجه الخصوص، مما يحقق لها استفادة اقتصادية أيضا، لكن هذا لن يمنع الفلسطينيين من متابعة قطف النبتة البرية، نافين الاتهامات الاسرائيلية بأن طريقتهم في خلع العشبة من جذورها هي السبب في انقراضها، فهم مسلحون بسكاكين لقصّها كما يجب.

صناعة الصورة.. فيلم سياسي يبرز النواحي الجمالية

أظهرت المخرجة من خلال تكوين متقن ودقيق للغاية في سير الفيلم والمحادثات وتنظيم الدفاعات في قاعة المحكمة؛ ارتباطا وثيقا بموضوعها، وجسدت ذلك بنجاح وتعاطف، من خلال مشاهد روائية ووثائقية معرّفة بهذه التقاليد.

ومع وجود خلفية سياسية بارزة للفيلم في كل أحداثه، فقد عبرت عن حال يعيشه الفلسطينيون، لكن كل هذا لم يمنع من اعتنائها الواضح باللغة البصرية، والاهتمام بإبراز نواح جمالية في الفيلم في أسلوب الإخراج، واختيار زوايا التصوير ومواقعه.

موسم فرط الزعتر البري الأخضر في فلسطين

هكذا تبين جمال المناطق التي صورت فيها، وهي عدة مواقع في فلسطين لاحقت فيها شخصياتها، بين القدس وجبالها، وقرى في الجليل الأعلى والجليل الأسفل، وبحيرة طبريا وهضبة الجولان. وكان المشهد الأخير في الفيلم ذا دلالة خاصة مع حوار يدور على خلفية أطلال منازل فلسطينية من عام 1948.

ومن الجدير بالذكر أن جمانة مناع فنانة فلسطينية (مواليد الولايات المتحدة 1987) تعمل بالدرجة الأولى في مجال السينما والنحت، وتستكشف أعماله علاقات القوة وتجسيداتها. وقد فازت أفلامها الوثائقية في عدة مهرجانات دولية، وحصل فيلمها “اليد الخضراء” على تنويه خاص في أيام فلسطين السينمائية عام 2022.


إعلان