الرجولة الكورية.. أجيال ناعمة يلاحقها التجنيد وكابوس النسوية
تعد كوريا الجنوبية من أكثر البلدان إنفاقا على منتجات العناية بالبشرة للرجال، ويخضع 75% من الرجال الكوريين لجلسة تجميلية مرة أسبوعيا على الأقل، فالسعي وراء الوجه الأمثل يتصدر المشهد، ولا يقتصر هذا على الشباب بل حتى المسنين، من حقن الأنف إلى “بوتوكس” الوجنتين، مرورا بوشم الحاجبين، فـ”الحاجبان العريضان يجنيان الثروة”، كما يقول المثل الكوري.
ولكن لماذا كل هذا السعي لتحقيق الكمال الخارجي؟ وإلى أين يشير اتجاه الذكورية الكورية الحديثة؟ ستجيبنا عن هذه التساؤلات الصحفية الأمريكية ذات الأصول الكورية “جو وي لي”، ضمن حلقة من سلسلة “الهوس الكوري” التي تعرضها الجزيرة الوثائقية، وتحمل هذه الحلقة عنوان “الرجولة”.
الكونمنام.. رجولة ناعمة ترسمها مساحيق التجميل
تقول “جو وي لي”: في بداياتي كنت أشاهد في الأعمال الدرامية الشكلَ التقليدي للرجولة، القوة والمسؤولية، أما اليوم ومع شيوع ظاهرة الـ”كيه بوب” (K-POP) والمسلسلات الكورية، فقد أصبحت معايير الرجولة مختلفة، وطغى على السطح مصطلح “الفتية الزهور” أو “الكونمينام” الذين يمثلون شكلا أنعم، يبرز فيه جمال المظهر بالأزياء ومواد التجميل.
فمعظم نجوم الغناء والتمثيل اليوم هم من الكونمينام، وقد تضاعفت بتقليدهم قيمة مستحضرات التجميل إلى مليار دولار سنويا خلال العقد الماضي، إذ يستخدم الرجال ما معدله 13 مستحضرا شهريا، بحسب وزارة الغذاء والدواء الكورية.
يقول “كيم”، وهو صانع محتوى: جميع المستحضرات هنا للرجال فقط، وهي تتميز بالبساطة، أما النسائية فتمتاز بطيف ألوان أوسع، ويحب الكوريون الوجوه الخالية من الشعر، إذ يعتبرونه رمزا لعدم النظافة، ويستخدمون المساحيق التي تجعل الوجه أنعم، فالجمال والوسامة مكمّلة عندنا لمعاني الرجولة.
فتيان الجيش.. زينة باهظة الثمن ترعاها وزارة الدفاع
يقول صانع المحتوى “كيم”: في الماضي كان استخدام مساحيق التجميل منافيا لكمال الرجولة التي كانت تعني القوة والقسوة، أما اليوم فقد تغيرت نظرة الناس إلى الرجولة، وأصبحت معيارها الجمال والوسامة.
ويزعمون أن مظهر الكونمنام قد استوحي من “البيشونين”، وتعني الشبان الوسيمين في الرسوم المتحركة اليابانية، ويقولون أيضا إن نشأته ترجع إلى القرن السادس، عندما كان الرجال الوسيمون يُختارون في فرقة النخبة المحاربة “الهوارانغ”، أو “الفرسان الورديين”، فقد كانوا يستخدمون مساحيق التجميل، ولكن في المعركة كانوا هم القوة الضاربة التي تحمي البلاد.
والفتية الزهور هم مثل باقي الشباب الكوريين الذين تتراوح أعمارهم بين 18-28 عاما، مطالبون بأداء الخدمة العسكرية في وحدات الجيش الكوري لمدة 20 شهرا، تماما مثلما كان الهوارانغ في الماضي، ومع ذلك فما زال أكثر من 70% من المجندين يستخدمون مستحضرات التجميل، وبدعم من وزارة الدفاع التي تصرف إعانات لتغطية تكاليف قصات الشعر والتجميل.
التجنيد الإجباري.. حنين إلى بوابة الرجولة التقليدية
الخدمة العسكرية هي بوابة نحو التحول للرجولة الحقيقية، فهي تغير اجتماعي يمر به 90% من الرجال الكوريين، ويستمر هذا التغير حتى بعد انتهاء الخدمة، وتشكل قنوات اليوتيوب ذات المحتوى العسكري موضوعا شائقا، يأسر عشاق الذكريات الذين يحنون لزمن تأدية الخدمة العسكرية، وكذلك للذين سيجنَّدون قريبا.
الرقيب السابق “هيوجاسون” صانع محتوى على اليوتيوب، ويتابع قناته أكثر من 150 ألف مشترك، وهو يشاركهم خبراته السابقة ونصائحه للملتحقين الجدد، ويقول: المسرَّحون من الجيش لهم أفضلية في الحصول على وظيفة جديدة، ولهم قبول في المجتمع أكثر من أولئك الذي لم يؤدوا الخدمة.
في السابق كانت الخدمة إلزامية للرجال، دون وجود النساء في صفوف الجيش، أما اليوم فما زالت الخدمة إلزامية للرجال واختيارية للنساء، مما يجعل بعض الشباب يشعرون بالتمييز ضدهم، خصوصا في هذه الفترة التي يتساوى فيها الرجال والنساء في كل شيء. يقول “هيوجاسون”: نعم، تتنازعنا مشاعر الحب والكراهية في موضوع الخدمة العسكرية، ولكننا بالتأكيد نشعر بالحنين الصادق إلى تلك الأيام التي قضيناها في الجيش.
عقوبات رفض الخدمة.. بلاد تعيش حالة الحرب منذ ستين عاما
أصبحت الخدمة العسكرية قاعدة يرتبط من خلالها معظم الرجال في كوريا، ولكن ماذا عن المعارضين للخدمة، أو الذين يرفضون الالتحاق بالجيش؟
“إنهم مثار سخرية” كما يقول أحدهم. لقد فاق سجناء رافضي الخدمة العسكرية في كوريا نظراءهم في بلاد أخرى، فقد بلغوا 19 ألف سجين خلال 60 عاما. ونظرا لتهديدات كوريا الشمالية بشن حرب فقد طبق التجنيد الإلزامي منذ 1957، وهناك أكثر من ربع مليون رجل يلتحقون بالجيش كل عام، ويسجن من يرفض الخدمة مدة تصل ثلاث سنواتٍ.
يقول “شي وو”، وهو رافض للخدمة العسكرية: العلاقة بين العسكرية والرجولة متشابكة ومطردة، والحديث عن رفض الخدمة من المحرمات التي لا يجري الحديث عنها، بل معظم الناس هنا لا يتخيلون وجود أشخاص يرفضون الخدمة، وإن وُجِدوا فهم عرضة للسخرية والكراهية، ويجدون صعوبة في الحصول على وظيفة.
ففي 2018 أقرت المحكمة العليا الكورية حق رفض الخدمة العسكرية لدوافع دينية أو وجدانية دون عقاب، واقترحت توفير خدمة مدنية بديلة عن الخدمة العسكرية.
يقول “شي وو”: ننظر إلى النساء من منظورين؛ منهن من تستحق الحماية والرعاية والمحبة، وهنالك من يبدين الجحود للرجال في الجيش، الذين يضحون باستقلاليتهم وعملهم لأكثر من عام ونصف. أما النساء فينظرن لرافضي الخدمة أنهم نفعيّون ومقصرون في خدمة وطنهم.
“الرجال يُعاملون كالحثالة والفشلة”
المساواة بين الجنسين هي قضية جدلية، فقد طرح سؤال في 2018 من قبل منظمة العناية بالمرأة على الرجال بعمر العشرينات، عن رأيهم في تجنيد الجنسين، فكان هناك 72% يشعرون أن حصر التجنيد في الرجال يعد شكلا من أشكال التمييز، وطالب 65% منهم بتجنيد النساء.
تقول “كوون يونغ”، وهي باحثة في معهد المرأة: إنها قضية شائكة للغاية، يعتبرها الرجال ظلما بحقهم، فكوريا تفصل بحزم بين أدوار الجنسين في المجتمع، ليس في الخدمة العسكرية فحسب، وإنما في جميع مناحي الحياة، وقد لعب الشعور بالتمييز دورا كبيرا في مناهضة الحركة النسوية، لدرجة وصلت حد العنف أحيانا.
قام بعض صانعي المحتوى من مناهضي النسوية بتنظيم مظاهرات احتجاجية ضد رموز النسوية، فقد ارتدى “وانجا” زي النساء من أجل لفت الأنظار، واحتج ساخطا على أستاذة جامعية وصفت الرجال بالحشرات، وهو يقول: الرجال يُعاملون كالحثالة والفشلة، وتنعتني وسائل الإعلام أنا شخصيا بالإرهابي.
مناهضة النسوية.. بقايا عقلية ذكورية في أجساد ناعمة
تتجه الرجولة في كوريا نحو النعومة والجمال، ولكنها ما زالت عنيفة وسلطوية حين يتعلق الأمر بالجنس الآخر، ولم يكن للنسوية في كوريا صدى حتى وقت قريب، ولكنها أصبحت ذات تأثير أوسع بعد أن قُتِلت فتاة بقسوة بالقرب من محطة قطارات في سول عام 2016، وازداد شأن الحركة بعد محاكمات طالت كثيرا من السياسيين والمشاهير الذين مارسوا أشكال عنف ضد المرأة.
وقد أظهرت نتائج استبانة أعدها الكاتب والصحفي “تشون يول” أن 60% من الرجال يناهضون الحركة النسوية. يقول “تشون يول”: يظن الشباب الكوريون اليوم أنهم مقموعون ومهانون، ليس من قبل النساء فحسب وإنما من قبل السلطات، وقد بدأ هذا الشعور يراودني مع اتساع استخدام الإنترنت في 2010، ونيل المرأة حقوقا أكثر، الأمر الذي لم يكن الشباب معتادين عليه.
ويتحدث عن نظرة المجتمع إلى المرأة قائلا: ينظر إلى النساء على أنهن أكثر ذكاء وانفتاحا على المجتمع، ويحظين بقبول ووظائف أكثر وأسرع من الرجال الذين بدورهم لا يجدون إلا الجيش، قبل أن تتاح لهم فرصة التوظيف.
معاداة الذكور.. فاشية تشتت طريق النسوية التائهة
يقول “آن كون” مدير القناة التي يعمل فيها “وانجا”: الحركة النسوية مهمة، ولكنها في كوريا اتخذت منحى آخر، إنها أشبه بالمرض العقلي، إنها فاشية، وليست مكرسة لحقوق الإنسان أو حقوق المرأة، بل لمعاداة الذكور لكونهم ذكورا فقط، حتى أصبح الرجال مثار سخرية واستهزاء، فهم يضيعون سنتين من عمرهم في الجيش في الوقت الذي تلتقط فيه النساء معظم الوظائف.
يتشارك عدد من الرجال الكوريين الألمَ والإحباطَ نفسه، فهنالك كثير من التصدعات في بنية المجتمع الكوري، لكن على الجانب الآخر فبالرغم من حصول المرأة على المساواة في مجالات كثيرة، فإن كوريا تعتبر في أدنى المراتب العالمية من حيث العدالة في الأجور بين الرجل والمرأة.
تقول “أزانج مان”، وهي ممثلة مسرح تؤدي أدوار الرجال: أختار شخصيات من الرجال كانوا قد سببوا لي أذى في الماضي، أحاول أن أتغلب على عقدة الخوف منهم، وقد بدأت نظرتي عن مفهوم الرجولة تتلاشى تماما بعدما رأيت الظلم الذي يحيق بالمرأة، فلم يعودوا أولئك الرجال الذين يحمون المرأة ويدافعون عنها، بل أصبحوا مجرد خيال، وبقي الذين يتقمصون دور ضحايا التمييز.
قاعات المدرسة.. ميدان لبناء ثقافة المساواة العادلة
بعد ظهور حركة “مي تو” أو “أنا أيضا” (Me Too) في صفوف النساء المناصرات للنسوية، ظهر هنالك حراك جديد بين الرجال الذين يدعمون المساواة العادلة، تحت اسم “النسوية بدعم منه”، وهم يعتبرون أن التعليم قد يكون العنصر الحاسم في جسر الهوة بين المتطرفين من الجنسين، فقد تكون المدرسة هي المكان الملائم لترويج هذه الأفكار، بعيدا عن الشارع حادّ الانقسام.
وتشهد الرجولة الكورية ذروتها بفضل رواج أناقة الأزياء التي يدعو إليها المشاهير والنجوم، وبفضل نزعة ثقافة الـ”كيه بوب”، وظاهريا تصعب مقارنة وجه الرجل الكوري المعاصر بوجوه الرجال الكوريين قبل بضعة عقود، لكن عقلية ماهية الرجولة ما تزال متشبثة بالماضي.
ثقافة عريقة، تمضي بتفاؤل نحو المستقبل، لكنه مستقبل يتساءل فيه الشبان عن كلفة التقدم على حساب امتيازاتهم التقليدية. فثمة صدام بين القديم والحديث، خاصة في هذا المجتمع الذكوري الأبوي الذي يخشى فقدان سلطته، مما يوجب طرح أسئلة ضرورية لفهم حجم المسألة وطرح حلول لها.