“ملوك العالم”.. رحلة الأطفال المشردين لاستعادة منزلهم المنتزع أيام الحرب

وقع الكولومبيون على مدار عشريات من الزمن ضحايا للنزاعات المسلحة الأهلية، قتل فيها الآلاف منهم وشردوا وهجروا وروعوا، خاصة أن الحكومة لم تستطع حسم المعارك والسيطرة على هؤلاء، ويعود هذا لعدة أسباب، أهمها شساعة كولمبيا وكثرة الأحراش فيها، عدا عن الأرياف المتباعدة والغابات الكثيفة، وهو ما سهّل عملية تهجير فئة واسعة منهم ونزع أراضيهم وبيوتهم عنوة، وهي النقطة التي ركّز عليها فيلم “ملوك العالم” المبني على وقائع حقيقية.

قانون 1448.. عودة الأراضي المنتزعة في الحرب الأهلية

في أحدث أفلامها “ملوك العالم” (Los Reyes del Mundo) الذي أنتج عام 2022، تعود المخرجة “لورا مورا أورتيغا” (42 سنة) إلى فترة حساسة مليئة بالجراح والمآسي والدموع من تاريخ بلدها كولومبيا الذي مر بعدد من الصراعات والحروب الأهلية والنزاعات المسلحة عبر تاريخه الطويل، وقد ركّزت المخرجة في مقاربتها السينمائية على زاوية محددة من هذه المآسي الكثيرة، من خلال تركيزها على عملية التهجير القسري، ونزع الأراضي والبيوت من أصحابها.

وقد أصدرت الحكومة الكولومبية بعد سنوات من هذا الظلم قانونا خاصا حمل رقم (1448) لمعالجة هذه المعضلة بشكل نهائي سنة 2011، وينظم في مواده عملية استرجاع الأراضي المنهوبة منهم في سياق النزاع المسلح، وسيطرة المسلحين على جزء واسع من كولومبيا، فقد أجبروا وقتها على التنازل عنها أو بيعها بالتراضي، أو ضياع وثائق حيازتها بعد طردهم.

وقد جاء هذا القانون ليتجاوز القوانين الكلاسيكية المعمول بها، وفي الوقت نفسه يقدم قراءة موضوعية لسياقات تلك الوقائع، انطلاقا من هذا الفيلم الذي عكسها بعيون براءة الأطفال، في مدة زمنية طويلة جسدها العمل في سياق درامي بلغ (111 دقيقة).

ساهمت المخرجة “أورتيغا” أيضا في كتابة السيناريو رفقة “ماريا كاميلا أرياس”، وقد شارك الفيلم وتوّج في عدد من مهرجانات السينما العالمية، من بينها مهرجان سان سبستيان الدولي، ومهرجان شيكاغو الدولي، ومهرجان باناما، كما شارك في الاختيار الرسمي خارج المسابقة في الدورة الـ44 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي (13-22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022).

رحلة الريف.. عقبات وأخطار تواجه ملوك العالم

استطاعت المخرجة “لورا مورا” أن تقدم معالجة سينمائية لقضية كبرى عن طريق العبثية، انطلاقا من عنوان الفيلم “ملوك العالم” الذي يوحي بالرفاهية والقصور والبذخ والسلطة، لكن بمجرد الغوص في تفاصيله يتبين بأن ملوك العالم هم خمسة أطفال مشردين، ليس لهم سقف يأويهم ولا سند يساعدهم، وإنما يؤازر بعضهم بعضا.

لكن سرعان ما سكنهم الأمل والحلم بعد أن بدأ الطفل “را” (الممثل كارلوس أندريس كاستانيدا) في إجراءات جمع الوثائق للاستفادة من قانون استرجاع الأراضي، خاصة أنه هجرت عائلته وطردوا من البيت، بينما قتلت أمه، لهذا أصبح مشردا، كما يعد هو الوريث الوحيد لجدته، لهذا عقد النية بأن يسافر من مدينة ميدلين وشوارعها إلى أعماق الريف الكولومبي لمنطقة بعيدة جدا.

قرر “را” أن يصحب معه أصدقاءه المشردين أيضا من أجل أن يخوضوا معه هذه المغامرة، ليبدؤوا معه في تأسيس حياة جديدة على الأرض التي سيحصل عليها، أي أن يكونوا جزءا مهما وأساسيا من حلمه، وهم “كولبيرو” (الممثل كريستيان ديفيد دوكي)، و”سيري” (الممثل دافيسون فلوريز)، و”ويني” (الممثل كريستيان كامبانيا)، و”نانو” (الممثل برايان أسيفيدو)، لينطلقوا جماعة صوب حلمهم المؤجل، لكنهم لا يملكون المال الكافي لاستعمال وسائل النقل العادية، لهذا يبدؤون مغامراتهم في السفر متطفلين فوق الشاحنات أو حتى على أقدامهم.

أطفال جمعتهم الشوارع والطرقات والحلم ببيت يأويهم

ومن خلال هذا يمرون بأحداث كثيرة خلال أيام السفر، إضافة إلى المشاكل التي تعرضوا لها كونهم صغارا ومشاغبين، حتى أن لديهم نزعة إجرامية بحكم الشوارع التي كبروا وتربوا فيها، فالحلم بالبيت والاستقرار هو الأمر الوحيد الذي كان يجمعهم، لكن قبل أن يصلوا لوجهتهم حدث لهم الكثير من الأشياء، مثل فقد أحدهم ومحاولة صديق آخر سرقة الوثائق والهرب، إضافة إلى تعذيبهم من طرف أحد المزارعين حين تعدوا على ملكيته، ورغم كل هذا فقد استطاعوا بعد أن صاروا ثلاثة أن يصلوا إلى غايتهم، لكنهم صدموا بما حدث لهم، فقد عرفوا بأن الواقع شيء، والحلم شيء آخر تماما.

قانون هش يصطدم بصخرة البيروقراطية.. خيبة الأمل

ذهبت المخرجة “أورتيغا” صوب السلبيات التي تضمنها قانون (1448)، إضافة إلى صخرة البيروقراطية التي تعطل النظم والقوانين، وهذا ما حدث مع الأطفال، فحين تقدم الوريث الشرعي “را” لإدارة تنفيذ الأحكام لاسترجاع أرض جدته، تفاجأ بقول الموظفة إن عليه أن يستأنف الحكم وينتظر ربما لسنوات، لأن هناك صراعا حول تلك الأرض.

من هنا أصابتهم خيبة أمل كبرى، لكنهم قرروا الذهاب إلى البيت مهما كان الأمر، وعندما وصلوا وجدوا البيت عبارة عن جدار، لكنهم لم يقنطوا كثيرا، وعندما أطلوا من خلف الهضبة وجدوا منجما غير شرعي للتنقيب عن الذهب، وحينها حاصرتهم مجموعة من الشباب والمراهقين المسلحين وطردتهم، لكنهم رفضوا، لنسمع بعدها ثلاث طلقات للرصاص، دون تصوير المشهد.

وكأن المخرجة أرادت شحن المتلقي، وفي الوقت نفسه تنبيه الحكومة الكولومبية إلى ضبابية هذه القوانين، وعندما أجرينا بحثا بسيط خارج زمن وأحداث الفيلم، وجدنا بأن أغلبية المتضررين لم يستفيدوا من قوانين استرجاع الأراضي، وذلك لعلمهم المسبق بالإجراءات البيروقراطية والفساد السياسي المستشري في دواليب الإدارة وعدم جديتها، لهذا ازدادت عملية انتقاد هذا القانون، لعدم توفير الوسائل الضرورية لنجاحه.

سحر كولومبيا.. رمزية الأرض في الوجدان الإنساني

ينتمي فيلم “ملوك العالم” لما يطلق عليه “سينما الطريق”، لأن الطريق هي الخيط الأساسي الذي يربط جميع أحداث الفيلم ضمن سياق درامي معين، ويخلق عملية بناء سهلة تُزرع من خلالها المعطيات والمواضيع والأفكار التي يُراد توصيلها.

وسط غابات وأحراش أرياف كولومبيا خلال عملية البحث عن البيت المفقود

ولقد تجلت هذه المظاهر عن طريق مغامرات هؤلاء الأطفال الذين تبين بأنهم يحتاجون إلى الحنان وإلى صدر يحتويهم، إذ يجمعهم عدد من المتناقضات، ويمكن احتواؤهم بسهولة وفقا لسياق نظامي معين، حتى أنه من السهل امتصاص الغضب والحزن والقلق والخوف الذي يسكن كل فرد فيهم، فقط ينبغي فهمهم ومعرفة الجذوة التي توقد نيران أحقادهم، وقتها يمكن إطفاؤها بسهولة تامة، وقد استطاعت المخرجة أن تستنجد بهذا القالب السينمائي لإبراز المعطيات المذكورة.

كما وظّفت المخرجة في سياق الفيلم عددا من المشاهد والمناظر الطبيعية الساحرة التي تحتوي عليها كولومبيا، وهذا عن طريق عدسة المصور “ديفيد غاييغو” الذي استطاع أن يعكس موضوع الفيلم كصورة، خاصة أن الفكرة الخفية تتعلق بشكل أساسي بالأرض، وما تعنيه هذه القيمة للإنسان، وبسببها يتحدد النماء والعيش والحياة والخضرة والراحة البصرية.

وقد عكست الصورة تنوعا واضحا، ليس في الطبيعة فقط التي تعكسها الجبال الشاهقة والغابات الممتدة والمياه الجارية وغيرها، بل في طبيعة الإنسان المتقلبة والحالمة واليائسة.

“لورا مورا”…مخرجة مهمومة بقضايا بلدها السياسية

يمثل فيلم “ملوك العالم” صرخة مدوية في وجه الظلم والجور والتعدي على حقوق الإنسان الضرورية، وقد استكملت من خلاله المخرجة “لورا مورا أورتيغا” مشروعها السينمائي الذي بدأته من خلال فيلمها الطويل الأول “قتل عيسى” (Matar a Jesús) الذي أخرجته سنة 2017.

وقد عرضت من خلاله صفحة أخرى من صفحات الفساد السياسي، من خلال توظيفها لشخصية “باولا” التي شهدت مقتل والدها أستاذ العلوم السياسية، حيث تُلقي -من مسافة قريبة- نظرة سريعة على وجه القاتل.

تواجه “باولا” وعائلتها جهل وانعدام كفاءة الوكالات الحكومية التي لم تظهر أي اهتمام بالتحقيق في القضية، فيدركون سريعا أنهم ليسوا إلا رقما في قائمة طويلة للضحايا في كولومبيا، وقد حصد الفيلم وقتها جائزة الهرم الذهبي من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.

نذكر بأن “لورا مورا” مخرجة وكاتبة سيناريو، درست صناعة الأفلام في المعهد الملكي للتكنولوجيا في ملبورن بأستراليا، وقد شهدت بدايتها السينمائية الأولى في تلك المدينة التي درست فيها من خلال إخراج الأفلام القصيرة، كما عملت مساعدة للمخرج الكولومبي الشهير “كارلوس مورينو” في أكثر من خمسة وثلاثين حلقة من المسلسل التلفزيوني الشهير “إسكوبار.. سيد الشر” (Pablo Escobar: El Patrón del Mal) عام 2012، وهو عن حياة رجل المخدرات الشهير سيئ السمعة “بابلو إسكوبار”.