“أطفال لاس بريساس”.. عشر سنوات من مطاردة الحلم الموسيقي في فنزويلا

من قلب أكثر أحياء فنزويلا عنفا تدور حكاية الفيلم الوثائقي “أطفال لاس بريساس” (Children of Las Brisas) للمخرجة “ماريانيلا مالدونادو”، ويتبع مسارات ثلاثة أطفال من حي لاس بريساس لعقد كامل في طريقهم لتحقيق حلمهم، ليكونوا موسيقيين كلاسيكيين محترفين، وهو أمر بدا غريبا وغير مألوف على المحيط العنيف الذي أتت منه شخصيات الفيلم.

على مدار عدة سنوات ترافق المخرجة الشخصيات وهم يسعون وراء حلمهم الذي تعصف به ظروفهم الشخصية الصعبة، وكذلك الظرف العام للبلد الجنوب أمريكي الذي يعيشون فيه، فبعد سنة من التصوير توفي الرئيس السابق “هوغو تشافيز” في عام 2013، ففتح موته الباب للمتاعب للوصول إلى البلد، وهي المتاعب التي ما زال البلد غاصًّا بها حتى اليوم.

في مونتاج سريع يمر الفيلم على الشخصيات الثلاث “إديكسون” و”ديساندرا” و”فيلي”، وليس يجمعهم الحي الفقير الذي يعيشون فيه فقط، بل أيضا حبهم للموسيقى الكلاسيكية التي يأملون أن يصبحوا من المحترفين بعزفها، وربما يمنحهم ذلك فرصة للعمل في إحدى الفرق الموسيقية، والهروب من حفرة العنف والفقر التي ولدوا فيها.

أبطال الفيلم.. شخصيات يجمعها العنف والموسيقى

يصف “فيلي” علاقته العميقة بالموسيقى قائلا: “الموسيقى تأخذني إلى عالم مذهل، حيث يمكن أن تعبر عبرها عن حزنك وفرحك”. كما يمر الفيلم على الشخصيتين الأخريين وهما يعزفان على آلة الكمان في بيوتهما الفقيرة للغاية، وهذا يقدم في مشاهد تمتزج بها شاعرية الموسيقى وسريالية الواقع المعاش.

لا تكتفي المشاهد الافتتاحية بتبيان شغف الشخصيات بالموسيقى الكلاسيكية، بل إنها تمر سريعا على حياتهم التي طبعها الفقر والعنف والحرمان. يروي “إديكسون” كيف قُتل والده أمام عتبة بيتهم، وبينما كان الابن يمر سريعا على ذكرياته القليلة مع والده، كانت الكاميرا تتجول على جدران بيته، لتتوقف على صورة معلقة للوالد، فنرى أنه يشبه الابن كثيرا.

عانت “ديساندرا” من افتراق والديها، بيد أن مأساتها الأكبر هي فقدان أختين لها بسبب المرض، وهو الأمر الذي جعلها خائفة كثيرا من المستقبل، وتعيش هاجس فقدان أختها الصغيرة الوحيدة.

أما “فيلي” وهو أفقر الشخصيات الثلاث، فيعاني من الحرمان ومن سلطة عائلته المتدينة التي تضع العراقيل أمامه. وعلى الرغم من مشاكله، فإنه سعيد بأن الموسيقى غيرت حياته، وبأنها تأخذه هو الآخر بعيدا عن عالمه وعائلته وقيودها الكبيرة.

فيلي في منزله الفقير في أحد أحياء فنزويلا

ترافق الكاميرا الشخصيات وهي تستعد لمسابقة نظمتها مؤسسة حكومية مهتمة بالموسيقى، وترصد قلقهم وتلهفهم قبل دقائق من المسابقة، كما ترصد المسابقة مناخ الخوف والتزلف للسلطات في البلد، إذ يشكر عريف الحفل بأسلوب يذكر بالشرق الأوسط الحكومة الفنزويلية لرعايتها لهذه المسابقة.

تجتاز الشخصيات الثلاث المسابقة، وهذا يعبد لهم الطرق لمستقبل احترافي، رغم أن الطريق ما زال طويلا ومكلفا، لا تستطيع عوائلهم تتحمله، بل يحتاجون رعاية الدولة التي كان يعرف عنها اهتمامها بالموسيقى الكلاسيكية.

موت “تشافيز”.. تردي الوضع السياسي وغلاء الأسعار

تتدخل أحداث التاريخ في مصائر شخصيات الفيلم، فموت الرئيس “تشافيز” شكّل هزة كبيرة للغاية لحياتهم المضطربة أصلا.

تروي الشخصيات في الفيلم علاقتها العاطفية بالرئيس الراحل، فهم جميعا لم يعرفوا رئيسا غيره في حياتهم، كما يدفع موته الناس إلى نقاشات عامة يسجل الفيلم بعضها، إذ تدافع أُمّ واحدة من شخصيات الفيلم عن زمن الرئيس الراحل ومنجزاته، وأنه حفظ وحدة البلاد وسلمها مستقلة إلى القادم من بعده. نرى الأُمّ نفسها وهي تشكو بعد أشهر فقط من غلاء الأسعار، فقد كان انعكاسا للوضع السياسي المتردي العام الذي أعقب وفاة الرئيس “تشافيز”.

يفخر “إديكسون” بأن له أمّين، الأولى هي التي ولدته، والأخرى هي التي شاركت الأم الأصلية في تربيته، وللأُمّ الثانية قصة مأساوية، فقد قتل ابنها في واحد من حوادث عنف الحي الذي يعيشون فيه، أما أُمّه التي أنجبته فهي خرساء وصماء، لكنها تملك قلبا كبيرا، فقررت مشاركة تربية ابنها مع صديقتها وجارتها، وهما تديران معا مخبزا صغيرا للغاية من بيتهما الفقير، وتتأثران أيضا بالوضع الاقتصادي السيئ من حولهما وغلاء الأسعار وندرة البضائع.

يسجل الفيلم جولة لـ”إديكسون” مع أُمّ له في السوق الذي يشتريان منه بضائعهما بالعادة، وقد وجدا أن الغلاء وصل إلى البضائع الأساسية الخاصة بعمل المخبز.

إديكسون” مع أُمّه التي تخيّط له بدلة الجيش التي سيلبسها

كما يسجل الفيلم بهذا الخصوص جولة أكثر سوداوية لـ”ديساندرا” وهي تدور فزعة بين الصيدليات تبحث عن أدوية حمى لأختها الصغيرة، حيث نراها تبكي في الشارع عندما تتذكر أختها المريضة في البيت، وترتعب من فكرة موتها، كما حدث في الماضي مع أختيها اللتين توفيتا قبل سنوات.

مسابقة الموسيقى.. تلاشي الحلم وشتات المصائر

يتغلب الشأن السياسي والحياتي العام في منتصف الفيلم على طموحات الشخصيات الثلاث، فقد بدت أحلام هذه الشخصيات تتلاشى في دخان الأحداث السياسية الكثيف، قبل أن تتحول إلى أحداث عنيفة تستأثر على اهتمام إعلامي عالمي.

ومما يعظم أزمات الشخصيات الثلاث خسارتهم في مسابقة كبيرة للموسيقى الكلاسيكية، فقد كانت جائزتها وظيفة في واحدة من الفرق الموسيقية الكبيرة، ويزيد هذا من ضيق أفق الشباب، لينضموا إلى الملايين من أبناء جلدتهم الذين يسيرون بثبات نحو هاوية اقتصادية.

تقرر “ديساندرا” السفر إلى بيرو، وبعد أن عملت عازفة في مطاعم راقية ببلدها لفترة قصيرة، تأمل الفتاة الصغيرة أن تجد حظا أفضل في بيرو، فقد هاجر إليها موسيقيون فنزويليون من قبل وحصلوا على فرص عمل هناك.

في واحد من المشاهد المؤثرة كثيرا في الفيلم، يصور الفيلم عبر كاميرا ثابتة “ديساندرا” وهي تجر حقيبتها الثقيلة في شارع فارغ تقريبا، متجهة نحو بلد جديد ومستقبل مجهول.

يقرر “فيلي” الهجرة أيضا، لكنه يختار العاصمة الفنزويلية، حيث يحاول أن يعمل عازف بيانو، لكن يعوزه إيجاد وظيفة ثابتة، فيجد نفسه مرغما على التوجه للشارع، والانضمام لموسيقيي الشارع في العاصمة، وهم يعزفون في الشوارع ويعيشون على هبات المارة العابرين.

ديساندرا تتدرب على عزف الكمان

أما “إديكسون” فبعد أن ضاق الوضع الاقتصادي كثيرا لعائلته، قرر الانضمام للجيش، فقد صوّره الفيلم وهو يقلب البدلة العسكرية التي عدلتها أُمّه بآلة خياطتها القديمة لتناسب مقاسها.

عزف الشارع والمظاهرات.. تشبث بالحلم رغم الصعاب

يتابع الفيلم مصائر شخصياته الثلاث في أزماتها وانعطافاتها، وفي الأمكنة الجديدة التي تعيش فيها الشخصيات، وذلك بعد أن تركوا الحي القديم الذي ولدوا وعاشوا سنواتهم الأولى فيه.

وقعت “ديساندرا” في المتاعب بعد أسبوع واحد من وصولها إلى بيرو حين سُرق جوازها، ولم يعد ممكنا حصولها على وظيفة رسمية بدون جواز سفر، فقررت أن تعزف في الشوارع في بيرو، رغم أن ما تحصل عليه لا يكاد يكفي لدفع إيجار السكن المتواضع الذي تسكن فيه، بيد أنها لم تفقد الأمل في الحصول على وظيفة في عالم الموسيقى الكلاسيكية.

أما “فيلي” فيتحول إلى أحد وجوه الاحتجاجات الشعبية الضخمة في بلده، وبعد أن عزف في واحدة من التظاهرات حظيت صوره الفوتوغرافية فيها باهتمام إعلامي كبير. يلتفت “فيلي” إلى قوة الفن في الاحتجاجات المتواصلة، ويقرر أن يواصل حضوره اليومي في هذه الاحتجاجات، وأحيانا يتصدر المتظاهرين.

بجسد نحيل وآلة كمان مرفوعة على كتفه، يتحول “فيلي” إلى أيقونة للشباب الفينزويلي الضائع الذي يواجه مستقبلا قاتما. أما “إديكسون” فسيبقى مع وحدته العسكرية بعيدا عن اضطرابات البلد، لكنه لن ينسى أحلامه في العودة إلى الموسيقى.

في مونتاج قوي، يجمع الفيلم مشاهد درامية وصورا فوتوغرافية عالية في دراميتها لـ”فيلي” وهو يتصدر الاحتجاجات الشعبية، وعندما كان يعزف كمانه في الصف الأول للمحتجين في مواجهة الجيش والشرطة.

فيلي مع كمانه على خط المواجهة في المظاهرات التي خرجت في فنزويلا

كما يجمع الفيلم في توليفات مشابهة مشاهد لحيوات “إديكسون” و”ديساندرا” التي تدور في فلك البقاء على قيد الحياة بالنسبة للموسيقية الشابة في بيرو، واليوميات الرتيبة لحياة الجيش التي يعيشها “إديكسون”.

شوارع نيويورك.. حين ابتسم الحظ لـ”فيلي” وعبس للآخرين

في مشهد مفاجئ نرى “فيلي” يسافر في مترو، وبعد أن يخرج من محطة قطار الأنفاق نراه في قلب الحاضرة الأمريكية العملاقة نيويورك، لقد حصل على فرصة للهجرة إلى الولايات المتحدة، وذلك بعد أن ذاع صيته، بسبب الاهتمام الإعلامي به في احتجاجات بلده.

وعلى الرغم من أن “فيلي” يعمل موسيقيَّ شارع في نيويورك، فإن الأفق يتسع تدريجيا أمامه، وقد يحصل -كما أخبرنا الفيلم- على وظيفة جيدة في عالم الموسيقى الكلاسيكية.

أما “إديكسون” و”ديساندرا” فلم لم يحظيا بحظ صديق طفولتهم، فما زالت “ديساندرا” في بيرو تحاول أن تبدأ من هناك حياة مهنية كموسيقية كلاسيكية، في حين ما زال “إديكسون” يأمل أن يحصل على شيء ما لينقذه من حياة العسكر ويعيده إلى الموسيقى.

اختارت المخرجة أن تنهي رحلتها في تتبع شخصياتها بعد عشر سنوات من مرافقتهم، وربما تعود لهم في المستقبل لتسجل من جديد حال الشخصيات وما وصلوا إليه في حياتهم.

هنات الفيلم.. إخراج جيد ومونتاج خاذل وشغف مغيّب

ينتمي فيلم “أطفال لاس بريساس” إلى فئة من الأفلام الوثائقية الملحمية التي ترافق شخصياتها سنوات طويلة، وهذه الفئة هي الأصعب نظرا لميزانياتها الكبيرة، ولتأثرها الكبير بتبدل حال الشخصيات، إذ يمكن أن تمتنع إحدى الشخصيات عن مواصلة المشروع الفني، مما يعرضه إلى هزة ربما تكون كافية لإيقافه.

مستقبل مجهول بانتظار المواهب الفنية الفنزويلية الشابة

وعلى الرغم من جهد المخرجة، فإن المونتاج خذل الفيلم قليلا، إذ لم تكن الانتقالات بين الشخصيات موفقة دائما، خاصة في الربع الأول في الفيلم، وغاب السرد الرصين والقفزات المبررة بين القصص والشخصيات الثلاث.

كما غاب الاحتفاء بالموسيقى الكلاسيكية في الفيلم، رغم أنها تمثل حلم الشخصيات فيه ومصدر تعاستهم أيضا، صحيح أننا نسمع أحيانا بعض القطع الموسيقية التي تعزفها الشخصيات، لكنها نُفّذت على عجالة، ولم ترفع قيمتها في سياقات الفيلم، ولم تؤسس لعالم نفسي خاص.

تتحدث الشخصيات الثلاث بحب كبير عن شغفهم بالموسيقى الكلاسيكية، بيد أن هذا الشغف لا نراه مقاطع موسيقية تعكس المطبات والأزمات والتحولات التي مرت بها الشخصيات، عبر الزمن الطويل الذي صُوِّر فيه هذا الفيلم.