“فتاة الصورة”.. طفلة عاشت العبودية والاستغلال في مجتمع الحقوق والحريات
في العام 1990 توفيت “تونيا هيوز” البالغة من العمر 20 عاما بعد أن دهستها عربة، مخلفة وراءها زوجا يكبرها سنا هو “كلارنس” وابنا في سنته الثانية يسمى “مايكل”. كان موتها غامضا احتاج إلى أكثر من ربع قرن ليكشف عن كل أسراره الدفينة.
وإلى تفاصيل هذه الحكاية المثيرة يستند فيلم “فتاة الصورة” (Girl in the Picture) للمخرج “سكاي بورغمان”، ليعرض معاناة امرأة عاشت حياة بأسرها في ظلام دامس، رغم هالة الأضواء التي كانت تحيط بها، فتعرضت لأبشع الجرائم، وهتكت كرامتها في حفلات التعرّي ومآسي الاغتصاب، وتحت هذه الطبقة السطحية كشف الفيلم عن طبقات عميقة تعرض الجانب الوحشي في مجتمعات الحداثة.
“مايكل”.. مأساة ابن مُعنّف يخشى لقاء أبيه
تبدأ قصة الفيلم بعثور رجلين على امرأة تعاني من إصابات بليغة ملقاة على الطريق في أوكلاهوما سيتي، إنها ضحية لحادث مرور بلا شك، لكن الموت لم يسعفها لتدلي بشهادتها تأكيدا لهذا الاحتمال أو رفضا له، رغم كل الجهود المبذولة لإنقاذها، ولم يسعَف ابنها برعاية أبوية مناسبة، ففرضت الجهات القضائية المختصة انتزاع الطفل “مايكل” من والده بسبب ما يلقاه من الإهمال، وفوّضت لوكالة للخدمات الإنسانية البحث عن عائلة حاضنة لتوفر له الرعاية البديلة.
وقد منحته العائلة الجديدة عناية وعطفا أسهما في نموه العاطفي والجسدي والذهني، ومع ذلك ظل الصغير يعاني من رهاب لقاء والده عند كل زيارة، فقد كان يحق له زيارته مرة في الأسبوع، وكان “مايكل” ينخرط في البكاء الحاد، ويختبئ تحت المقاعد هربا منه، مما اعتُبر مؤشرا قويا على تعرضه لعنفه وسوء معاملته. وبعد إجراء اختبار الأبوة اتضح أن “كلارنس” ليس والده البيولوجي، فسحبت المحكمة حقوقه الأبوية، وفرضت عليه قطع صلته بالطفل.
ربما كان التحدي والمكابرة الحافزين اللذين دفعا الأب المزعوم لاختطاف الصبي من المدرسة، بعد أن شدّ وثاق مديرها إلى شجرة وأغلق فمه بشريط لاصق. هذا ما قدّره علماء الجريمة بعد أن وقفوا على خطورة الرّجل، ورجحوا أنه سيعتبره بعد أسبوع عبئا عليه وسيقتله، وهذا ما حدث بالفعل.
تزييف الهوية.. اكتشاف سر يخبئ تحته ألغازا محيرة
أضحى كل ما يحيط بموت “تونيا” مثيرا للريبة، فالتقارير الطبية لا تستطيع أن تجزم بأن موتها ناجم عن ارتطام بعربة، وربما مالت أكثر إلى استبعاده، أضف إلى ذلك أن إفادات زميلاتها وجهت أصابع الاتهام إلى زوجها الذي دأب على تعنيفها.
وكشف التحقيق المعمّق الذي تولاه الضابط الفيدرالي في أوكلاهوما “جو فيتزباتريك” السجل الجنائي الثقيل للرجل، فقد حاول تحصيل تأمين حياة زوجته، لكن رقمه يشير إلى اسم التأمين “فرانكلين فلويد”، وهو اسم هوية مزيفة كان يستعملها سابقا.
ومن ضمن الجرائم التي كان قد ارتكبها السطو على مصرف، واختطاف امرأة، وشجار مع أخرى كلّفه الهروب من القضاء مدة عقدين من الزمن، وتقمّص أكثر من هوية. وفي تلك الأثناء ارتكب جرائم جديدة أخطرها القتل، ومع ذلك ظل عمل المحقّق في حاجة إلى إثبات قتله لزوجته أو لابنها، لكن المفاجأة التي كشفها هي أنّ الزوجين كانا يحملان هويتين مزيفتين، وأن “تونيا هيوز” راقصة التعري في تولسا في أوكلاهوما كانت تعيش هي وابنها تحت رقابة “كلارنس” الدائمة، وأنها كانت تتعرض لعنفه الدائم.
وقد كانت زميلاتها في غرفة الملابس يدركن ذلك من خلال الكدمات التي تغطي جسدها باستمرار، لكن يبدو أنه كان يسيطر عليها عبر اتخاذه ابنها رهينة، وعبر توريطها في جريمة تزييف الهوية، أو التستر على ما يقترفه، وبات اللغز يتجاوز إثبات مقتل الزوجة أو مصير الطفل إلى معرفة هوية الزوجين، ومعرفة ما وراء هذا التزييف من أسرار.
“شارون مارشال”.. شعلة تفقد توهجها تحت ظل الأب
أثار البلاغ المنشور حول الزوج “كلارنس” مختطف “مايكل” والزوجة “تونيا” انتباه زميلتها في الصف في مرحلة الدراسة الثانوية؛ “جوني فيشر”، فاتصلت بمكتب التحقيقات الفيدرالي لتقدم إفادات بأن خطأ ما في البلاغ، فهو يشير خطأ إلى “فتاة الصورة” التي هي “شارون مارشال” -ومن هنا جاء عنوان الفيلم- باسم “تونيا هيوز”، ويشير إلى والدها “وارن مارشال” باسم “كلارنس هيوز”، ويجعله زوجا لها.
من هنا يعرض الفيلم قصة ثانية للشخصيتين ذاتيهما مختلفة تماما عن القصة الأولى وسابقة لها، ففيها تفقد المراهقة “شارون مارشال” والدتها بعد أن صدمتها سيارة على جسر، ويتحول “كلارنس” إلى الأب “وارن مارشال”، ويذكر زملاؤها في فصل الدراسة أنها كانت شخصية اجتماعية محبّبة وودودة، تناصر الضعفاء والمنبوذين وتتعاطف معهم، وكانت جميلة تثير إعجاب زملائها، مميّزة في دراستها تميزا خوّل لها الحصول على منحة جامعية، وجعلها تستعدّ للانضمام إلى جامعة جورجيا التكنولوجية لتحقق حلمها في أن تصبح مهندسة طيران.
تتوالى الشهادات فتكشف أن البنت كانت تعاني من قسوة والدها الذي يفرض عليها القيام بأعباء المنزل رغم صغرها، وبعد أن شبّت أصبح يستغلها في مهنة الجنس، ولا يتورّع عن اغتصابها بنفسه، وحتى يضمن استغلالها إذن، فقد فرض عليها ترك حلمها بدراسة تكنولوجيا الطيران وبالرحيل عن المدينة.
ويثبت للمحقق صدق هذه الإفادات، فقد غيّر الهاربان هويتهما سنة 1989، واستعملا اسمين من شاهدي قبرين في ألاباما، وعقدا قرانهما وفقهما، وساد الاعتقاد بأن الرجل قد تزوج ابنته، لكن هذا التقدير يظل بعيدا عن الحقيقة، فقد كشف البحث حلقة ثالثة من هذه العلاقة القُلّب بين الطرفين، لا تقل إثارة عن القصتين السابقتين.
“سوزان سيفاكيس”.. ثمرة زواج حطمته الأم المتقلبة
ألقي القبض على “كلارنس هيوز” أو “فرانكلين فلويد” وفق هويته الثانية، بعد أن قدّر الضابط الفيدرالي في أوكلاهوما “جو فيتزباتريك” أنه سيستعمل هوية قديمة لتجديد رخصة القيادة، ونشر بلاغا في الغرض، وذلك ما حدث فعلا، فقد سجن في فلوريدا، وهناك وفي لحظة ضعف ربما، أو مناورة لم يحسن تقديرها التقدير الصحيح؛ اعترف لعميل المباحث الفيدرالية “سكوت لوب” بطريقة تخلصه من الطفل “مايكل”، وبحقيقة علاقته بـ”تونيا” زوجته أو “شارون” ابنته، وفق الهويتين السّابقتين.
لم تكن البنت أو الزوجة غير “سوزان سيفاكيس” وفق هويتها الحقيقة، وقد ولدت في ميشيغان بعد قصة حب جمعت الطالبين الشابين “كيفورد سيفاكيس” و”ساندرا براندنبورغ” تُوجت بزواج. لكن الأب دُعي إلى الجندية ليشارك في حرب فيتنام، وفي فترة غيابه وُلدت سوزان، ثم بدأت أمها تواعد رجلا آخر لتطلب الطلاق لاحقا وتتزوجه، وتنجب منه بنتين ثم تنفصل عنه، وتواجه نكسات جعلتها مشردة غير قادرة على إعالة نفسها وبناتها.
تنصّل “سيفاكيس” من مسؤولية حضانة ابنته، وفي هذه الظروف تعرفت “ساندرا براندنبورغ” على “براندون كليو ويليامز” لتتزوجه، وبعد زمن قصير تركها واختطف كبرى البنات سوزان، وقام بتربيتها على اعتبار أنها ابنته، فعاش معها بهويات مزورة واستغلها في علاقات متقلبة.
تغيير شاهد القبر.. إعادة اعتبار لطفلة لم تتمتع بطفولتها
من خصائص الفيلم شخصيتاه المركبتان، والشخصية المركبة في البناء الروائي هي تلك التي تتحول من جهل ما إلى معرفة، أو من حالة وجود إلى أخرى، فيتغيّر نمط حياتها، وتبعا لذلك تجعلنا نفهم الأثر فهما مغايرا.
ورغم أن الفيلم ينتمي إلى النمط الوثائقي، فقد تسربت إلى أعطافه هذه المؤثرات الروائية بحكم الواقع، فكانت الشخصيتان تنتقلان من هوية إلى أخرى، وكان المخرج يعرض مادته بمهارة متدرجا من الأحدث إلى الأقدم، فأسهم في جعل الفيلم مشوّقا قادرا على شدّ المتفرج بقوة. وفي الوقت نفسه يجعل فكره متيقظا متسائلا عن الأسباب التي جعلت “سوزان سيفاكيس” تُنتزع من طفولتها، وتُحرَم من شبابها، وتتحمل كل هذا الأذى.
لا شك أن أكثر من خلل في الحياة الراهنة يخلق هذه الكيانات الهشة، كتفكك الأسرة وأنانية الآباء في مجتمع ليبرالي عقيدته الوحيدة المال والمتع الشخصية.
ورغم كل الظلام الذي يغرق فيه الفيلم، لا بد أن نسجل بعض النقاط المضيئة، فالمحققون الذين تداولوا على هذه القضية الغامضة والمعقدة لأكثر من ربع قرن لم يعتبروها مجرد ملف قضائي تنتهي صلة الموظف به بنهاية العلاقة المهنية، بل كانوا يتعاملون مع لغز المرأة الضحية باعتباره تحديا شخصيا، وقضية لا بد أن تنتهي نهاية عادلة.
ولعل تغيير اسم شاهد قبر الضحية من “تونيا” الضحية المجهولة إلى “سوزان سيفاكيس” يمثّل -وإن بشكل رمزي- إعادة اعتبار لطفلة لم تتمتّع بطفولتها، وعاشت العبودية في مجتمع الحقوق والحريات.
“المعاملة القاسية التي ترتكب في حق الأطفال تخلق مجرمين”
ارتكب “براندون كليو ويليامز” سلسلة من الجرائم الفظيعة، والفيلم بأسره عرض لوجهه الإجرامي ولقدرته على التخفي والهروب من الملاحقات القضائية، لكن العودة إلى طفولته تكتشف أن الجاني كان ضحية للتعذيب والاغتصاب، وأن اختلال توازنه النفسي ونزعته إلى الإجرام لم تكن فطرية، بقدر ما كانت ناشئة عن طفولة معذّبة في مجتمع مهمل لم يوفّر له الرعاية النفسية الضرورية.
وحين كان في المحكمة محاولا استعادة حضانة الطفل “مايكل” تحدث قائلا “أدعوكم إلى تدبر هذه الفكرة: الأسر المفككة والمعاملة القاسية التي ترتكب في حق الأطفال تخلق مجرمين”، وكان يتحدث عن نفسه في صحوة ضمير لم تطل كثيرا.
إذن ليست حكاية “براندون كليو ويليامز” مجرد قصة حزينة، بقدر ما هي سؤال فلسفي مفخّخ، فالجاني ارتكب جرائمه بما يشبه الاندفاع التلقائي نتيجة للانتهاكات الجسيمة التي ألحقها به المجتمع المسؤول بشكل ما عن انحرافه، فإلى أي حد يتحمّل تبعات جرائمه، وإلى أي حد يتوفر فيها شرطا الوعي وحرية الاختيار، وإلى أي حدّ يمكننا أن نتصور مفهوما مطلقا للعدالة في ظل نسبية هذين الشرطين؟
تذهب بعض الاتجاهات الفلسفية إلى أنّ السلوك ناشئ عن عقل جمعي متميز عن عقول الأفراد المكونين له، ومن تبعات هذا المذهب الخطيرة نفي مسؤولية الفرد، سواء حقق هذه وأذعن لها أو تمرّد، وعمليا لا يؤخذ بهذا المذهب لأنه يخرّب الحياة الاجتماعية ويفقد أي معنى للمحاسبة، لكن على مستوى العمق الفكري فلا بد لهذا العقل الجمعي أن يشعر بالخزي للكم الهائل من الجرائم التي يتسبب فيها، ولا بد أن يعتبر ضحايا الإجرام والانحرافات ضحاياه هو. وهذا ما تحاول أن تتبناه الدولة الحديثة التي تأخذ هؤلاء الضحايا-الجناة على عاتقها من جهة إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي. لكن هل يتحقّق ذلك على أرض الواقع عمليا، خاصة في الدول الأقل نموا وتطورا؟
“سوزان سيفاكيس”.. مثال العبودية في مجتمع الحرية المعاصرة
المفارقة أن “سوزان سيفاكيس” كانت تعيش عبوديتها وقهرها في مجتمع الحداثة وحقوق الإنسان، أما مأساتها فتعبّر بعمق عن عزلة الإنسان المعاصر بعد أن خذلته الحداثة التي كانت أملا في تحرّر الشعوب من الاستعمار، أو تحرر الطبقات المستضعفة من هيمنة الطبقات القوية، أو تحرّر الفرد من سلطة العائلة ومركزية دور الأب، أو تحرّر المرأة من الهيمنة الذكورية.
لكن حالما تركزت المجتمعات الحديثة اكتشف الإنسان وجهها القبيح المتمثل في تدمير الطبيعة بالصناعات الملوثة أولا، وتدمير بنية المجتمع والعائلة ثانيا بهتك الحياة الروحيّة للإنسان، والمس ببعده البشري وتشييئه واستلابه، وجعله في تبعية للمؤسسات الإمبريالية.
وليست قصة “براندون كليو ويليامز” و”سوزان سيفاكيس” إلا تجسيدا لأزمة في إنسانية الإنسان في عالم يرشح غربة ووحدة وقلقا وشعورا بالخذلان وخيبة الأمل.