الهنود الحمر.. وحوش الغرب الأمريكي الذين أذلّتهم السينما طويلا

في السابع والعشرين من مارس/آذار من العام 1973، تسمّر شطر من العالم منتظرا الكشف عن الظرف المشمّع الذي يحتوي أسماء الفائزين بجائزة الأوسكار، حينها كانت أولى ملاحم “فرانسيس كوبولا” فيلم “العراب” (The godfather) قد أبهرت العالم، وكان احتمال أن يضم أحد الظروف المشمّعة التي حملتها الممثلة “ليف أولمان” اسم الممثل العبقري “مارلون براندو” أكبر من أي شي آخر.

وقف الممثل “روجر مور” بجانب “أولمان” وهي تعلن فوز “مارلون براندو”، وكان من المنتظر أن يشاهد العالم بأسره العرّاب وهو يقفز بفخر على الدرج المؤدي إلى منصة الفائزين ليتسلم جائزته.

بدلا من ذلك، صعدت امرأة بملامح الهنود الحمر إلى المنصة، كان يبدو أن الحاضرين قد علموا جيدا أن تلك المرأة الغريبة ستنوب “براندو” في تسلم جائزته، لكن المفاجأة كانت حين قدّم “روجر مور” تمثال الأوسكار لها، لتصدّه بحركة من يدها معلنة رفضها، قبل أن تتلو بضع كلمات من خطاب “براندو”  قائلة: اسمي “ساشين ليتلفيثر”، وأنا من قبيلة “أباشي”، جئت أنوب “مارلون براندو” هذه الليلة، وطلب مني أن أقول لكم في خطاب طويل لا يمكنني مشاركته معكم الآن بسبب ضيق الوقت إنه متأسف جدا، لأنه لا يستطيع قبول هذه الجائزة الكريمة، والسبب هو صورة الهنود الحمر في الأفلام اليوم وفي التلفزيون، وأيضا بسبب ما حدث مؤخرا في بلدة وونديد ني، أتمنى أنني لم أفسد هذه الليلة.

هوليود.. قوة ناعمة تشارك في تشويه الهنود الحمر

في 30 من مارس/آذار من العام 1973 نشرت “نيويورك تايمز” الخطاب الكامل الذي طلب “براندو” من “ساشين” إلقاءه، وقد بدأه باستحضار جرائم الأمريكيين تجاه السكان الأصليين، وقال:

“منذ 200 عام قلنا لأبناء الشعب الهندي الذين يقاتلون من أجل أرضهم وحياتهم وعائلاتهم وحقهم في الحرية: ألقوا أسلحتكم يا أصدقائي، سنظل معا، فقط إذا ألقيتم أسلحتكم، يا أصدقائي، يمكننا أن نتحدث عن السلام ونتوصل إلى اتفاق يكون مفيدا لكم. عندما ألقوا أسلحتهم قتلناهم. لقد كذبنا عليهم، لقد خدعناهم لإخراجهم من أراضيهم، لقد جوّعناهم للتوقيع على اتفاقيات احتيالية نسميها معاهدات لم نحافظ عليها أبدا. لقد حولناهم إلى متسولين في قارة قدمت الحياة لزمن طويل جدا. قد تسأل نفسك ما علاقة كل هذا بجوائز الأوسكار؟ لماذا تقف هذه المرأة هنا، تخرب أمسيتنا، تغزو حياتنا بأشياء لا تهمنا، ولا نهتم بها؟ تهدر الوقت والمال وتتطفل على منازلنا. أعتقد أن الإجابة على تلك الأسئلة غير المعلنة هي أن السينما والصورة كانا مسؤولين مثل أي مجتمع عن إهانة الهندي والاستهزاء بشخصيته، واصفة إياه بأنه متوحش وعدائي وشرير. حين يشاهد الأطفال الهنود التلفزيون ويشاهدون الأفلام، وعندما يشاهدون كيف يصورون أبناء عرقهم كما هو الحال في الأفلام، تتأذى عقولهم بطرق لا يمكننا أن نعرفها أبدا. أظن أن الجوائز في هذا البلد وفي هذا الوقت غير مناسبة لتلقيها أو منحها حتى تغيّر حالة الهنود الأمريكيين بشكل جذري. إذا لم نكن حراسا لإخوتنا، على الأقل دعونا لا نكون جلاديهم.

“ساشين ليتلفيثر” تحمل خطاب “مارلون براندو” الكامل

على مدى عقود، كانت هوليود بالفعل أحد جلاّدي السكان الأصليين للولايات المتحدة الأمريكية، رغم أنها تململت بين عقد وآخر لتنفض عنها شيئا من القبح الذي صوّرت به أفلامها الهنود الحمر.

“عروض الغرب المتوحش”.. صراع الرعاة والهنود على المسرح

في ستينيات القرن التاسع عشر، انتشرت القصص التي تتضمن شخصيات هندية بطولية في الروايات التي تروي القصص الشعبية. وبداية من سبعينيات القرن التاسع عشر إلى العام 1910، صورت العروض المسرحية التي عُرفت بـ”عروض الغرب المتوحش” الصراع الشائع بين رعاة البقر والهنود الحمر، وقد جابت تلك العروض المسرحية أمريكا وأوروبا، ووصلت إلى جمهور واسع.

في العام 1917 أنتج “ويليام فيديريك كودي” صاحب فرقة “بوفالو بيل” فيلما صامتا بطول ثلاث دقائق، وكان بعنوان “حياة بوفالو بيل” (The Life of Buffalo Bill). يروي هذا الفيلم قصة الجندي السابق الذي خاض حروبا ضد السكان الأصليين، وتدور قصة الفيلم حول “بيل” المسن الذي يستحضر ذكرياته خلال إجازته، ويحلم بمغامراته حين كان شابا يفتك سلاح الفرسان ويحارب الهنود الحمر، ويعتقل الخارجين عن القانون، كانت شخصية “بوفالو بيل” ملهمة لمخرجي هوليود، خاصة في العقود الأولى من بداية السينما.

صوة الهندي الوحشي النبيل.. منافذ العدوان في مجتمع مكبوت

تقول الكاتبة البريطانية “جوليا بويد” في بحث بعنوان “فحص صورة الأمريكيين الأصليين في الأفلام ونهوض صانعي الأفلام الهنود” إن صورة الهنود الحمر في أفلام القرن العشرين تراوحت بين الصور النمطية، بما في ذلك الوحش المتعطش للدماء، وبين ما يمكن تسميته بـ”الوحش النبيل”.

معلقة أحد عروض “بوفالو بيل الغرب المتوحش”

وتقول “بويد”: تعود أصول هذه الصور النمطية إلى الأدب الأمريكي الشعبي الذي يعود تاريخه إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر. تلاحظ “جاكلين كيلباتريك” مؤلفة كتاب “هنود بكرات الأفلام” أن القصص الشعبية التي تركز على وحشية الأمريكيين الأصليين كانت بمثابة منافذ للعنف والعدوان المكبوت في مجتمع أمريكي مبكر،كان يفتخر بالأخلاق والاحترام. في هذه القصص كان يُنظر إلى السكان الأمريكيين الأصليين على أنهم أشرار، على الرغم من أنه يمكن تقديم بعضهم على أساس أنهم من الأخيار، واستمرت هذه القوالب النمطية لسنوات.

بدأ أحد المؤلفين وهو “جيمس فينيمور كوبر” في نشر سلسلة من القصص بعنوان “قصص الجوارب الجلدية” في العام 1841، كان “كوبر” هو الصانع الرئيسي للصورتين النمطية الأكثر انتشارا وشهرة، وهما الهندي الوحشي النبيل، والوحشي المتعطش للدماء، أو بشكل عام وبسيط الهندي الجيد والسيئ. فالهمجي المتوحش هو وحش شرير وحيواني يهاجم الرجال البيض ويختطف أطفالهم، أما الهمجي النبيل هو كائن حكيم وغريب لا يقيّده المجتمع ويتحد مع الطبيعة.

ويعترف الكاتب “دان جورغاكاس” في إحدى مقالاته بأن ظهور الصورة النمطية النبيلة المتوحشة كان بمثابة تحسن طفيف، مقابل الشخصية الوحشية المسعورة للهندي، لكن ذلك التحسن هو في أدنى مستوياته حسب قوله “لأنه لا يخبر الجمهور شيئا عن الثقافة الأمريكية الأصلية، فقد نمت صورة هذين القالبين النمطيين من أصولهما الأدبية إلى الفن المرئي، وبالتالي كان وصولهما إلى الأفلام السينمائية أمرا طبيعيا، بل لا يكن هناك مفر منه.

“ديفيد غريفيث”.. محاولة إنصاف الرجل الأحمر

في العام 1908 أخرج المخرج الأمريكي “ديفيد غريفيث” فيلمه “الرجل الأحمر والطفل” (The Red Man and the Child)، وعرض الفيلم إطارا به شيء من التعاطف مع شخصيات الفيلم من الأمريكيين الأصليين، ورغم ذلك يصف النقاد ذلك التعاطف بأنه لم يكن كاملا، لأنه صورهم بصفتهم عرقا عاجزا وسلبيا يتراجع أمام قوة الرجل الأبيض.

وقد وضع المخرج ذاته نفس الصورة أيضا في فيلمه “رؤية الرجل الأحمر” (The Red Man’s View) الذي أخرجه في العام 1909، ويصور ذلك العرق الهندي العاجز الذي أُجبر على التراجع من أرضه قبل تقدم الأبيض، “رغم الزخم العاطفي الشعري الذي وضعه في فيلمه”، حسب وصف الباحث “توماس كريبس” في بحثه “ذروة عصر هوليود: صناعة الأفلام والمجتمع قبل التلفزيون”.

وفي العام 1912 أخرج المخرج “ديفيد غريفيث” فيلميه “أسطورة بويبلو” (A Pueblo Legend) و”المذبحة” (The massacre)، وكلاهما فشل في إظهار الأمريكيين الأصليين بشكل إيجابي. لقد أضفى فيلم “المذبحة” شيئا من الرومنسية على بطله الأبيض خلال الحروب الهندية، وكانت مشاهد الأم البيضاء الشجاعة التي تصارع من أجل حماية طفلها وتنجح في ذلك تتكرر في الفيلم، في المقابل تسقط الأم الهندية وتصرع بسهولة، وكأن مشهد موتها أو كفاحها ثانوي.

هوليود الهندية.. صورة نمطية كاذبة في أفلام الغرب الأمريكي

بحلول عام 1910، كان خُمُس الأفلام الأمريكية من أفلام الغرب الأمريكي” الويستيرن”. تقول الكاتبة البريطانية “جوليا بويد”: عبر التاريخ، ظل الأمريكيون الأصليون يمثلون إحدى الأقليات الأكثر تهميشا في أمريكا، كما هو الحال مع أي أقلية سكانية، وتنعكس تحديات السكان الهنود الأمريكيين ونضالاتهم وخطواتهم التقدمية في الثقافة الشعبية، لطالما مثلت هوليود وصناعة السينما الأمريكية الهنود الحمر بشكل سلبي، وبنفس الطريقة التي أجبر بها المستعمرون الأمريكيون الهنود على ترك أراضيهم الأصلية.

وتتحدث عن تاريخ مشاركتهم في السينما قائلة: غالبا ما كان صانعو الأفلام يقدمون شخصيات الفيلم التي تصور الهنود الحمر في أدوار تصنفهم كشخصيات ثانوية تعرض سلوكا نمطيا وغير دقيق تاريخيا، هذا لا يعني أن الهنود الحمر لم يكونوا حاضرين في الفيلم، على العكس من ذلك، فقد كانوا حاضرين كشخصيات أساسية لجزء كبير من أفلام القرن العشرين، لا سيما في النمط السينمائي الشعبي المعروف بـ”الويسترن”. وقد تجلى هذا التهميش للسكان في خلق قوالب نمطية ضارة أحادية البعد.

غلاف مجموعة روايات “قصص الجوارب الجلدية” لـ”جيمس فينيمور كوبر”

وتورد الباحثة “ماريان أوشانا” في دراسة بعنوان “المرأة الهندية في الغرب: الواقع والأسطورة” أن المرأة في قبائل الهنود الحمر كانت قوية، وكانت تملك المنازل والأراضي وتمارس السياسية أيضا.

وتقول: كانت هناك محاربات أيضا شاركن في معارك العام 1868، لكن في المقابل ساعدت أفلام الويسترن في تعزيز أسطورة الثقافة الأوروبية الأمريكية وعلاقتها بثقافة الهنود الحمر، خلال فترة معينة من التاريخ. لقد صورت أفلام الويسترن بفظاظة الثقافة الهندية، وروجت الصورة النمطية التي قدموا بها تلك الثقافة، فغالبا ما كانت صورة السكان الأصليين تقدمها أفلام الويسترن باعتبارهم عنيفين وهمجيين. لقد خلقت أفلام الويسترن ما يسمى بهوليود الهندية، لدرجة أنه من العسير أن يتعرف أشخاص كثيرون على الهنود الحمر الحقيقيين، إذا لم تتطابق صورتهم مع الصورة النمطية التي تروجها هوليود.

“رقص مع الذئاب”.. محاولات بائسة لغسل عار السينما

انتظرت هوليود قرابة قرن من الزمن لتنصف السكان الأصليين لأمريكا، وتخلع عنهم الثوب الذي ألبسته لهم أفلامها من عهد صناعة السينما المبكرة، ففي العام 1998 عرض المخرج “كريس آير” فيلمه “إشارات الدخان” (Smoke signals)، وهو من أكثر أفلام هوليود إنصافا للهنود الحمر.

تقول الباحثة “كاتلين بيترسون” في بحث بعنوان “الأمريكيون الهنود في هوليود”: فيلم “إشارات الدخان” كان من أوائل الأفلام الكبيرة التي قدمت سردا يركز على السكان الأصليين من قبل السكان الأصليين ومن أجلهم، ويمزج الفيلم بين الحداثة والتقاليد، ليروي قصة ترتكز على الواقع وتتناول قضايا ذات صلة بالجماهير من الهنود. “إشارات الدخان” هو المثال الأفضل لما يمكن صنعه جيدا عندما تُترك القصص الأصلية ليرويها أصحابها. هذا الفيلم هو عصر نهضة الأفلام التي تروي قصص الهنود في هوليود.

لقطة من فيلم “إشارات الدخان” للمخرج “كريس آير”، والذي يُعد الأكثر إنصافا للهنود الحمر

في العام 1970، أخرج “إيليوت سيلفرستين” فيلمه “رجل يدعى حصان” (A Man Called Horse)، واعتُبر الفيلم متعاطفا مع الهنود الحمر، فهو يروي قصة صياد يقع في أسر قبيلة من الهنود الحمر فتتوطد علاقته بهم، ويتزوج منهم ويصبح مقاتلا ضمن القبيلة، لكن الفيلم لم يخرج عن إطار الصورة ذاتها، وهي صورة الرجل الأبيض المحب للخير الذي يحاول الاندماج مع مجتمع الهنود المغلق.

تقول الباحثة البريطانية “جوليا بويد”: من السهل القول إن الصور النمطية للهندي الوحشي والهندي النبيل هي من بقايا الماضي البعيد، ويُنظر إليها الآن على نطاق واسع على أنه قد عفا عليها الزمن. لقد كانت فترة التسعينيات تعتبر فترة حساسة فيما يتعلق بالعرق، ومع ذلك كانت الصور أحادية الرؤية تجاه السكان الأصليين، ولا تزال حاضرة إلى حد كبير.

يبدو حكم “جوليا بويد” منطقيا حتى في أكثر الأفلام التي تصنف باعتبارها الأكثر تعاطفا مع الهنود الحمر مثل فيلم “رقص مع الذئاب” (Dance with Wolves) الذي أخرجه “كيفن كوستنر” في العام 1990، وفيلم “آخر الموهيكان” (The last of the Mohicans) الذي أخرجه “مايكل مان” في العام 1992، وهما فيلمان لم يصورا بأي حال الهندي الشرير بصورته المتوحشة التي قدمتها هوليود في الماضي، لكن هذين الفيلم وغيرهما كانا محاولة يائسة لتغيير الصورة النمطية السابقة التي عانى منها السكان الأصليون في المسرح والسينما الأمريكية.

لا يمكن لعاقل أن ينكر وحشية الرجل الأبيض المحتل الذي هجر وشرّد وأباد سكان الأرض الأصليين، وأتبعهم بعد ذلك بتشويه تاريخهم وطمسه مستعملا السلاح والقلم والكاميرا. لا يتجاوز اليوم عدد السكان الأصليين في أمريكا نسبة ثلاثة بالمئة.