رمضان في الصومال.. شهر من السكينة الإيمانية والدفء العائلي ينعش مقديشو

يعتبر حي حمرويني من أقدم وأعرق أحياء العاصمة الصومالية مقديشو، وفيه من الآثار والتراث ما يدل على أهمية هذا المكان ورفعته، ولا سيما المسجد الجامع في حمرويني، إذ يعود بناؤه إلى 1200 عام خلت.

ضمن سلسلة “رمضان ومدينة” التي أنتجتها قناة الجزيرة الوثائقية، وتعرضها على شاشتها في شهر رمضان المبارك، فقد سجّلت حلقة شائقة في حي حمرويني، استطلعت فيها آراء الناس حيال شهر الصوم الكريم، وسجّلت انطباعاتهم وفعالياتهم ونشاطاتهم، ورصدت فيها عاداتهم وتقاليدهم ومآكلهم ومشاربهم في أيام رمضان، وعرضت الحلقة بعنوان “رمضان في الصومال”.

“إنه شهر خاص ومتميز أنعم الله به على المسلمين”

يصحبنا في هذه الحلقة مؤمن محمد سائق التُكتُك، تلك الركوبة الصغيرة التي تسير على عجلات ثلاث، وتستخدم للتنقل بين الأحياء. يقول مؤمن: رمضان شهر السعادة، إنه شهر خاص ومتميز أنعم الله به على المسلمين، والناس هنا يُقبِلون على صيامه بحماس وسرور. وهو شهر البركة أيضا، فحتى لو أكلتَ حبتين من التمر وشربت كوبا من الماء، فستشعر بالشبع.

مقديشو عاصمة الصومال المطلة على البحر

ونلتقي أيضا بالمعلم بازي عبد الرب، ليحدثنا عن قضاء وقته في رمضان فيقول: أقوم بعد صلاة العصر في المسجد بتدريس أولادي قليلا وألاعبهم حتى الإفطار، ثم نفطر سويا وأذهب إلى المسجد لأداء صلاة المغرب، ثم أعود لاستكمال الإفطار. فالصيام بسيط عليّ، وليس لدي كثير من الأعمال لأقوم بها.

وهذا الشيخ عبد العزيز محمد إمام المسجد، وقد تلقى تعليمه في المملكة العربية السعودية، ويعمل في اللجنة المستقلة لإعداد الدستور الصومالي، ويقول: رمضان شهر البركة، شهر القرآن والصلوات والصدقات، وشهر الإفطارات الجماعية، وشهر الفرص المباركة التي علينا انتهازها.

“الصيام هنا راحة للنفس”.. مهد الإسلام منذ هجرة الحبشة الأولى

نعود إلى مؤمن، وهو ينقل أحد الركاب باتجاه منزله في حي حمرويني، ويسامره قائلا: الشغل والسعي على رزق الأولاد أفضل من النوم. فيرد عليه الراكب: هذا التكتك أوجد فرص عمل كثيرة للعاطلين عن العمل، ومن المؤسف أن في مدينتنا كثيرا ممن ليس لديهم عمل، وهم يفكرون في الهجرة والخروج من البلاد.

مؤمن سائق الـ”تكتك” سعيد بقدوم شهر رمضان المبارك

فيرد عليه قائلا: كلامك صحيح، فكثير من الشباب عازفون عن الزواج، لأنهم لا يستطيعون القيام بتكاليفه، والحمد لله، فهذا التكتك قد غيّر كثيرا من أوضاع الشباب إلى الأحسن.

وأثناء الحديث، سُمِع صوت انفجار قوي، كان ذلك أثناء تصوير هذا الفيلم في رمضان 1443 الموافق 2022، يقول مؤمن: لا عليك، فكثير من هذه الانفجارات يتردد صداها في أنحاء العاصمة مقديشو يوميا.

حوار بين سائق التكتك وبين راكب حول شهر الصيام

ثم يلتفت إلى الراكب مخاطبا إياه: بما أنك عشت 6 سنوات في حي الحُمر هنا، ما الفرق في الصيام بينه وبين الصيام في الخارج؟ فيجيبه الراكب: في الصيام هنا راحة للنفس، فالناس يصلون معك ويفطرون معك، وتحضر كل الصلوات جماعة في المسجد، والأذان يأتيك من كل جهة، فمن أين تحصل على كل هذه النعم في الخارج؟

وصل الإسلام إلى الصومال مبكرا، منذ انتشاره في القرن الأفريقي بعد هجرة الصحابة رضوان الله عليهم إلى الحبشة، فهذا مسجد حي حمرويني -الذي يعود بناؤه إلى ما قبل 12 قرنا من الزمن- أكبر شاهد على ذلك، وتشهد أيضا مدينة الزيلع شمال الصومال على دخول الإسلام إلى الصومال سِلْما والحمد لله.

حلقات الذكر وحفظ القرآن الكريم منتشرة في مساجد الصومال في شهر رمضان

ونلتقي أيضا الشاعر مكي حجي بنادر الذي يقول: ولدتُ في عائلة تجمع بين الشعر والتدين، وبدأت أقرض الشعر في سنّ مبكرة ما بين الطفولة والرشد. والناس هنا بعد أن يختموا وردهم من القرآن الكريم -بعد صلاة العصر- يرددون أشعارا في مديح النبي ﷺ، في ألحان جماعية مشوِّقة.

صناعة الإفطار.. أطعمة تزين موائد الشهر الكريم

ها هو السائق مؤمن على وشك العودة إلى البيت قبيل الإفطار، وسوف يشتري بعض الأطعمة الشعبية التي تشتهر في رمضان، ليعود بها إلى أطفاله، فيخاطب البائع: بِكم تبيع السنبوس؟ وبكم البريك؟ وماذا يتوفر لديك أيضا؟

في أسواق الصومال، أطعمة وحلويات شعبية جاهزة قبيل الإفطار

يقول البائع: لديَّ بريك بالتونا وبريك بالخضار، ولكل واحد ثمنه. فيقول له مؤمن: أعطني تشكيلة تكفي لستة أفراد، أريد قيمة 3 دولارات من كل صنف لو سمحت، وزد لي من الفلفل الحار، هيا يا رجل أسرع، نريد أن نصل بالطعام للبيت قبل الإفطار.

يقول مؤمن: العمل في رمضان ليس كثيفا، فأنا أستيقظ قبل الفجر لتناول السحور، ثم أذهب إلى المسجد لأداء صلاة الفجر، وبعدها أقرأ من القرآن جزأين إلى ثلاثة. وفي الليل أحرص على صلاة العشاء والتراويح في المسجد، وفي أواخر رمضان نقوم للتهجد كذلك، لذلك تختلف الحياة في رمضان عن غيرها.

يحافظ المسلمون في الصومال على أدء صلاة التراويح في المساجد

وتتعاون أسرة مؤمن كلها في إعداد طعام الإفطار، فزوجته تقلي البطاطس وشرائح السمك وتطهو الأرز، وهذه ابنته الكبرى تقطع المانجا والموز لإعداد العصائر، وثالثة تقوم بتنظيف الأواني التي استخدمتها والدتها، بينما الأطفال الصغار لا يصبرون على الطعام الشهي المصنوع، فيتناولونه من الأطباق، ويقوم مؤمن بترتيب السفرة.

كما التقينا أيضا بالمسحراتي بازي شيخ مؤمن فيحدثنا عن عمله قائلا: بدأتُ مهمة المسحراتي منذ كنت صغيرا، فأنا أوقظ الناس للسحور والصلاة منذ 20 عاما، وأطوف على المنازل في جميع أرجاء الحي، وهم يشكرونني ويدعون لي، ويقولون لي: صوتك أشجى لأسماعنا من منبهات الهواتف.

لا تخلو مائدة إفطار الصوماليين من السنبوس والحلويات والعصائر

تتغير المدينة في شهر رمضان نتيجة الازدحام، لكن الناس سعداء ويذهبون للتسوق ليلا ونهارا، فيشترون الأطعمة والملابس لأطفالهم، لكنهم يعانون من الجوع والعطش في هذه الأيام بسبب الحرّ.

“سأجعلك تبدو كالعريس”.. مراسم استقبال العيد السعيد

هذه ليلة العيد، وسنرافق الأستاذ عبد الرب إلى صالون الحلاقة ليتزيّن للعيد، فقد كان الحلاق أحد تلاميذه في المدرسة، وسوف يعتني به جيدا ويصبغ له لحيته. وقد دار بينهما الحوار الآتي:

الأستاذ: زوجاتنا وأولادنا لهم الحق في أن نتجمّل لهم يوم العيد. الحلّاق: وأنا سأجعلك تبدو كالعريس يا أستاذي، ولكني أخشى أن تطردك السيدة زوجتك من البيت لو سمعت مني هذا الكلام، لقد غيّرتُ ديكور الصالون، وكأننا أصبحنا في أمريكا، وخصوصا عندما صرنا نتعامل بالدولار ونسينا الشلن. الأستاذ: عسى أن تكون لدينا حكومة وطنية عمّا قريب وتعيد إلى الشلن هيبته. الحلاق: ولكنني مصمم على أن أجعلك عريسا اليوم. الأستاذ: يا بني أنا كبير في السن، لقد طفت البلاد كلها في الداخل والخارج، فحين سافرتُ إلى الخارج لم يكن أبوك وأمك قد تعرّفا على بعضهما بعد. الحلاق: وسأقوم بتبييض وجهك. الأستاذ: وهل ستعرفني العائلة عندما أعود إليهم أبيض الوجه؟ فيضحكان كلاهما.

الأستاذ عبد الرب في صالون الحلاقة تحضيرا للعيد

سوف يذهب مؤمن أيضا إلى السوق ليشتري ألعابا لأطفاله بمناسبة العيد، إذ سيشتري عرائس للبنات وسيارات للأطفال، وسيشتري لنفسه فوطة وقميصا وعمامة.

وإلى محل الخيّاط عبد الرزاق يذهب الأستاذ عبد الرب ليختار قماشا مناسبا لتفصيل ثوب للعيد، فيدور الحوار الآتي:

الخياط: هذا اللون يصلح للعمل، وهذا سيجعلك شخصا آخر، سوف يجعلك تبدو أنيقا كالعريس. عبد الرزاق: ههههه كالعريس العجوز، أريد تفصيل قميص وسروال. الخياط: لنأخذ القياسات.

يقوم الخياط بتفصيل الأنواع المختلفة من الثياب للرجال والنساء قبيل العيد

يقول الخياط: أقوم بتفصيل الأنواع المختلفة من الثياب للرجال والنساء، وأفصل البدلات الكاملة أو القمصان والسراويل وحتى الثياب السعودية، ونظرا لتزايد الطلب في رمضان فإننا نكتفي بعدد محدد من الطلبيات ولا نتجاوزه، وآخر يوم في رمضان عطلة، إذ ننجز من أربعين إلى خمسين طلبية، فسِرُّ استمرارنا في صنعتنا هو الإتقان.

يوم الحناء والعيديّات.. فرحة الصغار باستقبال الجائزة

في محل الحلوى يقول مؤمن للبائع: زن لي كيلوغرامين من هذه الحلوى، ما اسمها؟

فيرد صاحب المحل حسن حسين: بالبالو، وهذه سيسين، وهذه لذيذة بجوز الهند. ثم يقول: تكثر الطلبات في الأيام الخمسة الأخيرة من رمضان، ولا نتمكن من النوم في هذه الفترة، فنحن نعمل ليلا ونهارا.

وأما الفتيات فيتزينّ بالحناء ليلة العيد، كما في مناسبات أخرى كثيرة كالخطبة والزواج وأعياد الميلاد، ويستخدمن الحناء التقليدية التي يصنعنها بأيديهنّ، وهناك أيضا الحناء الجاهزة التي تجلب من الهند.

البنات في الصومال يحنّين أيديهن في ليلة العيد

وفي يوم العيد تتجمع الفتيات حفيدات الأستاذ عبد الرب في بيت جدهنّ، بيت العائلة، ويقبّلن يده ويباركن له بالعيد، وهو يقبل جباههنّ ويداعب أيديهنّ، وهو معجبٌ بالحناء عليها، ويعطي كلا منهن عيديّتها النقدية.

في يوم العيد يخرج الأطفال للابتهاج والفرحة واللعب والمرح

مرحبا بالعيد، إنه يوم تبادل التهاني وزيارة الأرحام وتقديم ملابس العيد والعيديات النقدية للأطفال والفتيات. ثم يذهب الأطفال إلى الحدائق ومدن الألعاب، فيركبون الخيل ويبحرون بالقوارب. إنها أجواء فرح وسعادة، وها هو ذا مؤمن يصطحب أطفاله كذلك إلى مدينة الألعاب.


إعلان