موائد الأجداد.. كتاب عباسي يصف فنون الطبخ وآداب المائدة وذوق الخلفاء

عندما نتحدث عن الإرث الحضاري للممالك والدول، فقد يكون أول ما يتبادر إلى الأذهان مجدها السياسي والعسكري، ونفوذها الجغرافي الذي بلغته، وقد نذكر مكتسباتها العلمية والتكنولوجية، أو آدابها وأشعارها وثقافتها على العموم، أما أن تجد تراثا عمره أحد عشر قرنا من الزمان يتحدث عن فنون الطبخ وآداب المائدة، فهذا ما سبقت إليه الحضارة العربية الإسلامية مثيلاتها من الممالك والحضارات.

في حلقة متميزة شائقة من سلسلة “موائد الأجداد” التي تعرضها قناة الجزيرة الوثائقية خلال شهر رمضان المبارك، سوف يطلعنا المظفر قطز تاج الدين، الباحث والمؤرخ في الثقافة العربية، على درَّة نفيسة من كنوز الحضارة العربية الإسلامية، وهي مخطوطة نادرة عمرها 11 قرنا تعود لعصر الدولة العباسية، وتتحدث عن فنّ الطبخ وآداب المائدة “الإتيكيت” في ذلك الزمان.

مخطوطة ابن سيّار في الطبخ.. تحفة نفيسة تزيّن مكتبات أوروبا

يتواصل المظفر قطز تاج الدين من بروكسل مع والدته في مصر ويطمئن عليها في رمضان، ويعرب عن شوقه لها ولأكلاتها اللذيذة، وتبادله هي التحايا والشوق وتدعوه إلى طبق “المسقّعة” الذي يحبه، ولمّا لم يكن بإمكانه الفوز بذلك المذاق الشهي، فقد أوحى لها أنه مشغول بصنع طبق لم يكن ليخطر لها على بال، سيفاجئها بطبق “زرباجة السفرجل”، وسيحكي لها حكايته.

المظفر قطز تاج الدين باحث يعثر على مخطوطة عن الطعام تعود إلى 1000 سنة

فليست الثقافة منحصرة في الكتب والشعر والسينما، فالطعام أيضا عنصر مهم فيها، بل يكاد أن يكون العامل المشترك الوحيد في كل ثقافات الأمم. فالطعام فن وصناعة وثقافة، وقد حفظ التاريخ كنوزا جمعها أجدادنا على مدار السنين، وسيفضي البحث فيها إلى تصوُّر موائد أجدادنا العتيقة التي أصبحت جذورا أصيلة لموائدنا الحديثة.

يقول مظفر: قضيت أعواما أتتبع كتب التراث العربي في متاحف الدول الأوروبية، وفي نفسي مشاعر مختلطة بين الحسرة على فقدانه، والفخر باكتشاف وجوه جديدة منه، بحثت في التاريخ والفقه والفنون، ولم أتخيل أن أجد موسوعة عمرها أكثر من 1100 عام تتحدث عن فنون الطبخ بالتفاصيل، فقررت الاستعانة بالشيف الفلسطيني فادي قطان لفهم هذا التراث الغني، وهو الذي كرّس حياته لحفظ تراث الطعام الفلسطيني.

في مكتبة هيلسنكي بفنلندا تم العثور على مخطوطة عربية لتحضير الطعام فيها أكثر من 800 وصفة

يعود أقدم كتاب عن أدب الطبخ إلى القرن العاشر الميلادي، وهي الفترة التي تلت العصر الذهبي للدولة العباسية، وقد بدأنا من هلسنكي عاصمة فنلندا، فوجدنا أقدم مخطوطة لكتاب عربي عن فنّ الطبخ بعنوان “الطبيخ وإصلاح الأغذية” وينسب للكاتب المظفر بن نصر بن سيّار الورّاق.

مطبخ النخبة.. كتاب يجمع أشتات وصفات الطبخ

يقول “يوني أهمايارفي” أمين مجموعة المخطوطات النادرة بمكتبة فنلندا القومية: لدينا نسخة أصلية من 153 ورقة بخط نسخي سهل القراءة، مرتبة في 132 فصلا بعناوين جذابة مثل “مذاقة الطاهي للألوان والمشاهي”، و”ما يُلقى في القدور من الطيب المشهور”، وبها أكثر من 600 وصفة.

وتقول نوال نصر الله، وهي مترجمة الكتاب إلى الإنجليزية، ومؤرخة للمطبخ العربي: إنه كتاب مدهش، ليس عن الطبخ فحسب، بل عن الحضارة بالمجمل، ويبدو أن ابن سيّار قد استجاب لطلب بجمع كل ما كتب في فنون الطبخ والنصائح الطبية المتعلقة بالطعام في ذلك الوقت، فقد أشار الكاتب إلى النُسَخ التي اقتبس منها، وذكر 80 قصيدة في كتابه، يتحدث عن وصفة ثم يذكر أبياتا من الشعر تصفها بطريقة فنية.

إلى جانب وصفات الطعام، امتازت المخطوطة بالشعر وأدب المائدة (الإيتيكيت)

وتحدثت “أودري كاير” المؤرخة لثقافة البلاط العباسي بقولها: هذا عمل فريد من نوعه، وأقرب إلى الأدب في مضمونه، ويجمع بين وصفات الطبخ والقصائد والحكايات والنصائح الطبية وأصول الإتيكيت، ويبدو أنه مشروعٌ عن مطبخ النخبة.

أطعمة بغداد.. عاصمة تجبى إليها ثمرات العالم

ويتساءل الشيف فادي قطّان قائلا: حالفني الحظ بالاطلاع على مخطوط “ابن سيّار”، ولديّ الكثير من الأسئلة، فهل كان فعل الطبخ مقتصرا على النخبة في بلاط الخلفاء، أم كان متاحا للعامّة؟

فيجيبه “دانيال نيومان” أستاذ الثقافة العربية في جامعة دورهام: هذا سؤال جيد، وجوابه في المخطوطة نفسها، فقد تحدث الكتاب عن جميع الأطعمة التي كانت موجودة في الأسواق، كل الوجبات الساخنة كالهريسة والكباب وغيرها، كأن الكتاب يقول إن معظم الناس كانوا يأكلون في الخارج.

الفنان والموسيقيّ المشهور في البلاط الرشيدي إسحاق بن إبراهيم الموصلي

ويتحدث عمرو رياض، رئيس قسم الدراسات العربية، بجامعة لوفان قائلا: كانت بغداد في القرون الماضية مدينة عامرة تعج بالنشاط والحيوية والتجارة، ويأتي إليها التجار الغرباء من كل أنحاء الدنيا، فسميت سُرَّة البلاد أو أم الدنيا، فيأتيها كل من أراد التجارة والعلم والمعرفة.

وتقول المؤرخة “أودري كاير”: كانت بغداد مفترق طرق جديد للثقافة والتجارة، تصلها المنتجات ومعها مهارات الطهي، وكانت ملتقى التقاليد في أوجه الثقافة، ومنها الطهي.

ألسنة السمك.. مائدة بألف درهم يأبى الخليفة أكلها

في أيامنا هذه، كلما ارتفعت مكانة الشخص قلَّ اهتمامه بالطبخ، لكن الملفت للنظر أن الخلفاء والوزراء العباسيين هم الذين كانوا يباشرون فعل الطبخ ويتبارون فيه، وكانوا ينظمون القصائد في وصف أطباقهم الشهية، فكانت المأدبة فرصة للتسلية والمنادمة والتنَدُّر، فهنالك نوع من التناقض بين التفنن في الطبخ ومعاني الزهد والتواضع من جهة أخرى، وربما كانوا يستنظفون الطعام الذي يصنعونه بأيديهم.

وصفة “زيرباجة السفرجل” يتم إعادة تحضيرها لأول مرة بعد ألف سنة

يقال إن إبراهيم بن المهدي -وهو الأخ غير الشقيق لهارون الرشيد، ولم تكن له اهتمامات سياسية بقدر اهتمامه بالغناء والموسيقى، وكان ذوّاقة في الطعام- قد دعا هارون الرشيد لبيته في الرقَّة، وكان يعلم أن الخليفة يحب بدء طعامه بالأطباق الباردة مثل الغموس والشطائر، فقدّم له طبقا به قطع صغيرة من السمك، فتعجب الرشيد من صغرها، وسأل عنها فأخبروه بأنها ألْسِنَة السمك.

فغضب الرشيد بشدة، طبقٌ من ألسنة مئات الأسماك، كلفته تزيد على 1000 درهم، وقال لإبراهيم: لن آكل من هذا الطبق، وعليك إحضار 1000 درهم الآن وتوزيعها على الفقراء.

فن الإتيكيت.. أدب المائدة في حضرة الملوك

يخبرنا كتاب ابن سيّار عن ما ورد في كتاب إبراهيم بن المهدي عن الطبخ، ويعطينا صورة مدهشة عن السياق الأوسع للوضع الثقافي والاجتماعي في ذلك العصر، وبشكل خاص عن الطبقات العليا في ذلك المجتمع، وإشارات عن الأدب والطقوس الاجتماعية والإتيكيت.. إنه لأمر مذهل أن تجد كتابا من القرن التاسع يحدثك عن أدب المائدة في حضرة الملوك.

أدب المائدة (الإيتيكيت) ثقافة عالمية عرفتها موائد السلاطين والطبقة المخملية ونافستهم فيها تعاليم الإسلام

يقول “دانيال نيومان” أستاذ الثقافة العربية بجامعة دورهام: لقد كان للعباسيين اهتمام خاص بالإتيكيت، لكن هذا لا يعني أنهم هم من اخترعوه، فهو موجود ربما قبل الإسلام بكثير، وقد يكون من أهم دواعي التأدب على الطعام أنهم كانوا يجتمعون عليه، سواء في العائلات أو في المأدُبات والمجالس العامة.

وكان وجود الندماء جزءا أصيلا على المائدة لإضفاء روح الفكاهة وطيب النفس في المجلس، والترفيه عن الحاضرين، لكنه يشير من ناحية أخرى إلى درجة الرقي الثقافي الذي وصلت إليه المجالس آنذاك.

سباق الموسيقى.. تنافس المدارس الفنية في عاصمة الكوكب

تكشف المخطوطة كذلك عن العلاقة التنافسية بين إبراهيم بن المهدي والمغني والموسيقيّ المشهور إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وقد كان له حضور في بلاط الخلفاء، من هارون الرشيد إلى المتوكل، وكان قريبا جدا من الخليفة الواثق، وكان ملمّا بالشعر العربي القديم. فكان التنافس بينهما انعكاسا للتنافس بين مدرستين، المدرسة الحديثة ويمثلها ابن المهدي، والكلاسيكية ويمثلها الموصلي.

في ديوان الخليفة هارون الرشيد كان الشعراء والموسيقيون وحتى الطباخون يقدمون فنونهم كل في تخصصه

ويخلص الباحثون المشاركون في هذا النقاش إلى أن المطبخ العباسي كان حصيلة لما كانت عليه الإمبراطورية الإسلامية، فالتنوع الجغرافي الهائل، وتنوع البذور ومصادر الطعام كبير، كل هذا كان يصب في أسواق بغداد التي كانت مركز الكوكب في ذلك الزمان، وهذه المخطوطة تبين المكانة التي وصلت إليها بغداد في الطبخ والثقافة بشكل عام.


إعلان