موائد الأجداد.. كتاب يصف مائدة الأندلس وآداب مجالسها

بعد أن فرغ الدكتور المظفر قطز تاج الدين من إعداد طبق “زرباجة السفرجل”، ومن قبلِهِ طبق “النبطية”، وهي الأطباق التي تشترك فيها نكهةُ بغداد الزكيّة مع رائحة قرطبة الشذيّة، سوف يحدثنا اليوم عن طبخة لذيذة اسمها “لِتفايَا الخضراء”، وهي أندلسية صِرفة، لكنَّ وراءها قصة طويلة سوف يسردها لنا المظفر في السطور التالية.
نستعرض فيما يلي حلقة “هروب” التي بثتها الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “موائد الأجداد” التي تعرضها القناة خلال شهر رمضان المبارك، وسوف نتعرف فيها على دُرَّةٍ جديدة من جواهر التراث العربي الإسلامي في الأندلس، مكنوزةٍ في مخطوطة تعود للقرن الـ13 الميلادي، كتبها عالِم أديب أريب في فنون الطبخ وآداب المائدة، وهو ابن رزين التجيبي.
ثقافة البلاط العباسي.. هدية إلى منارة الحضارة العربية بالأندلس
كانت قرطبة في الألفية الثانية بعد الميلاد ما تزال منارة للحضارة العربية في جنوب إسبانيا، لكنّ ثمار هذه الحضارة كان أصلها شجرة بغدادية، أينعت في البلاط العباسي في عصره الذهبي، وحمل ثمارَها إلى الأندلس أجيال من الهاربين واللاجئين.

تقول “أودري كاير”، وهي مؤرخة لثقافة البلاط العباسي: عندما نتحدث عن العصر الذهبي لبغداد في القرن التاسع، فذلك لأنها كانت نموذجا يحتذى في كل أصقاع الدنيا، ولأن ثقافة البلاط العباسي، بما فيها فنون الطهي والشعر والموسيقى، ستنتقل منها إلى كل حواضر الدنيا، ومنها إلى بلاط الفاطميين في شمال أفريقيا والأمويين في الأندلس، وسنجدها عند البويهيين وَمن إلى الشرق مِن بعدهم.

ويقول دانيال نيومان، أستاذ العربية بجامعة دورهام: في هذه الفترة سنسمع كثيرا اسم زرياب، وهو شخصية أسطورية فريدة من نوعها، شخصية حازت الكثير من الفضائل ومثلها من الرذائل، جاء وافدا من الشرق، ومعنى اسمه “الطائر الأسود”، ربما يسبب لونه الداكن، أو صوته العذب الرخيم، وكان مغنيا في بلاط الرشيد، وهو تلميذ إبراهيم الموصلي، ومن بعده ابنه إسحاق.
زرياب.. معجزة الغناء والطبخ والأزياء
كان الرشيد راعيا للفنون والمواهب، فطلب من إسحاق أن يقدم له موهبة جديدة، فقدّم إليه زرياب فأدهشه صوته، حينها أدرك إسحاق أنه ارتكب خطيئة عمره التي سيندم عليها كثيرا، فكاد له في البلاط، فطُرِد إلى الأغالبة شمال أفريقيا كمرحلة أولى، وبعدها إلى الأندلس.

تقول نوال نصر الله مؤرخة المطبخ العربي: حاز زرياب على مقام رفيع في بلاط الأمير عبد الرحمن الثاني، فقد فتح أبوابا سرية بين قصره وبيت زرياب حتى يدعوه متى أراد سماعه. واشتهر زرياب بطبخة اسمها “لِتفايا الخضراء”، يبدو أنه تعلمها من إبراهيم بن المهدي، ولم تكن معروفة في مصر وشمال أفريقيا، بينما كانوا يعرفون اللِتفايا البيضاء، أو الإسبيذاج.
وقال عنه عمرو رياض، من جامعة لوفان: قيل عن زرياب الكثير، فقد نقل الموسيقى وفنون الطبخ إلى الأندلس، وكذلك فنون الأزياء وتطابق ألوانها، حتى قيل إنه أول من افتتح صالونا للتجميل، واستقدم معه الأعشاب لتجميل الوجه وكذلك العطور.
اللِتفايا الخضراء.. وجبة مشرقية تزينها النكهات الأندلسية
تصنع اللِتفايا الخضراء تصنع مع عصير الكزبرة والنعناع، ولم تُذكر بهذا الاسم في الكتب المشرقية، وإن كان هنالك الكثير مما يشبهها، ولكنها في الأندلس اتخذت شكلا جديدا بإضافة البيض إليها، فالأندلسيون عموما يستخدمون البيض في معظم أطباقهم، بل لقد توصلوا إلى طريقة التفريخ الصناعي للدجاج من أجل أن يحصلوا على حاجتهم المتزايدة من البيض.

والراجح أنهم كانوا يستخدمون البيض لتكثيف المرق، أي جعْل قوامه كثيفا، وهكذا أصبح أقرب ما يكون إلى صلصة “الهولانديز” الفرنسية، ولكن ينقصه عنصر مهم هو الليمون، وهو ما يستعيضون عنه بعصير الكزبرة ذي المذاق الحامضي، كما أن غليه على نارٍ هادئة يكسبه الملمس الناعم.
ثم يأتي التخمير، وهو قشرة من البيض مضافا إليها فتات الخبز، وهو يختلف عن التخمير الذي يعرفه أهل المشرق، وما زالت هنالك أطباق أندلسية كثيرة مدفونة في تراب إسبانيا، وبقليل من البحث يمكن التعرف عليها سواء بصورتها الأصلية أو الحديثة.

ولمعرفة المزيد عن اللِتفايا الخضراء علينا التوجه إلى برلين في ألمانيا، وهي من أكبر العواصم الأوروبية وأكثرها شهرة بوجود المتاحف والمسارح والمكتبات، الأمر الذي جعلها عاصمة ثقافية عالمية متميزة، ومن ضمن سكانها يوجد نصف مليون من جنسيات أخرى مختلفة، وتحتوي مكتبتها على واحدة من أشهر مخطوطات الطبخ العربي.
“كتاب فِضالة الخِوان في طيبات الطعام والألوان”
يقول “كريستوف راوخ” أمين مجموعة المخطوطات العربية في مكتبة برلين القومية: هذه نسخة لمخطوطة عربية، كاتبُ نصها الأصلي هو ابن رزين التجيبي، وعنوانها “كتاب فِضالة الخِوان في طيبات الطعام والألوان”، وهي واحدة من 3 مخطوطات للكتاب، أما الثانية ففي مدريد، والثالثة في لندن.
وهو كتاب شامل ومهم من كتب العصر الأندلسي في القرن الـ13 الميلادي، والنسخة التي في برلين غير كاملة مع الأسف، فثلثها الأخير تقريبا مفقود، وهي مكتوبة بالخط العربي المشرقي.
والمميز في هذه المخطوط هو الخط الذي كتبت به، وهو ليس الخط المغربي المشهور، أي أنها سافرت عبر الأقطار، واحتوت أيضا وصفات من كل هذه الأقطار، وما نعرفه أنها كانت في دمشق بحوزة شخص غير معروف في 1224 ه، أي بعد 30 سنة من نسخها، أي في الفترة بين 1820-1850 م.

وتتكون مخطوطة الكتاب من 77 ورقة و12 فصلا، وفيها وصفات من كافة أنواع الطعام والشراب وما يتعلق بهما من لوازم، مثل ما يتعلق بغسل الأيدي أو تعطير الأجواء والمجالس، وهو مرتب بشكل موسوعي ويتسم بمنطقية علمية، ومكتوب بلغة عربية فصيحة يندر فيها أي لفظ دارج أو كلمة عامّية، مما يدل على أن كاتبها أديب أو فقيه، وهذا على النقيض من كتب الطبخ العربية التي سبقته، إذ يتضح أنها كُتبت بأيدي طبّاخين ليسوا على دراية كافية بعالَم الأدب واللغة.
ابن رزين التجيبي.. فتى المدينة الساحرة المنكوبة في عصر الطوائف
جاء ابن رزين التجيبي من واحدةٍ من المدن الأندلسية التي استولى عليها القشتاليون، وتسمى مرسية، فهو من مواليد هذه المدينة، وينتسب إلى قبيلة تجيب العربية، ولا يعرف إذا كان أصيلا أو من موالي القبيلة. ومرسية مدينة محصنة على أرض منبسطة محاطة بالأشجار والبساتين، حتى أنك تمشي أميالا مظللا بالأشجار تسمع خلالها زقزقة الطيور وخرير الماء من تحت قدميك، وفي هذا الجمال الساحر عاش ابن رزين طفولته وشبابه، وهذا يوضح سرّ اهتمامه وانحيازه لكل ما هو أندلسي.

يقول “باسكال بوريسي” أستاذ تاريخ العربية والإسلام في المعهد القومي الفرنسي للبحث العلمي: تعتبر مرسية من أكثر المدن انفتاحا على الشرق، لأنها ميناء مهم على البحر الأبيض المتوسط، بل إنها منفتحة على جميع حواضر حوض المتوسط، وفي القرن الـ13 غزاها الأراغونيون بقيادة “خايمي الأول” الذي استولى على بلنسية ومرسية.
وقد أجبر “خايمي” كثيرا من المسلمين على العيش مدَجَّنين، أي يعيشون خاضعين لقوانين الملوك المسيحيين، فعاش كثير منهم في مدينة أرغون قرب سرقسطة، حيث عاش مجتمع متماسك حتى القرن الـ15 الميلادي من المسلمين الذين حافظوا على إسلامهم تحت سلطة الحكام المسيحيين، وفي منطقة بلنسية ومرسية كانت تعيش مجموعات على شكل مجتمعات ريفية، احتمت بالجبال خشية البطش المسيحي.

أما في المدن، فكان كثير من العلماء والمتعلمين يفضلون الرحيل على العيش في ظل الحكم المسيحي، ومنهم ابن رزين التجيبي، فقد قرر أن إسبانيا لم تعد أرضا لمعاشهِ، فتركها إلى سبتة في المغرب. وسوف تخبرنا بقية هذه السلسلة عن الكثير من أخبار هذا العلّامة الذوّاقة ابن رزين التجيبي.