موائد الأجداد.. أطعمة المهاجرين من الأندلس تزين المطبخ المصري

يدور الزمان ولا يستقر على حال، والممالك والأمم في حركة صعود وهبوط لا تنتهي، وسنّة الله سبحانه وتعالى لا تتبدّل: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ).
وكما شهدنا في حلقات سابقة من هذه السلسلة “موائد الأجداد” التي تعرضها الجزيرة الوثائقية في شهر رمضان الكريم، كانت الهجرات من الشرق إلى الغرب مع بزوغ شمس الدولة الأموية في الأندلس، وها نحن أولاء في هذه الحلقة سنشهد حركة لجوء من الغرب المتوحش على يد الكنيسة الكاثوليكية مع أفول شمس الممالك الإسلامية الأندلسية، إلى الشرق الآمِن حيث القاهرة المحروسة.
ابن رزين التجيبي.. لجوء قاس بعد مستقرّ آمِن
حط ابن رزين التجيبي رحاله في سبتة المغربية، وهناك عاش حياته الجديدة، ورغم أنها مدينة عربية مسلمة فإن غربته لم تزل مسيطرة على مشاعره. واليوم وبعد قرون طويلة يعيد التاريخ نفسه، ولكن مع اختلاف الأدوار.
فبينما كانت مدينة سبتة ملجأ للعرب الناجين من محاكم التفتيش قبل 600 عام، فإنها اليوم ما زالت ملجأ، ولكن للعرب النازحين إلى إسبانيا، وهي من المفارقات العجيبة في تاريخنا وتاريخ الأندلس والمغرب العربي.

اليوم يعيش في المدينة عرب وأوروبيون تحت السيادة الإسبانية. ويقول عنها “دانيال نيومان” أستاذ اللغة والثقافة العربية بجامعة دورهام: في ذلك الوقت لم تكن سبتة خيارا سيئا أو غريبا بالنسبة لواحد من طبقة العلماء كابن رزين، فقد كانت مركزا علميا مهما، حوى كثيرا من العلماء الأندلسيين والمغاربة، فأكمل التجيبي تعليمه هناك.

وبعد فترة، غادر ابن رزين سبتة، وترك عمّه هناك وتوجه شرقا إلى مدينة بجاية في الجزائر، ولم يطل به المقام هناك، فتوجه إلى تونس، وهناك بدأت أحواله تسوء، فقد زاره بعض من يعرفه ووجده في حالة فقر مدقع، وفيها توفي وكان عمره آنذاك في بداية الستين.
المفلوتة.. وجبة الاحتفال بعيد الفصح اليهودي
المفلوتة أو المُفَلَّتة أو المُرَكَّبة، هي أسماءٌ لطبق واحد، وقد ورد ذكرها في كتاب “فضالة الخوان”، وهي مركبة من عدة طبقات، من عجينة خفيفة مثل عجينة القطايف، يصبونها في قاع المقلاة حتى تنشف، فينقلونها مقلوبة إلى طبق آخر بارد، ويصنعون طبقة أخرى ويضعونها فوقها، وهكذا إلى عدة طبقات، ثم يصبون عليها العسل.
وهذه المركبة كانت طقسا من طقوس عيد الفصح اليهودي في يومه الأخير، وكانوا يسمونها الميمونة، وكان الجيران المسلمون يجلبون معهم المُركَّبة ليحتفلوا مع جيرانهم اليهود بعيدهم، ثم يأكلونها سويّة، ويبدو أن الميمونة أخذت اسمها من موسى بن ميمون الفيلسوف اليهودي الذي تتلمذ على أشهر علماء المسلمين في عصره.

يقول “جاستن بينافيديز” الباحث في التاريخ الإسلامي بجامعة غرناطة: هاجر ابن ميمون إلى فاس، ليكمل تعليمه في جامع القرويين، ومن أشهر أعماله الفلسفية “دلائل الحائرين”، وهو كتاب يضم تراث آرسطو إلى اليهودية، ويحاول الوصول إلى منهج يوافق بين القانون اللاهوتي والفكر الفلسفي مع العلوم الدنيوية.
رحلة الفسطاط.. موجة الهجرات الأندلسية إلى الشرق
بقي موسى بن ميمون في فاس مدة 5 سنوات، ثم رحل بعدها شرقا إلى الفسطاط في مصر، وهناك زاول مهنة الطب، وكان رئيسا للجماعة اليهودية في الفسطاط، وبقي هناك حتى مات ودفن فيها.

يقول “باسكال بورسي” أستاذ تاريخ العربية والإسلام في المركز القومي الفرنسي للبحث العلمي: مع تقدم ملوك المسيحية في الأندلس، نلاحظ أن علماء المذهب المالكي أخذوا يهاجرون إلى المغرب، وأسهموا في أسلمة المجتمع المغربي العربي، وانتقلوا بعده إلى المشرق، وأكمل بعضهم رحلة طلب العلم حتى وصلوا الحجاز في مواسم الحج، وهاجر بعضهم بحرا مع سفن الطليان والبرشلونيين إلى الإسكندرية.

وها نحن قد سافرنا من بغداد إلى الأندلس مع زرياب، وانتقلنا من الأندلس إلى المغرب مع ابن رزين، ثم توجهنا من المغرب إلى مصر مع ابن ميمون، وفي كل هذه الطرق وتلك المراسي انتشر عبق الأكلات العربية من أقصى الدنيا إلى أقصاها، ونُثِرت نكهاتها في المدن وبين الأزقّة والبيوت.
ملاذ القاهرة المحروسة.. ملتقى النكهات العطرة والمذاقات الشهية
يقول مصطفى وجيه الباحث في التاريخ الاقتصادي المملوكي: في العصر الوسيط أصبحت القاهرة هي العاصمة السياسية والثقافية والدينية للعالم المشرقي، ففي هذا الوقت حصلت حروب الاسترداد المسيحية في الأندلس، ففرّ الناس من جحيم الحرب إلى مصر الآمنة، وفي المشرق اجتاح المغول عاصمة الخلافة بغداد وكل الحواضر العربية في العراق والشام، وتوقفوا على حدود دولة الممالك، فلجأ الناس أيضا إلى مصر.

وهناك في مصر اجتمعت الثقافة والعلوم والتعايش السلمي بين مختلف أفراد المجتمع، وجاءها اللاجئون بثقافاتهم الثريّة أيضا، فأصبح فيها كل شيء له حكاية ورائحة، تذهب إلى أزقة القاهرة القديمة، فتجد كل زقاق يسمى باسم حرفة أو تجارة معينة، ومن أشهرها منطقة العطّارين التي استقر فيها تجّار التوابل.

وقد اشتهرت هذه التوابل بأسمائها واستخداماتها في مخطوط نادر اسمه “كنز الفوائد في تنويع الموائد”، وهو كتاب يوضح ثراء هذه التجارة وازدهارها في الفترة المملوكية، فالكاتب كان شاهد عيان على الأحداث وعلى العصر المملوكي وهذه التجارة التي كانت رائجة فيه. وتوجد لهذا المخطوط 5 نسخ، إحداها في مدينة غوتا الصغيرة شرق ألمانيا.
“كنز الفوائد في تنويع الموائد”.. دُرَّة نفيسة ضاع صاحبُها
في مدينة غوتا الألمانية التقينا “فراس كريمستي” أمين مجموعة المخطوطات الشرقية في مكتبة غوتا البحثية فقال: المكتبة موجودة في قاعة استقبال دوق غوتا في قصر غريدنشتاين، ويعود بناؤه للقرن الـ17، ويعتبر بلاط غوتا من أكثر البِلاطات تأثرا فلسفة الأنوار، أي الفلسفة التجريبية العلمية، وهنا ظهر أول مرصد فلكي في أوروبا، ولعبت “غوتا” دورا هاما جدا على مستوى أوروبا في المجالات الفنية والعلمية.

وقد تعاقب على غوتا في نهاية القرن الـ18 وحده حوالي 5 إلى 6 أنظمة سياسية مختلفة، كل واحد منها ترك بصمته الخاصة على المدينة وعلى مكتبتها العريقة. أما هذه النسخة الكنز، فتتكون من 10 فصول، في 94 ورقة، ويظهر فيها جمال الخط العربي المشرقي.
يقول “دانيال نيومان” أستاذ اللغة والثقافة العربية: أنا سعيد لرؤية نسخة من هذا الكتاب الذي عملت عليه عدة سنوات، وهي لحظة مؤثرة أن ألمس ورق هذا الكتاب بيدي، لأنني كنت اشتغلت على نسخة رقمية منه، إنها نسخة استثنائية، معنونة بوضوح في بدايتها “كنز الفوائد”، ولكن دون ذكر اسم المؤلف، ويليها في القسم الثاني “زهر الحديقة”، وكلاهما مهم، لأنهما يمثلان ما يمكن تسميته بتراث المطبخ المصري.
وصفة الكسكس.. وجبة أدخلها المهاجرون للمطبخ المصري
لكتاب “كنز الفوائد” فهرس محتويات واضح، ويمكن أن نحصي فيه 23 فصلا تحتوي عددا من المواضيع؛ منها المشروبات والطعام والعطور والمساحيق المستخدمة في تنظيف الأيدي ووصفات علاجية، ولكن مع الأسف سنجد أن المخطوطة ليست كاملة، وتنتهي عند الفصل العاشر؛ فصل الحلويات.

ولكن سنجد في الصفحة 42 وصفة مثيرة للاهتمام؛ إنها وصفة الكسكس، وليس غريبا أن تجد الكسكس في مصر، فالأكلات والوصفات قد هاجرت في البلاد كما هاجر أصحابها، وكما كنا نتحدث عن الأكلات التي هاجرت من المشرق إلى المغرب، فها نحن الآن نتحدث عن أكلة سافرت من المغرب إلى المشرق.

وكما يقول الباحث والمؤرخ الدكتور أحمد عبد الفتاح، فمصر على مرّ العصور كانت حاوية لثقافات البلاد والممالك من حولها، أو تلك التي هاجرت إليها واستوطنت فيها، وهي حافظة للتراث غير مضيِّعة، فكثير من الأكلات القديمة ما زالت تزين موائد المصريين إلى يومنا هذا.