رمضان في الموصل.. طقوس واحتفاليات

تقع مدينة الموصل شمال غرب العراق، وتتوزع على ضفتي نهر دجلة، وهي مركز محافظة نينوى، وتعتبر ثاني أكبر مدن العراق من حيث المساحة وعدد السكان بعد العاصمة بغداد، إذ يقطنها اليوم قرابة 5 ملايين نسمة، معظمهم من العرب السنّة، وتوجد بها أقليات كثيرة من الأكراد والأتراك والإيزيديين والتركمان، وبها مسيحيون من طوائف مختلفة.
وكانت على مرّ التاريخ حاضرة ثقافية مهمة، ومركزا تجاريا رئيسيا بين الشرق والغرب والشمال والجنوب على حدٍّ سواء، وكانت -مثلها مثل حلب في سوريا- طريقا للتجارة القديمة بين الصين وأوروبا، ونقطة رئيسية على طريق الحرير الشهير، وربما كان اسمها مشتقّا من هذه المكانة المرموقة التي تحتلها جغرافيا وتاريخيا. وهي تستقبل رمضان كبقية الحواضر العربية والإسلامية، فما إن يعلن عن ثبوت شهر رمضان حتى تُباشر هذه المدينة طقوس استقبال الشهر الكريم.

ضمن سلسلة “رمضان ومدينة” التي أنتجتها وتبثها الجزيرة الوثائقية في شهر رمضان، خصصت حلقة مُشوِّقة عن مدينة الموصل، استعرضت فيها أحوال أهل المدينة، وأنشطتهم وفعاليتهم المختلفة، في استقبال ووداع شهر الصيام.
هلال رمضان.. شهر التكبير والتهليل الذي لا تنام لياليه
عند ثبوت رؤية الهلال في الموصل تبدأ مآذن المدينة بالتكبير والتهليل وعبارات الترحيب بهذا الشهر الكريم، ويخرج الأطفال يملؤون الأزقة والشوارع صخبا وبهجة، يحملون بأيديهم فوانيس رمضان تعبيرا عن فرحتهم باستقبال شهر الصيام، ويخرج الكبار يعلِّقون مصابيح الزينة، ويحملون التمر وأنواع الحلويات يوزعونها على المارة ابتهاجا برمضان وإعلانا عن بدء الصيام من يوم الغد.

ويتحدث ميسَّر الشيخاوي، أحد وجهاء الموصل، قائلا: لا ينام الناس في ليالي رمضان، فبعد الإفطار مباشرة يخرج الأطفال إلى الأزقة والساحات، ويصلي الناس التراويح، وتتزاور الأسر ويسمر الكبار حتى يحين وقت السحور.
ويقول قصيد النجماوي الباحث في التراث الموصلي: في السابق لم تكن هنالك إمساكيات مطبوعة تخبرنا عن مواعيد الإمساك والإفطار، فكان المؤذن يصعد المئذنة، أو ينادي في مكبّر الصوت “احترام أمة محمد احترام”، يرددها ثلاثا، وتعني أن هذا هو وقت الإمساك عن الطعام.
تحضيرات رمضان.. بركات الشهر الكريم تنعش الأسواق
يعتبر باب السراي سوقا مشهورة في الموصل القديمة، تقصدها النساء لشراء لوازم الطبخ من البهارات والحبوب والسوائل المختلفة، إلى الخضراوات والفواكه واللحوم والتمور.

تبدأ تحضيرات رمضان قبل أسبوع من قدومه، فيذهب الناس إلى الأسواق لشراء الحاجيات الخاصة بأطعمة رمضان، مثل البرغل والجريش والرشتا، ويشترون الزبيب والتمر الهندي والعرقسوس وأنواع البهارات. وتشتهر الموصل بالمحلَّبيّة (المهلبية)، وهي نوع من الحلويات قادمة أصلا من حلب السورية، فلا تجدها في محافظات العراق الجنوبية، وهي تصنع من حليب الجاموس ونشاء الذرة وبعض المنكّهات.
كما لا يتوقف عمل المتاجر في رمضان لا ليلا أو نهارا، وهذا من بركة رمضان كما يصفه بعض التجار، وينتشر في السوق باعة العصائر والمرطبات، فيعصرون الزبيب بعد طحنه وخلطه بالنعناع، ليخرج منه شراب مرطِّب لذيذ، يتباهي به الموصليّون على جميع مدن العراق وغيرها.
“قربي منه يمنحني سكينة وطمأنينة”.. جامع الباشا
من معالم الموصل جامع الباشا الذي يشعر فيه المصلون بالطمأنينة والسكينة، فقد حافظ على تراثه القديم، حيث المنبر الشامخ والمحراب الخاشع، ومنذ أن سيطر تنظيم داعش على المدينة قام بتحطيم هذه المعالم في المساجد الأخرى، بحجة أنها بدعة. ويرتبط الجامع باسم الوالي حسين باشا الجليلي.

وقد ذكر الشيخ ذاكر الحساوي، إمام وخطيب جامع الباشا، قصة الرجل الذي كان لا يصلي، ثم انتقل من ضفة نهر دجلة اليسرى إلى الضفة اليمنى، وعندما سُئل عن السبب قال لهم حتى أكون قريبا من جامع الباشا، فقالوا له: ولكنك لا تصلي فيه، فقال: مجرد قربي منه يمنحني سكينة وطمأنينة لا أجدها في أي مكان آخر.
وتزيِّن الدولمة موائد إفطار الموصليين، وتتكون من ورق العنب المحشوّ بالأرز، والقثائيات الأخرى المحشوّة كذلك، ولا تخلو الموائد كذلك من العدس والقَلِيّة التي هي أكلات أساسية على مائدة الإفطار الموصلية، وقد يجتمع أهل الحي في الساحة عند الإفطار ويتشاركون طعامهم على مائدة واحدة.
ألعاب السمر.. تسلية وفكاهة وألحان من التراث الموصلي
يتسلّى الموصليون بألعاب تراثية مثل لعبة الفُرّ، وهي لعبة شعبية يلعبونها في رمضان بشكل خاص، وتقام لها دوريات خاصة في الأحياء بين فرق متعددة، وتتكون من مجموعة فناجين نحاسية مصفوفة على صينية مستديرة، ويخبئ فريقٌ قطعة معدنية تحت أحد الفناجين، وعلى الفريق الآخر العثور على القطعة بأسرع وقت.

وفي رمضان يكثر السمر والاستماع للأناشيد الدينية والموشحات، تؤديها فرق الإنشاد مصحوبة بالضرب على الدفوف. وهناك أيضا لعبة المحبس التي يكون الفريق فيها مكونا من عدد كبير من الرجال، ما بين 30 إلى 40 رجلا.
وتعتمد اللعبة تخبئة محبس أو خاتم معدني مع أحد الأشخاص في الفريق، ويكون مطلوبا من قائد الفريق الثاني الذي عادة ما يتمتع بالحدس والفراسة وسرعة البديهة، أن يحدد الشخص الذي يخبئ المحبس، ويعتمد عادة على الاستفزاز وإثارة أعصاب الفريق المنافس، حتى يرتبك الذي معه المحبس، وتبدو عليه علامات من يحاول أن يخفي شيئا، “يكاد المريب يقول خذوني”.

ومن فعاليات السمر في هذا الشهر الكريم الحكواتي، ويلقبونه في الموصل “القصة خون”، والكلمة الأولى عربية وهي القصة أو الحكاية، أما كلمة خون ففارسية ومعناها الراوي، وعادة ما تكون القصص من التراث القديم والأمثال العربية أو المحلّية، وتكون فيها حكمة أو رسالة يريد القاصّ إيصالها للمستمعين.
ومن أنشطة السمر “التنزيلات”، وهي الموشحات الدينية، ويُنسَب هذا اللون من الطرب إلى المُلّا عثمان الموصلي.
بطش الإرهاب.. أيادي السوء تصل إلى مرقد النبي
يتعلق أهل الموصل تعلُّقا خاصا بجامع ومرقد النبي يونس، وخصوصا خلال شهر رمضان، وهذا النوع من التقديس لا يختص بأهل الموصل تحديدا، بل بجميع أهل شمال العراق وحتى الأتراك، فإنهم يؤمّون هذا المكان للبركة، خصوصا في موسم الحج بالنسبة للأتراك، وقد عمد تنظيم داعش إلى تفجير جزء من المقام في يوليو/2014، أثناء سيطرتهم على مدينة الموصل.

يجتهد المهندس المعماري ميسّر نصير في تكوين صور افتراضية ثلاثية الأبعاد لمعالم مدينة الموصل، وخصوصا ما تعّرض منها للضرر بسبب الحرب، فيجمع صور ما بقي من هذه الأماكن، مع الصور التي يحتفظ بها أبناء المدينة قبل حصول الدمار، ويحاول بناء صور إلكترونية ثلاثية الأبعاد للمعالم، وترميم الأضرار إلكترونيا، لعله يأتي يوم ترمم فيه على الحقيقة.
“خلوها أجمل”.. مواساة الأيتام في العشر الأواخر
يحدثنا سلام زيدان عن الأعمال التطوعية، وهو من فريق “خَلّوها أجمل” التطوعي فيقول: ننشط في العشر الأواخر مع الأيتام، ففي كل يوم من العشر الأواخر نجمع مئة يتيم، بحيث يكون العدد الكلي الذي تعاملنا معه حتى نهاية رمضان هو ألف يتيم، يقضون معهم يوما كاملا، ويتركونهم يختارون ملابس العيد بأنفسهم، ويرسمون البسمة على جباههم بأنشطة ترفيهية تدخل السرور عليهم وتعوّضهم بعض ما فقدوه باليتم.

وفي أواخر رمضان تنشط النساء كذلك في صنع الحلويات الشعبية التي سوف تقدم في صباح عيد الفطر، وأشهر هذه الحلويات “الكليجا”، وهي عجين الدقيق أو السميد بأنواع من البهارات مثل حب الهال، ويحشى بالتمر وجوز الهند والجوز البني “عين الجَمَل”، ثم يُشوى بالفرن، وله رائحة زكيّة نفّاذة، ثم يرشّونه بالسكّر المطحون.

“الوداع الوداع يا رمضان، يا شهر الرحمة والغفران”
وليلة السابع والعشرين هي ليلة مشهودة في مساجد الموصل، وخاصة في مسجد الأمين الذي يقصده الشباب والشيوخ والنساء والأطفال، من كل أنحاء المدينة، وتجذبهم إليه أصواتٌ وحناجر شابّة، كأنها أوتيت مزامير داود في عذوبة صوتها، وهناك يصلي الناس التراويح ثماني ركعات، وينطلق بعضهم بعدها إلى المنازل والأسواق، بينما يعتكف الباقون في المسجد إلى ما بعد صلاة الفجر، يقرأون القرآن ويقومون الليل.

وفي ليلة العيد يصدح المؤذنون على المآذن: “الوداع الوداع يا رمضان، يا شهر الرحمة والغفران، يا شهر التسبيح والتهليل”، عبارات وداعٍ تهيّج في النفس الوحشة من الفراق والشوق إلى أن تتكرر هذه الليالي الربانية التي تنتشر فيها الرحمة وتعمّ فيها السكينة. وفي يوم العيد تنطلق تكبيرات المصلين من المساجد، على نسقٍ ومقامٍ واحد يتميز به أهل الموصل وهو مقام الجهاركاه المأخوذ من مقام العجم.

لقد ترك رمضان في القلوب غصة وحسرة على فراقه، لا يجبرها ويخفف وطأتها إلا قدوم عيد الفطر السعيد، وهو يوم الجائزة الذي قال فيه رسول الإسلام العظيم ﷺ: “للصائم فرحتان، فرحة عند فطره، وفرحة يوم لقاء ربه”. صدق رسول الله ﷺ.