موائد الأجداد.. آخر الأطعمة الأندلسية التي نجت من محاكم التفتيش

في هذه الحلقة من سلسلة “موائد الأجداد” التي تعرضها الجزيرة في شهر رمضان المبارك، يستكمل الدكتور المظفر قطز تاج الدين، الباحث في التاريخ الإسلامي، حديثه عن تراث المطبخ الأندلسي، ويستكمل قصته مع العلّامة الموسوعي ابن رزين التجيبي، ودرره المنثورة في كتابه “فِضالة الخِوان في طيبات الطعام والألوان”.

حروب الاسترداد.. أسطورة أفسدت مفهوم التعايش في الأندلس

يقول “باسكال بورسي” أستاذ تاريخ العربية والإسلام في المركز القومي الفرنسي للبحث العلمي: في هذا المكان الجميل كان يجتمع المسلمون والمسيحيون واليهود، يناقشون الفلسفة وأمورا أخرى، لكن الأمور لم تكن دائما بهذه السهولة، ويجب أن نستوعب أن الأندلس على مرّ العصور كان يغلب على سكانها العنصر المسيحي، مع أقليات من اليهود والطوائف الأخرى وأن الأقلية المسلمة حكمتها لعدة قرون، ويتمتع الآخرون بوضعية “أهل الذمّة”.

وكان يُتعامل معهم بتسامح أكثر، فلهم أن يبنوا كنائسهم ومعابدهم، ويمارسوا شعائرهم بشرط عدم الثورة على الخليفة، ثم جاءت فترة حكم البربر والموحدين والمرابطين التي اتسمت برؤية أكثر تشددا.

خاض المسيحيون الإسبان حروب الاسترداد ظنا بأحقيتهم بالأرض من المورسيكيين

يقول “جاستن بينافيديز” الباحث في التاريخ الإسلامي بجامعة غرناطة: حملات الاسترداد هي مجرد فكرة، ولا وجود لها في التاريخ، وتستند إلى أحقية أهل البلاد الأصليين باستعادة الأرض لأنفسهم ولدينهم بشكل خاص، وهذا ما لم يحدث في الحقيقة، لكن الهجوم بدأ من الشمال، وتحرك تدريجيا نحو الجنوب، حتى تساقطت مدن الأندلس الواحدة تلو الأخرى.

ويقول الأستاذ “باسكال”: في مصطلح “الاسترداد” تناقض كبير، فالمؤرخون الحاليون يقولون إن المسيحيين استعادوا طليطلة وقرطبة وإشبيلية، وفي الواقع فإن “حروب الاسترداد” مبنية على فكرة تبلورت في القرنين الـ12 والـ13، وبالأخص لدى أسقف طليطلة “خيمينيز دي رادا”، فهو الذي طوّر الأسطورة القوطية بأن هذه القوات الغازية هم أحفاد ملوك القوط الغربيين الذين عاشوا هنا قبل الفتوحات الإسلامية.

سقوط مرسية، خرزة من عقد المدن الأندلسية التي سقطت في أيدي الإسبان في حروب الاسترداد

وهذه مجرد أسطورة، فالحكام القادمون من فرنسا وقواتهم هم بورغونيون، وليس لهم أي علاقة بالقوط، بل إنهم قاتلوا أحفاد القوط الأصليين، الذين هم الموريسكيون العرب، سكان الأندلس الذين تعربوا بعد الفتح الإسلامي، وهم من حافظوا -بالعربية- على شعائر الكنيسة القوطية التي محاها الغزاة الفرنسيون، وأبدلوها بالرومانية الكاثوليكية الرسوليّة، باسم الإصلاح الغريغوري.

عائلات الموريسكيين.. آخر المتشبثين بماضي الأندلس البهيج

لم يقتصر الأمر على معاناة المسيحيين المستعربين، فبسبب التدخل الكاثوليكي تفتت المجتمع الأندلسي، وظهر المجتمع الموريسكي بعد سقوط غرناطة على يد “فرديناند وإيزابيلا” في 1492، عندما أجبر فرديناند الجميع على التحول إلى الكاثوليكية، فتحول البعض طوعا، وبعضهم ظاهرا، وحافظوا على إسلامهم في الباطن قدر الإمكان، ومنهم اليوم عائلة روميرو وروزاليس.

لوحة فنية تشرح كيف تم طرد المورسكيين من بلادهم رغم أنهم أصحاب أرض

ومن هؤلاء نلتقي “ميمونة روميرو”، وهي سيدة أعمال في مجال الطعام الحلال في الأندلس، وتقول: السلام عليكم، مرحبا بكم في الأندلس، أسلمت منذ 44 سنة، عندما كانت هناك حرية أديان في إسبانيا، ودرستُ اللغة العربية، وسامحوني على لغتي الركيكة. تتحدد ثقافة المجتمع بفنّ الطهي لديه، أريد أن يتعرف المسلمون الأندلسيون على جذور ثقافة الطهي الأندلسية، باستعادة الوصفات القديمة.

“ميمونة روميرو”، سيدة أعمال في مجال الطعام الحلال في الأندلس

فعلى أرض الأندلس اجتمع المسلمون مع المسيحيين واليهود، في مجتمعات غلب عليها التعايش والسلام، على أنها شابتها أيام سوداء من النزاع الطائفي، تشهد على ذلك الفتنة الأندلسية الكبرى التي بدأت بانهيار حكم الأمويين، وقد كان المسلمون في الأندلس يحتفلون مع المسيحيين واليهود برأس السنة الميلادية، ويطبخون لها أطباقا خاصة، منها المثوَّمة” التي ذكرها ابن رزين في كتابه.

اسفنجة القلة، حلويات أندلسية بالعسل ورد وصفها في كتاب ابن رزين

وكانت توقد النيران في كل منزل، وتتزين الموائد بالثومية، وهي مكونة من ثريد دسم مخصص لإثارة الدفء في تلك الليلة الباردة، ومكونات متاحة في كل منزل، كالدجاج والجبن المعتّق والدقيق والجوز، وغالبها من المواد طويلة التخزين أو المتوفرة على مدار العام، والدجاج مشهور في كتاب ابن رزين، أفرد له 45 وصفة رئيسية، حتى لا يكاد يخلو طبق أندلسي من بيض أو دجاج.

“المثومة” كما يصفها ابن رزين في كتابه

تقول ميمونة: لا أعرف ما إذا كانت الأطباق الأندلسية التقليدية ما زالت متبعة في يومنا هذا، ولكن الثومية مشابهة لطبق الجازباتشو الممزوج بصلصة البيض، الأغلب أنه جرت عليه تعديلات وأصبح مثل وصفة الديك الرومي المحشو الذي يستخدم في الأعياد، أظن أنه كان طبقا اجتماعيا، وليس له علاقة بالأديان، وقد أُدخل الديك الرومي بعد جلبه من أمريكا، فالطبق الأصلي ما زال يحضر من قطع الخبز والدجاج، قد يكون الاسم تغير كليا، لكن الوصفة هي نفسها.

حلوى الإسفنجة.. كرات الذهب التي تزين مقاهي الأندلس

ما زالت أسر أندلسية قليلة تحتفظ بتقاليدها وروائح ونكهات مطبخها الأندلسي القديم، وكما حافظوا عليها في اللحوم فقد حافظوا عليها في الحلويات أيضا. وبقدر ما يدعو تاريخ الأندلس إلى الفخر والبهجة، فإن فيه ما يدعو إلى الأسى والحسرة، وقد يكون هذا لسان كل من زار الأندلس من العرب والمسلمين، أو يعيش فيها الآن.

الإسفنجة، أو “البنوويلو” حلوى تقدم في مقاهي الأندلس على شكل كرات ذهبية وتشبه لقمة القاضي

ما زال الأندلسيون يقدمون حلويات تقليدية في الأعياد تعود إلى 6 قرون خلت، وقد حفظت وصفاتها في الأديرة، فكثير من الناس لم يتمكنوا من الهروب، وكثير أيضا فضلوا البقاء بمنازلهم، أو بقوا في الأديرة حفاظا على سلامتهم. والنساء أصبحن راهبات في الأديرة، وكنّ يعلمن الأخريات كيفية صنع الحلويات، وما زالت هذه المنتجات تباع في الأديرة حتى الآن، وتصنع بطريقة يدوية.

فما زلت ترى حتى الآن تلك الحلوى تقدم في مقاهي الأندلس على شكل كرات ذهبية، وهي نفسها لقمة القاضي في مصر، أو اللقيمات في العراق، أو العوّامة في بلاد الشام، وعرفوها في الأندلس باسم الإسفنجة، أو “البونويلو”، وهي بنفس مكونات الحلوى العربية وطريقة إعدادها، وذكر ابن رزين عدة وصفات للإسفنجة، من حيث شكلها وحشوها باللوزيات، ونوع العسل الذي يرشّ عليها.

محاكم التفتيش.. سيوف اضطهدت الموريسكيين حتى وقت قريب

تقول ميمونة: إذا سألتني: هل كان المورسكيون يتمتعون بحرية التعبير بعد سقوط غرناطة، وهل كانت لهم تسهيلات خاصة؟ حسنا، كان هذا هو المقترح في البداية، هنالك اتفاق مع الملوك أن المدينة لن تعاني بعد سقوط الأندلس، وأن تكون قادرة على الاحتفاظ بلغتها العربية وعاداتها وصلواتها وأطعمتها الحلال بدون عراقيل وصلواتها في المساجد، ولكن مع الأسف كان كل هذا حبرا على ورق.

محاكم التفتيش التي سنها الإسبان لتعذيب كل من تثبت عليه تهمة الإسلام أو ممارسة طقوسه

أما في الواقع فقد نشأت محاكم التفتيش خصيصا لاضطهاد المورسكيين، ولمعرفة أي منزل أو عائلة بقيت على صلة بالإسلام، أو أي علاقة تربطه بماضيه. ومع الأسف بقيت قوانين محاكم التفتيش إلى فترة قريبة جدا لقد عايشتُها عندما كنت طفلة صغيرة، يذبح الخنزير عند باب المنزل لتأكيد أن الأسرة ليست مسلمة، إما أن تفعل ذلك أو تخسر حياتك. ثم أجبروهم على التنصر.

ويقول “دانيال نيومان” أستاذ اللغة والثقافة العربية بجامعة دورهام: كان على المورسكيين الذين يريدون البقاء في منازلهم أن يتنصروا، وبعضهم اختار الانتقال جنوبا إلى مدينة مسلمة، وعندما وصل هناك علم أنها لا محالة ستسقط، وبعضهم اختار عبور مضيق جبل طارق، ولم يكونوا جميعهم من المسلمين، بل هنالك النصارى واليهود.

المسلمون يسلمون معاقلهم ومدنهم للإسبان بعد سقوطها واحدة تلو الأخرى

وتحدثت ميمونة قائلة: إذا سألتني إن كانت غرناطة وجميع الأندلس سقطت في يوم واحد، فالجواب بالطبع لا، فهذه الحضارة العظيمة لم تسقط في يوم أو يومين، وأرى أن السبب الرئيسي في سقوطها هو الاختلافات السياسية بين قادتها وملوكها، لا أحفظ التواريخ والأسماء، لكن الأمر حصل تدريجيا خلال سنوات، لقد انقسم المسلمون، فضاعوا.

هجرة ابن رزين.. محاولة إنقاذ التراث المنهوب بين السطور

وقعت مرسية في يد الإسبان، وهاجر ابن رزين مع غيره إلى الساحل الآخر من البحر، هناك لم يعد يلقى وجها مألوفا يشاركه الذكريات، أو يُفتح له باب يعيد إليه روائح المطبخ الأندلسي الذي فارقه، ذاكرته تشده إلى الوراء، ولكنه استطاع مقاومة الغربة فأنشأ مطبخه الذي يعيده إلى ذكريات الوطن المسلوب، ويحفظ عليه رائحة بيته المنهوب.

هاجر ابن رزين مع غيره إلى الساحل الآخر من البحر (سبتة) فأنشأ مطبخه الذي يعيده إلى ذكريات الوطن المسلوب

يقول “نيومان”: ينحدر التجيبي من أسرة موقرة فيها العلماء المشهورون، فنشأ نشأة دينية ملتزمة، وكان يمكن أن يكون له مستقبل علمي باهر في مرسية، ولكن كل شيء تغير مع هجرته، وما تأليفه لكتابه هذا عن فن الطبخ إلا محاولة لحفظ ماضيه وتراثه بين السطور، ذلك التراث الذي انتزع منه بقسوة لدى إجباره على الهروب، وانتهى به الحال في سبتة.

وقد اختار الدكتور المظفر قطز تاج الدين، أن ينهي هذه الحلقة المثيرة للشجن والأسى، بأبيات للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، ولعله أحسن الاختيار، فهجرة ابن رزين القسرية عن موطنه تشبه تشريد شعب فلسطين بأكمله، وانتزاع أرضه عنوة:

القمح مُرٌّ في حقول الآخرين.. والماء مالحْ
والغيم فولاذٌ.. وهذا النجم جارحْ
وعليك أن تحيى وأن تحيى وأن تعطي مقابل حبة الزيتون.. جلدكْ
كم كنتَ وحدَكْ
وعليك أن تمشي بلا طرقٍ
وراء أو أماما أو جنوبا أو شمالْ
وتحرِّك الخطوات بالميزان.. حين يشاء من وهبوك قيدكْ
ليُزيِّنوك ويأخذوك إلى المعارض.. كي يرى الزوّار مجدك
كم كنت وحدكْ


إعلان