“وادي الخرسانة”.. طبيب وعاشق سوري يتيه عن نفسه في المهجر الكندي

بأسلوب فني يتأرجح بين الدراما والتسجيل، يغوص الفيلم الروائي الكندي “وادي الخرسانة” (Concrete Valley) للمخرج “أنتوان بورجيه” في عالم مهاجرين سوريين من الذين وصلوا إلى كندا بعد ما حدث في بلدهم، وما زالوا يحاولون أن يثبتوا أقدامهم في البلد الجديد.
تسكن شخصيات الفيلم في بيوت صغيرة في حي على أطراف مدينة تورنتو، وهو الحي الذي أصبح معروفا بكونه منطقة سكنية انتقالية للاجئين والمهاجرين الجدد للبلد، يسكنون فيه بعد انتقالهم إلى كندا، وقبل أن يقوى عودهم ويغادروه إلى وجهات جديدة.
وإلى جانب البناء الفني الذي يقترب من المراقبة التوثيقية في عدد من المشاهد، استعان الفيلم بممثلين غير محترفين، منهم من يقف أمام الكاميرا للمرة الأولى في حياته، ويضيف أداؤهم المبالغ فيه حينا والمتخشب أحيانا أخرى، لمسة إلى طبيعة الفيلم الخاصة الهجينة، بحيث يكون لهذا الأداء دور في تكريس غربة الشخصيات الروحية وتعثرهم في إيجاد لغة جديدة للعالم الغريب الذي انتقلوا إليه.
رشيد.. طبيب سوري بحي المهاجرين في كندا
قضى المخرج شهورا طويلة في حي المهاجرين هذا، وتقرّب من بعض ساكنيه، واطلع على أنساق التجارب الاجتماعية والشخصية التي تتكون بفعل المحيط الجديد، والمعضلات الذاتية والجماعية التي واجهت البعض، وكذلك التفاعلات التي قادت إلى نجاحات وظواهر، مثل الاقتصاد المستديم ذاتيا الذي ينشأ في العادة في أحياء المهاجرين وتعاونهم مع بعضهم، ويأتي استجابة أحيانا للعزلة التي يعيشون فيها.
يقع حي المهاجرين فيما يشبه الوادي، وتفصله حديقة كبيرة عن باقي المدينة، ومنها يبدأ الفيلم، إذ نراقب في مشاهد بدت غامضة السوري رشيد الذي كان يتمشى وحيدا بلا هدف، بعدها نراه في بيته بعد أن صحا من نومه، حيث كان نائما على أريكة في غرفة ضيوف شقته الصغيرة، وبدأت استعداداته لإيصال ابنه الصغير إلى المدرسة.
يعيش رشيد (الممثل السوري الهاوي حسام دوحانا) مع زوجته فرح وولده الصغير في شقة من شقق حي المهاجرين الصغيرة الفقيرة الأثاث، وهو لا يعمل في كندا، رغم أنه كان طبيبا في سوريا، وأما زوجته التي كانت ممثلة مسرحية في بلدها فهي تعمل في مجمع تجاري.
يعاني الطبيب رشيد من ابتعاده عن مهنته، فتراه يوزع النصائح الطبية على الذين يقابلهم في الحي، وفي مدرسة تعلم اللغة الإنجليزية التي يدرس فيها مع مهاجرين مثله، أما الوقت الباقي فيقضيه مع ابنه الذي يوصله إلى المدرسة، أو في قتل الوقت في شقته الصغيرة، أو في حي المهاجرين الذي يختنق بقصص الماضي العنيف لأبنائه، وأحلامهم المؤجلة لأسباب عدة في البلد الجديد.
رشيد وفرح.. حُب في سوريا وتنافر في كندا
بدون دراما فاقعة وبإشارات سينمائية تتلاءم مع البناء الفني الخاص بالفيلم، تتكشف بطيئا الأزمة العاطفية بين الزوجين، فالزوج ينام أحيانا في صالة البيت وليس في السرير مع زوجته، وحتى اللقاء الجسدي النادر بينهما بدا قاسيا وأقرب لفتح جرح عميق، إضافة إلى أنه ينتهي بعد عجز الزوج المفاجئ، ليرمز هذا العجز الجنسي إلى اضطراب علاقة البطل التي تقترب من الفشل مع المجتمع الجديد.
بدت فرح (الممثلة السورية أمينة إبراهيم) في مكان أفضل من زوجها، من حيث علاقتها بالبلد الجديد، لكنها أيضا تعاني من تبعات الماضي الذي لم تتصالح معه بعد، فهي ترفض أن تنظر إلى صورها القديمة عندما كانت ممثلة في سوريا، فتقول لجيرانها المصريين الذين يريدون معرفة المزيد عن تاريخها بحزن يخيم على وجهها: أشعر أنني امرأة أخرى، وأن هذه التي في الصور ليست أنا.
بدا أن السنوات السالفة للزوجين في كندا قد باعدت بينهما، وهما اللذان ربطهما الحب في الماضي، فهما يقفان اليوم في مكانين مختلفين، إذ يعيش رشيد في الماضي، بينما تسعى فرح أن تمد حبال تواصل مع المكان الجديد والمستقبل، رغم أن عملها الحالي متطلب كثيرا، ولا يناسب شخصيتها أو حياتها السابقة في سوريا وما حققته هناك.

لا يتصادم الزوجان كثيرا، لكنها يبتعدان بثبات عن بعضهما، ولا تتقاطع طرقهما كثيرا في الحياة اليومية، وعندما تتقاطع ينفران من بعضهما مجددا، مثل ذلك المشهد الذي نقلت فيه الزوجة قصة من عملها عن زبون نقدها بعنف، لأنها وصفت منتج تجميل لم يرق لزوجته، وسبّب لها مشاكل في وجهها، فكان رد رشيد بأن كان عليها أن تنتبه وتقرأ ما يوجد على علبة المنتج قبل أن تنصح به.
عالم المهاجرين.. تصدّعات وفجوات بين البطل ومحيطه
لا ترتبط مشاهد الفيلم مع بعضها بصورة واضحة، أو تتصاعد الدراما ضمن البناءات السردية السينمائية المعروفة، وحتى المشهد الواحد لا يبدو أحيانا أنه يسير إلى وجهة ما، بل أقرب إلى الدوران على النفس، مثل ذلك المشهد الطويل لصف رشيد الذين كانوا يتابعون فيديو تعليميا يعينهم على دراستهم للغة الإنجليزية، أو عندما بدأ رشيد بتناول الكعك مع ابنه وزميل دراسة له.
يمثل مشهد مدرسة اللغة نموذجا على أسلوبية أو مناخات الفيلم الخاصة، إذ يبدو في المقام الأول أن المشهد متوقف في تلك اللحظة الزمنية، وخال من القيمة الدرامية أو التسلسلية، بيد أن التمحيص في المشهد يعزز شعور الاستلاب والتغريب الذي تعيشه الشخصية الرئيسية، وغرقها البطيء في المشهد اليومي الممل.
تنفجر الكوميديا أحيانا من مشاهد المراقبة التسجيلية الخاصة، كالمشهد الطويل الآخر من صف رشيد، إذ سيأخذ وجهة محرجة عندما طلبت المعلمة الكندية من طلابها تذكر لقائهم الأول مع شريكهم ورواية ذلك باللغة الإنجليزية.
يطلب رشيد من زميله السوري باللغة العربية أن يتذكر لقاءه الأول مع حبيبته، لأنه لم يفهم كلام المعلمة، لكن استخدام كلمة حبيبة وبعدها شرح رشيد لغاية السؤال يثير حفيظة السوري المحافظ ويثير غضبه.
يتشارك رشيد مع زميله السوري من مدرسة اللغة رحلة بالسيارة لشراء غرض مستعمل من امرأة تعيش في الريف، ولا يبدو أن الحديث بين الرجلين السوريين يتجه إلى مطارحة أو كشف خاص، فهما يتبادلان حوارات تندرج تحت الحوارات التقليدية، لكن مرة أخرى يركز هذا المشهد على الفجوة التي بدأت تتكون بين رشيد ومحطيه، وتصدع في عالم المهاجرين الذي تنطوي تحته الشخصية الرئيسية التي هي على وشك مغادرته.
الجارة الأفريقية.. دفء عاطفي يضيع في فسيفساء الفيلم
تتسع الفجوة بين الزوجين عبر زمن الفيلم، فرشيد لا يعرف أن زوجته منشغلة بالعمل التطوعي في الحي الذي تعيش فيه، وهو الأمر الذي أخفته عن زوجها، بل إنه يُصدم كثيرا عندما يقابلها في الشارع صدفة مع مجموعة من المتطوعين ينظفون الحي من الأزبال.

كان رشيد يقضي الكثير من وقته في شقته، لكنه بدأ يتقرب من جارة أفريقية، نشأت علاقته بها عندما أحب مساعدتها بعد كسر رجلها. وفي سلسلة مشاهد طويلة لا تختلف عن مناخات الفيلم العامة، كان رشيد يتقرب إلى المرأة الأفريقية التي يبدو أنها أعادت بعض الشغف الغائب عن حياته، لكنه علاقتهما تنتهي قبل أن تبدأ، لأسباب غير مفهومة، من دون أن تهز عالم الشخصية الرئيسية، بل إن الحادثة تكاد تكون مجرد قطعة صغيرة تكمل فسيفساء الاستلاب الروحي لها.
يحافظ رشيد على جاذبية سينمائية غامضة، يصعب تحديد مصدرها بالكامل، إذ ربما تعود إلى الطبقات المتعددة التي تؤلف عالمه، ويقبض الفيلم على بعض تفاصيلها، والطبيعية التوثيقية للعمل، وكذلك الأداء الخشبي للممثل حسام دوحانا الذي لعب دوره بدون الدراما المتوقعة.
أصبح رشيد خاليا من الأحلام الكبيرة، كما وصفته زوجته في أحد الحوارات القليلة التي تبادلاها، ورشيد المثقف الآتي من طبقة اجتماعية متوسطة هو حبيس لغة البلد الجديد التي لا يجيدها بالكامل، وحبيس الوضع الجديد الذي يرغمه على العيش في محيط لا يستسيغه بالعام.
“أنتوان بورجيه”.. لمسات المخرج الآتي من خلفية مهاجرة
يُحقق المخرج “أنتوان بورجيه” فيلم مناخات غير مألوف عن حياة المهاجرين إلى البلدان الغربية، وقد تناولتها السينما الفنية في دول غربية مرارا، لكن المخرج لا يقع في فخاخ الموضوعات العاطفية، بل كان عنيدا في طبع روحه السينمائية الخاصة على الفيلم منذ المشهد الأول الذي يبدو وكأنه يصور رجلا تائها، وإلى المشهد الختامي الطويل، وقد تميز بنهايته المفتوحة التي تنسجم تماما مع المناخات الخاصة بالفيلم.
ينقل المخرج روح المكان الخاصة للمحيط الذي تعيش فيه شخصيات الفيلم، سواء على صعيد التصوير في الأماكن الفعلية بحي المهاجرين، كالتفاصيل الدقيقة مثلا عن تقشف الأثاث في شقق المهاجرين، مما يُشير إلى اضطراب وخواء المرحلة الانتقالية لأزمانهم الأولى في البلد الجديد، كذلك يختار المخرج استخدام أصوات الحي نفسه، وامتناعه تماما عن الاستعانة بموسيقى تصويرية.
والمخرج نفسه آتٍ من خلفية مهاجرة، فقد وُلد لأب فرنسي وأُمّ أفريقية، ومرَّ بالمحطات المعروفة التي يمر بها المهاجرون كدراسة اللغة الإنجليزية، وهذا الفيلم هو العمل الطويل الثاني له بعد فيلمه الأول “الفشل في الظهور” (Fail to Appear) الذي أنتج عام 2017 ونال ثناء نقديا كبيرا، واشتركت في كتابة فيلم “وادي الخرسانة” السورية المهاجرة تياما الكمالي التي تقف وراء الفيلم الوثائقي الكندي “هوكي موم” (Hockey Mom) الذي عُرض في عام 2017.