موائد الأجداد.. رحلة مخطوطات الطبخ العربية من القاهرة وحلب إلى أوروبا

تستمرُّ الحكاية، وتفوح الروائح الزكيّة والنكهات الطيبة من بلاط العباسيين في بغداد، لتحطّ رحالها في حواضر الأندلس العليّة، من قرطبة إلى إشبيلية، وعندما هبّت نيران الحقد الكاثوليكي هربت جنوبا إلى مرسية، وعبرت البحر إلى سبتة، ثم إلى بجاية وتونس، وحطّت رحالها في الشرق ثانية، وهذه المرة في القاهرة المحروسة وحلب الشهباء.
في هذه الحلقة من سلسلة “موائد الأجداد” التي تعرضها قناة الجزيرة الوثائقية خلال شهر رمضان المبارك، سوف تتنقل بنا الكاميرا بين غوتا في ألمانيا وبين القاهرة وحلب، فقد وفّرت الفترة المملوكية المستقرة لهاتين الحاضرتين مكانة مرموقة في شبكة التجارة الدولية آنذاك، مما أهّلهما لتكونا مركز إشعاع ثقافي على مختلف المستويات، بما فيها المطبخ الراقي الزكيّ.
“أولريخ ياسبر زيتسن”.. رحلة لجلب الكنوز من الشرق
يتساءل المظفر قطز تاج الدين الباحث في التاريخ الإسلامي: منذ ابتدأت رحلة موائد الأجداد وأسئلة كثيرة تتراكم في خاطري، لماذا نطوف كل أوروبا شمالها وجنوبها، شرقها وغربها، من أجل أن نطلع على تراثنا العربي الإسلامي؟ لماذا هلسنكي وبرلين وإسبانيا وغوتا؟ لماذا المخطوطات العربية عند أناس ليسوا عربا؟ لكن عندما وصلنا إلى مخطوطة “كنز الفوائد” في غوتا، وجدنا هناك إجابات كثيرة عند المستشرق والرحالة “أولريخ ياسبر زيتسن”.

يقول فراس كريمستي، أمين مجموعة المخطوطات الشرقية في مكتبة غوتا البحثية: “زيتسن” هو طبيب، درس الطب وانتقل إلى مدينة غوتنغن القريبة من غوتا ليتابع دراسة الطب، وتعرف هناك على عالِم الطبيعيات الشهير “بلومن باخ”، فأيقظ في نفسه علوم الأنثروبولوجيا، وأجج في نفسه حب القارة الأفريقية ودراسة أهلها.

وقد جمعه القدر بدوق غوتا، فأبدى اهتمامه بتمويل رحلته إلى أفريقيا، على أن يشتري له ما يستطيع من مخطوطات الإمبراطورية العثمانية، وحين وصل إلى إسطنبول في 1803 اشترى عددا من المخطوطات وأرسلها إلى غوتا، وقد استطاع الحصول على 2500 من المخطوطات الفارسية والتركية والعربية، وشكّلت نواة المجموعة الشرقية في غوتا. ثالث أكبر مجموعة في ألمانيا.
أيام الحملة الفرنسية.. فوضى أخرجت النفائس من مخابئها
كان “زيتسن” يسجل رقم الكتاب وتاريخ شرائه والمدينة التي اشتراه منها، وقد اشترى أكثر الكتب من القاهرة، إذ وصل إليها في مايو/أيار1807، بعد بضع سنوات من الحملة الفرنسية على مصر بقيادة “نابليون”، تلك الحملة التي تركت آثارا سياسية وثقافية وأمنية على مصر، وخلّفت وضعا اقتصاديا متردّيا على أهلها، مما دفع كثيرا من أصحاب الكتب للتخلص من كتبهم في سبيل الحصول على بعض المال.

كما أن الانفلات الأمني في البلاد قد دفع ببعض الكتب القيّمة الثمينة أن تُخرَج من مخابئها الدينية الحصينة، وتكون عرضة للبيع، ربما بأبخس الأثمان، من قبل أناس لا يملكونها ولا يقدّرون قيمتها العلمية، وهذا قد يفسر لماذا وصل أكثر من 1600 كتاب خلال أقل من عامين من القاهرة وحدها إلى يد “زيتسن”، ثم إلى غوتا.
يدرك القارئ لمذكرات “زيتسن” أنه كان على علاقة بعبد الرحمن الجبرتي المؤرخ المشهور، الذي كان أيضا يتاجر بالكتب، فقد ذكر “زيتسن” أن كتبه كانت قيّمة ولكنها غالية جدا، بل إن 6 مخطوطات في غوتا الآن تحمل اسم حسن الجبرتي والد عبد الرحمن.
طريق الحرير.. رحلات التجارة البرية والبحرية إلى مصر
يقول حسام إسماعيل أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة عين شمس: كانت المنتوجات تصل إلينا بواسطة طريق الحرير الدولية، أي من الصين مرورا بالجمهوريات الإسلامية الروسية كازاخستان وأوزبكستان وغيرهما، ثم إلى إيران وشبه القارة الهندية، ثم إلى العراق وبلاد الشام وتحط أخيرا في مصر، كالحرير والمنتجات الخزفية الصينية والتوابل والمنسوجات القطنية والبخور.

وكانت مصر ممر عبور لهذه البضائع إلى أوروبا والمغرب، ولا ننسى الطريق البحرية كذلك، فقد كانت موازية لطريق الحرير في أهميتها، فموانئ أوروبا على البحر المتوسط كانت تصل إليها البضائع من مصر، ومصر تكون قد وصلت إليها عبر البحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي من بلاد ملاوي وإندونيسيا ثم الصين.
وبالإضافة إلى البضائع، كانت طرق التجارة تنقل معها الثقافة والعادات والأديان، وهذا يفسر لماذا أصبحت أندونيسيا أكبر تجمع للمسلمين على مستوى العالم، كان ذلك بفضل التجّار الكارمية.
تجار الكارم.. ملوك الموانئ ورجال أعمال العصر
فالكارمية هم مجموعة من التجار أو المتحكمين بحركة التجارة موجودون في كل ميناء أو منطقة مؤثرة في حركة التجارة، وكان تجار الكارم هؤلاء يكسبون الكثير من الأموال، ويدفعون بالمقابل الكثير من الضرائب، ورغم ذلك كانوا مستمرين في أعمالهم، يكسبون الكثير من المال، وينفقون الكثير منه في وجوه الخير، مثل إقامة السبل والتكايا والمرافق الإجتماعية الأخرى والإنفاق على الفقراء.

ويمكن تمثيل الكارمية اليوم بمكاتب الدعم اللوجستي للتجار، من سندات تأمين إلى خدمات شحن، إلى الفنادق والخانات لراحة التجار ودوابهم، وحتى شبكات الأمن والحراسة، وهم موجودون في نقاط التجارة المهمة، ويتواصلون فيما بينهم عبر شبكات اتصالات داخلية. وبواسطتهم تشبعت السوق المصرية بكل ما تحتاجه من المنتوجات الشرقية والغربية.
وبسبب كون القاهرة مركزا تجاريا عالميا، فقد استقرت فيها أجناس مختلفة من البشر، منهم الأوروبيون والأفارقة والمشرقيون وأهل الشام، وجلب كلٌّ من هؤلاء ثقافته ومطبخه وأكلاته إلى القاهرة، ومن هنا يمكن تصنيف كتاب “كنز الفوائد” وكأنه قائمة طعام دولية (International Menu).
ليالي المقابر.. وجبات وطقوس خاصة للتصدق عن الموتى
المخفيّة هي وجبة يُخفى فيها صفار البيض المسلوق، ويكون على شكل كرة، باللحم المفروم أو المدقوق، وتقلى هذه الكرات في السمن أو الزيت، ويكون اللحم كامل القطع، وهو يطبخ أولا، ثم يشوَّح مع حب الحمص في زيت أو سمن، وتوضع في وسطه الكرات المقلية سابقا، وترش بأوراق الكزبرة.

وحتى المقابر “القرافة” في القاهرة كانت لها أكلاتها الخاصة وطقوسها المميزة، فكانت هنالك مخبوزات معينة أو أطعمة يعدّها المصريون في بيوتهم، ثم يذهبون بها إلى القرافة للتصدق عن أرواح أمواتهم، وكان الناس يقصدون المقابر للتنزه، بل يبيتون فيها ومعهم طعامهم وشرابهم.
وقد اختار المصريون أولا جبل المقطم مقبرةً لجفاف تربته، وقد دفن فيه كثير من الصحابة والتابعين والأولياء والصالحين، منهم عمرو بن العاص وعقبة بن عامر والليث بن سعد والإمام الشافعي وابن العديم العُقَيلي الحلبي وغيرهم، وظهرت آنذاك كتب الإرشاد السياحي لزيارة قبور الأولياء والصالحين.
مطبخ حلب.. روائح ونكهات وأدوية في سرة العالم
يعود أصل ابن العديم إلى حلب، وقد عاش في بدايات العصر المملوكي، وهو عالم موسوعي تعكس أعماله طبيعة عصره، وكان فقيها بمسائل التجارة، فقد كانت حلب مدينة تجارية بامتياز لوقوعها على طريق الحرير، وكان بيته بيت علم وضيافة وكان يقدم الطعام الحلبي، وله إلمامة بالمطبخ الحلبي.

أخذت حلب مكانتها لأنها كانت تتوسط حضارتين مختلفتين، كلتاهما مرتبطة بها جغرافيا، أوروبا من الغرب، وبلاد ما بين النهرين وما وراءها من الشرق، وكانت ملتقى الطرق التي تربط بلاد فارس ببحر إيجة أيضا، وقد أكسبها هذا الموقع الجغرافي المهم مركزا متميزا بين مدن بلاد الشام، ومدن السلطنة العثمانية جميعها لاحقا، وكانت المدينة تهتم بكل ما يصل إليها من المواد.
نشأت في حلب طبقة من العلماء الذين يهتمون بهذه البضائع من العطارين والأطباء والكيميائيين، وبدأوا يعيدون تصنيع بعض المواد الأولية القادمة إليهم من الشرق، فصنعوا منها الأدوية، وكان الأطباء العرب يحبون أن يحولوا أدويتهم إلى طعام ليسهل على المريض تناولها، فظهرت في حلب ألوان جديدة من الطعام لم تألفها مدن أخرى في المنطقة.

وقد استخدموا الطيب والزعفران والمسك وماء الورد في نكهاتهم، فظهرت في المطبخ الحلبي الرائحة الزكية والمذاق الحلو الفريد، وكل هذا تجده في كتاب ابن العديم “الوصل إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب”، وهذا الكتاب سيكون موضوع الحلقة القادمة التي ستكشف عن رحلة الكاتب من حلب إلى القاهرة، ورحلة كتابه الذي استقر به المقام في غوتا بألمانيا.