رمضان في جيبوتي.. صلوات ووجبات وتكافل وبهجة في بلد الأعراق الثلاثة

جيبوتي بلد عربي مسلم، وعضو في جامعة الدول العربية، يقع على الجانب الأفريقي من مضيق باب المندب قبالة اليمن، وصل إليه الإسلام قديما منذ فجر الدعوة، بعد الهجرة الأولى التي هاجر فيها الصحابة رضي الله عنهم إلى أرض الحبشة.

في هذه الحلقة من سلسلة “رمضان ومدينة”، تطوف بنا كاميرا الجزيرة الوثائقية في أحياء العاصمة جيبوتي، وعلى ساحل البحر حتى خليج تاجورة، تسجل لنا يوميات المسلمين في شهر رمضان الكريم، وترصد عاداتهم وتقاليدهم في استقبال هذا الشهر، وما يعدّونه من الصلوات والأذكار والنشاطات وألوان الطعام، وتعرض كل ذلك في حلقة بعنوان “رمضان في جيبوتي”.

رمضان جيبوتي.. صيام بلد احتضن الإسلام في أيامه الأولى

يفخر أهل جيبوتي أنهم استقبلوا الإسلام بالسلام والترحاب، وانتشر بينهم بالحب والمودة. يقول أحد أئمة المساجد في العاصمة جيبوتي: مرّ بنا الصحابة أثناء عبورهم من دُميرة إلى الحبشة، وجاءتنا المجموعة الثانية عبر عُمان، فاستقبلناهم بالترحاب، بينما في بعض البلدان انتشر الإسلام بالسيف، مثل مالي والسنغال مثلا.

ما أن يدخل رمضان في جيبوتي، حتى يتوجه الرجال والنساء كافة إلى صلاة التراويح

جيبوتي بلد مسلم بالكامل وليس فيه أقليات أخرى، ويتشكل سكانه من قوميات ثلاث؛ الصومالية والعَفَرية والعربية، وجميعها تدين بالإسلام السُنّي، وتتمذهب غالبيتهم بالمذهب الشافعي، وهم يتبنون الإسلام نظريا واجتماعيا.

وفي نهاية شهر شعبان يحرص الناس على مراقبة هلال رمضان، ففي منطقة الشمال يصعد أحدهم جبل عليّ، ذلك الجبل الذي وصل إليه موسى عليه السلام، ويخبرهم حال رؤيته. كذلك الأمر في الجنوب، حيث تعيش القبائل الصومالية، فهم يتحرون ولادة الهلال.

المجلس الأعلى الإسلامي هو الجهة المخولة رسميا بتحري هلال رمضان، والإعلان عن ذلك من خلال وسائل الإعلام، حيث يتحلّق الناس في الأدغال والبحر حول المذياع، أو أمام التلفاز في المدن، أو يترقبون الإعلان من خلال المساجد، وعند الإعلان عن ولادة هلال رمضان يهرع الناس إلى المساجد لأداء صلاة التراويح، ويقرؤون جزءا من القرآن كل ليلة حتى يختموه في آخر الشهر.

على مائدة الإفطار، يفطر أهل جيبوتي على أطعمة خفيفة كالسمبوسة والعصائر

يستقبل الناس الشهر بفرح وسرور، وتقبل النساء على الأسواق والمحال التجارية لتأمين مستلزمات الإفطار، من أواني السفرة إلى أنواع الطعام المختلفة. أما المحلات التجارية فتغلق أبوابها في الصباح بعد الساعة الخامسة فجرا، وفي الرابعة عصرا تبدأ المطاعم بفتح أبوابها، لبيع وجبات الإفطار.

إعداد السمبوسة.. عروس الموائد الرمضانية توحد الأعراق

يقول عبد الكريم المعمري، وهو صاحب مطعم من أصول يمنية: نطهو أصنافا مختلفة من الطعام، منها العربي والجيبوتي والأوروبي، وأضفنا أطباقا جديدة من المخبوزات لهذا العام، إذ نصحو باكرا لتجهيز الطعام، ونستمر إلى ما بعد الظهر، نرتاح قليلا ونعاود نشاطنا بعد العصر لبيع ما أعددناه.

أطباق عربية وصومالية وأفريقية على مائدة الإفطار في البيوت الجيبوتية

وتقول بلقيس، وهي ذات أصول عربية: جئت لتناول الإفطار في بيت صديقتي “مصوكه”، وبعد أن ننهي أعمالنا نعود إلى المنزل لإعداد أكلات الإفطار، فنُعدّ السمبوسة والكعكة والشُربة وأصنافا أخرى.

والقوميتان العَفَرية والصومالية ليس بينهما فوارق كثيرة، وثقافتهم تكاد تكون متطابقة، أما العرب فيضيفون بعض التقاليد التي يأخذها عنهم جيرانهم.

ولا تكاد تخلو مائدة من السمبوسة، وهناك أنواع مختلفة منها، بعضها باللحم المفروم، ومنها ما يُعدّ بمفروم الدجاج، ثم يضاف إليه بعض الخضراوات كالجزر والبصل، ثم تقلى بالزيت. تقول بلقيس: نتناولها سوية مع الفلافل الحمراء الحارة التي تأتينا من أثيوبيا، ونضيف إليها الخلّ والليمون لتصبح ألذّ.

وهناك الكعكة المصنوعة من الفاصوليا والحمص والعدس، وتقلى بالزيت، ويمكن تناولها مع الفلفل أيضا، وكذلك العصائر الطبيعية من برتقال وغيره، وهم يتناولون الطعام في البيوت أو على شاطئ البحر، ويتميزون جميعهم بحسن الضيافة وحرارة الاستقبال.

يستمتع أهل جيبوتي بتناول طعام الإفطار على شاطئ البحر

تلتقي العائلات على الشاطئ ويتشاركون ما لديهم من طعام، ثم يسمرون ويغنون حتى وقت السحور، ويرددون أناشيد رمضان، وهم اجتماعيون بطبيعتهم لا تفرقهم انتماءاتهم العرقية. وبعد الإفطار يذهب الرجال والنساء جميعا إلى المساجد لأداء صلاة العشاء والتراويح، وفي غير رمضان تصلي النساء سائر الأيام في البيوت.

أنشطة رمضان.. طقوس تدرب عليها الأجيال منذ الطفولة

يحرص الجيبوتيون على أداء الصدقات بكثرة في رمضان، فهنالك كثير من العائلات المحتاجة، فيدخلون عليها السرور في رمضان، وهناك جمعيات تحرص على جمع الصدقات العينية والنقدية، من الطعام والمواد التموينية والملابس، بمهنية عالية، وتقوم بتوزيعها على العائلات الفقيرة، لإغنائها في رمضان وإدخال الفرحة استعدادا لعيد الفطر.

التجار اليمنيون ذوو حضور قوي، إذ يعود جزء من الشعب الجيبوتي إلى أصله العربي القادم من اليمن

وجيبوتي بلد مستقر إذا ما قورن بالبلاد المجاورة التي ابتليت بالحروب الأهلية والنكبات، فترى كثيرا من اللاجئين من بلاد شتى جاؤوا إلى جيبوتي واستقروا فيها، ويلقون فيها دعما ومساندة من الأهالي. أما اليمنيون فلهم حضور قوي في هذه البلاد منذ قديم الزمان، وينشطون في المجال التجاري، ولذلك تكثر زكواتهم وصدقاتهم في رمضان.

ولا يوجد تفرقة بين الجنسيات والأعراق، فالناس يعيشون هنا في انسجام ووئام، وهنالك وزارة للتضامن ترأسها امرأة، لإضفاء البعد التكافلي والتضامني بين مواطني البلد.

تتحدث إحدى النساء العفريات عن طقوس رمضان قائلة: أنا أميرة هارون، متزوجة وعندي طفلان، ونحن العفريون لنا وجباتنا الخاصة في إفطار رمضان، مثل الباجية والسمبوسة وبسكويت الكاكي والشُربة، وتذهب النساء منذ الصباح لشراء مستلزمات الإفطار، ثم يهيئن العجين ويتركنه يتخمّر.

السمبوسة بالنكهات الخاصة جزء لا يتجزأ من المائدة الجيبوتية على الإفطار

وبعد الفجر تتفرغ النساء لتلاوة ما يتيسر من القرآن الكريم، ثم يرسلن أبناءهن إلى المدارس، وفي الظهيرة يؤدين الصلاة ويتلون ما يتيسر من القرآن. فمنذ بلوغهم 15 عاما يكلف الأبناء بالصيام ويصبحون مسؤولين عن تصرفاتهم. ولكن الأهالي يحرصون على تربيتهم الدينية منذ بلوغهم 6 أعوام، ويحاولون إقناعهم دون ضغط بالصلاة والصيام، وعندما يتقن الطفل الكلام يرسَل إلى الكُتّاب لحفظ كتاب الله وتعلُّم أحكامه.

كرة القدم والتراويح.. فعاليات ليلية لصحة الأبدان والأرواح

تقول مروى عبد الله متحدثة عن رمضانها الأول بعد الزواج: عندما كنت في بيت أهلي كنت أنام كثيرا وأستيقظ لأجد كل شيء جاهزا، السفرة وأصناف الطعام، أما اليوم فقد تغيرت حياتي، فبعد عودتي من العمل عليّ ترتيب المنزل وإعداد الإفطار لزوجي، فالحياة الجديدة لها مسؤوليات كثيرة.

وتتحدث عن مكونات الشعب قائلة: نحن هنا من ثلاث قوميات، بيننا تكامل ولكل منا خصوصياته، فنحن صوماليو جيبوتي نختص بإعداد نوع من الشاي يسمى “القَشر”، وهو يعطي قوة وحيوية لأجسادنا بعد الصيام، أما العفريون فيفضلون احتساء القهوة.

في جيبوتي، مسابقات لكرة القدم في الأحياء ينظمها الشباب كل يوم قبيل المغرب

في ملعب الحي نلتقي عبد الرزاق دارار، وهو منظم مسابقات رياضية، ويقول: نحرص على إقامة فعاليات كرة القدم في الأحياء، فنتجمع فرقا من أحياء مختلفة، وقوام كل فرقة عشرة شباب، ونتنافس فيما بيننا طيلة شهر رمضان، ويحضر الأهالي لتشجيع أبنائهم والاستمتاع بهذا النشاط الهادف.

وتقول أميرة: نفطر إفطارا خفيفا ونذهب إلى صلاة المغرب، ثم نعود لتناول طعام الإفطار من الوجبات التي أعددناها خلال النهار، وتجتمع العائلة كلها على المائدة في فرح وسرور، ونبدأ بالتمر والماء ثم السمبوسة والعصائر، وبعد الإفطار نتناول الفواكه، ويؤخر البعض الوجبة الرئيسية إلى ما بعد صلاة العشاء والتراويح، وتستمر السهرات الرمضانية حتى السحور.

يحرص كثير من الناس على قراءة القرآن، وآخرون يستمعون إلى الأناشيد الدينية، ولكن لا توجد احتفالات خاصة في ليلة القدر، وإنما تمتلئ المساجد بالمصلين للقيام والتهجد، ويحرصون على كثرة قراءة القرآن والدعاء وحضور التراويح والقيام والتهجد، فهذا شهر متميز بالخير والبركة وإجابة الدعاء عن باقي الشهور.

استقبال العيد.. بهجة وحلوى وملابس وهدايا للأطفال

في أواخر رمضان تبدأ تحضيرات العيد، فيشترون الملابس لأنفسهم وأولادهم، ويشترونها هدايا للأقارب والآخرين، وهو يوم فرحة كبيرة، وتبدو السعادة الغامرة على وجوه الجميع، ويحرص الجيبوتيون على تنظيف منازلهم وإعادة ترتيبها لاستقبال العيد.

احتفاء بالعيد، يشتري الرجال والنساء والأطفال في جيبوتي الملابس الجديدة وتعمر الأسواق في تلك الليلة

يبيع هادي الحمّادي اليمني الأصل التمور وأنواع الحلويات الطحينية باللوز والحليب والبون بون والتوفة والشوكولاتة، حيث يقبل الناس على شرائها في العيد، وهو صاحب أقدم محل للحلويات منذ 1945.

وفي نهاية رمضان يبدأ العلماء والمشايخ بتحري هلال شهر شوّال، وحال ثبوته يعلنون للناس عبر وسائل الإعلام، فتصدح تكبيرات العيد تملؤ الأرجاء، وهو يوم مخصص بامتياز لصلة الأرحام، وذلك بعد صلاة العيد مباشرة، يتزاورون ويتبادلون التهاني والهدايا، وتجتمع العائلة وقت الظهر ويقوم الكبار بتوزيع الهدايا النقدية “العيديّات” على الأطفال والبنات.


إعلان