“طعامنا اليوم”.. هوية الشعوب التي صنعتها ظروف الطبيعة

يعتبر الشيف “أندريه تشيانغ” مالِكُ سلسلة مطاعم أندريه في سنغافورة، صاحبَ نظرية وجدانية في الطعام، ويعتبره صبغة تتميز بها الشعوب، وجزءا لا يتجزأ من هويتها وثقافتها، ورغم النجاحات الباهرة التي حققها مطعمه، فقد آثر أن يعود إلى موطنه تايوان، ويبدأ من هناك مغامرة عالمية جديدة.

في هذا الفيلم الذي تعرضه الجزيرة بعنوان “طعامنا اليوم”، نرافق “أندريه تشيانغ” في رحلة فريدة إلى ثلاث بقاع في العالم، يتعرف من خلالها على طبائع أهلها، وطرقهم في طهو الطعام، وقربهم من الطبيعة الأم التي سخّرها الله لتهبهم من خيراتها التي أودعها الله فيها.

افتتح “أندريه” فروعا لمطعمه في أكثر من مدينة عالمية، وفي 2016 فاز مطعمه بنجمتي “ميشلان”، لكنه أغلق المطعم في 2018، وعاد إلى مسقط رأسه “تايوان” ليعلم جيلا جديدا من الطهاة. وفي 2020 قرر أن يخوض تجربة جديدة تماما، وسيتحدث إلينا عن تجربته ورحلاته وفلسفته.

أويمياكون.. رحلة إلى أبرد قرية مأهولة في العالم

يقول الشيف “تشيانغ”: ثقافة الطعام تتطور باستمرار، تتعلق سلسلة “طعامنا اليوم” بالنظر إلى ما يحدث في العالم، وأن نتكيف مع الطبيعة ونجد لغة مشتركة بين الأجناس المختلفة، وفي نظري أن إطعام الكوكب لا يعني إنتاج المزيد من الطعام، بل محاربة إهداره.

أويمياكون قرية في جمهورية ياقوتيا الروسية تنخفض فيها درجة الحرارة فيها إلى أقل من 60 تحت الصفر

الوجهة الأولى قرية بعيدة تدعى أويمياكون في روسيا النائية، أبرد مكان في العالم، وعندما نزلت من الطائرة في أويستنيرا، وهي بلدة مناجم على بُعد ألف كيلومتر من وجهتي، شعرت بالبرد يتسلل إلى عظامي بالفعل. وسوف نركب السيارة في رحلة تستغرق 9 ساعات للوصول إلى أويمياكون.

وبعد أطول رحلة سافرتها (60 ساعة) وصلت إلى أويمياكون في جمهورية ياقوتيا الروسية، وفي ذهني أسئلة عن الموارد الطبيعية التي يملكونها، فماذا يأكلون، ولماذا يحرصون على البقاء في طقس شديد البرودة والقسوة، لا بد أن هنالك شيئا يربطهم بهذه الأرض. وفي هذا الصفاء نمت لأول مرة قرير العين منذ مدة طويلة.

يصطحبني صديقي الجديد “نيكولاي” في رحلة صيد على الجليد، برفقة صديق عمره “إيفان” وبضعة أشخاص آخرين، وجميعهم من قبيلة ياقوت التي عاشت هنا لأجيال منذ القرن الـ14، وسنبدأ بسيارة الجيب، وإذا كان الجليد صلبا سنكمل بها، وإلا فسنستخدم سيارة الثلج.

بمجرد خروج السمكة من الماء تتجمد ويتم تقشيرها وتقطيعها على شكل شرائح تؤكل مع رشة ملح

وبما أن طبقة الجليد فوق النهر هشة للغاية، فقد تركنا سيارة الجيب وركبنا سيارة الثلج، لكن الأمر ليس بتلك السلاسة، فيبدو أننا سنمشي على أرجلنا قليلا ونستخدم قاربا مطاطيا كذلك، فماء الجدول يجري ولم يتجمد بعد في هذه الدرجة المنخفضة، لذا سنجد غايتنا من الأسماك الطازجة الحية تحت سطح الماء.

لحوم الخيل ومثلجات السمك النيئ.. أطعمة الياقوت

سجّلت أويمياكون “قطب البرد”، وهي درجة -67.7 في عام 1933، وإذ نعبر نهر إنديغيركا شمال شرق سيبيريا، فإنني أشعر بالماء يجري تحت قدمي، ويختار رفاقي نقاطا ليحفروا فيها طبقة الجليد حتى يصلوا إلى الماء، يقولون إن الماء عميق هنا وسيأتي السمك ليتغذى، ويبدؤون بإنزال عصيهم ورماحهم وشباكهم البدائية في هذه الحفر ليصطادوا سمك “ستروغانينا” الصغير.

الخيول تجارة مربحة في أويمياكون، يستخدمها شعب الياقوت طعاما ووسيلة نقل

وفور خروج السمكة من الماء تتجمد كليا وتصبح صلبة وهشة، فيقطعونها بالسكين طوليا ويأكلونها نيئة مع الملح، وكأنني أتناول مصاصة ثلج بنكهة السمك المملح، هذا أشهى سمك ذقته، وكما يقولون فإنه ينشط الدورة الدموية، وسنشعر بالدفء حال أكله.

يقول “نيكولاي”: كل شيء هنا محلي وطبيعي، ونشتري من مدينة تايغا كل ما يلزمنا، مثل النباتات البرية والفطر والتوت واللحم أيضا، وقد سكن هذه القرية -وهي أبرد مكان مأهول على الكوكب- 2500 إنسان، ولكن العدد انخفض إلى 900 ساكن في 2018.

أشعر بالفضول الشديد لمعرفة الموارد التي تُبقي شعب الياقوت في هذه القرية المتجمدة، ويحدثني “ميخائيل” عن تربية الخيول قائلا: نهتم بتربية الخيول هنا أكثر من تربية الأيائل، فهي تجارة مربحة، ويستخدمها شعب الياقوت للتنقل والغذاء على لحومها أيضا.

لحم الحصان أحد مصادر الغذاء لشعب الياقوت في قرية أويمياكون المتجمدة

سألته: وكيف لا تتجمد الخيول هنا، فأجاب إن شعرها مجوف كحوصلةٍ تحتوي على الهواء، مثل الأيائل، والهواء يعزل حرارة الجسم عن برودة الجو، فتبقى محتفظة بحرارتها الداخلية الحيوية. ثم دعتني زوجته “تاتيانا” لتذوق لحم الحصان اللذيذ، وتقول: نتناول الأسماك واللحوم غير المصنعة، اللحم طري وفيه عصارة كثيرة، فلا نضطر لإضافة ماءٍ لطهوه.

أما شرائح الكبد النيئة فهي تجربة متفردة لم أجربها قط من قبل، إنها لذيذة حقا.

“درسنا اليوم عن الطعام الذي تقدمه لنا بيئتنا”

درجة الحرارة الآن هي -35 مئوية، ويقوم “ميخائيل” بفصل المهور الذكور لبيعها، بينما تبقى الإناث للتكاثر، يقول ابن “ميخائيل”: كيف لنا أن نترك هذا المكان، لقد تربينا وترعرعنا هنا، لقد درسنا وكبرنا، آباؤنا وأقاربنا يعيشون هنا، فلماذا نغادر.

وتستعد “دورينا” ذات الأعوام السبعة للذهاب إلى المدرسة في الصباح الباكر، فدرجة الحرارة الآن -32 مئوية، فتستقل الحافلة مع باقي أطفال الحي باتجاه المدرسة، ويتعلمون هناك لغتهم الأم الياقوتية خلال السنوات الأربع الأولى، بالإضافة إلى الروسية، وهي اللغة الرسمية.

في مدارس قرية أويمياكون يتعلم التلاميذ مهارات البقاء في هذا الطقس المتجمد

“موضوع درسنا اليوم عن الطعام الذي تقدمه لنا بيئتنا” أعجبني هذا الفصل، إنهم يعلمونهم عن جميع الحيوانات، والصالح للأكل منها، فهذه هي مهارات البقاء، وإنه لمن الدهشة أن ألتقي بجيل فتيٍّ مفعم بالحياة هنا في أويمياكون. تقول مديرة المدرسة “إيكاترينا”: نطلب من الأطفال لبس الملابس الملائمة للموسم، ونقدم لهم وجبات الطعام المجانية مرتين في اليوم، فاكهة أو عصيدة في الصباح، ووجبة ساخنة.

والمعلمون هم من أبناء هذه البيئة، ويعرفون أنسب الطرق للنجاة، ويعلمون أبناءهم ما يناسب من الملابس والطعام لهذه البيئة، فلم أر مثل أساليب التعليم البيئية هذه في مكان آخر، إنه شيء مدهش حقا. وقبل أن أصل إلى أويمياكون لم أكن أتخيل كيف يحيا البشر والحيوان والنبات في طقس تهبط فيه درجة الحرارة إلى -71 مئوية، لكنني الآن على يقين أن شعبا طوّر كل هذه الوسائل للبقاء، إنه لَشعبٌ يستحق الحياة.

شعب الآينو.. معتقدات آخر صيادي الطرائد في اليابان

عندما كنت صغيرا قرأت أن شعب الأينو هم سكّان اليابان الأصليون، لكنني لم أعرف عنهم الكثير، ولذا ها أنا اليوم هنا في هوكايدو لاكتشاف ثقافة الطبخ الفريدة عند قبائل الأينو. في السادسة صباحا وعلى جبال “بيراتوري”، سوف ألتقي صديقي “آتسوشي”، وهو صياد من الآينو، وقد قال لي: أذهب للجبل كل يوم، وأعرف النقاط التي ستظهر فيها الفريسة.

الصياد “آتسوشي” من شعب الآينو متخصص في صيد الأيائل

ويتحدث عن بداياته مع الصيد قائلا: كنت أعمل في صناعة البناء، لطالما أردت أن أكون صيادا، من المذهل أن تصطاد طريدتك وتحصل على اللحم بنفسك، ولكن الزمن تغير، وعليّ كسب رزقي بعد أن أحوّل الطريدة التي اصطدتها إلى مال.

يقوم الصياد “آتسوشي” بطقوس خاصة قبل دخول الجبل، يشعل نارا صغيرة، كأنها وسيلة استئذان حسب معتقداته، وقد منعت الحكومة الصيد بالقوس والسهم المسموم الذي كان سلاح الآينو التقليدي، ولذا فهو يستخدم البندقية. فقبل 150 عاما كانت هذه الأراضي موطنا لشعب الآينو، لكن الحكومة اليابانية لم تعترف بثقافة الآينو إلا قبل 10 أعوام فقط.

لقد اصطاد “آتسوشي” غزالا يزن 40 كغم، سألته: هل هنالك فترات مخصصة للصيد، أم أنه مسموح طوال العام؟ فأجاب: يمكننا اصطياد الحيوانات التي تسبب الأذى للبشر طوال العام. ثم تحدث قائلا: تغيرت عادات الآينو كثيرا ولم يعودوا يتشبثون بثقافتهم الأصلية، ويمكنك القول إنني الوحيد الذي ما زلت أصطاد وأعيش بروح الآينو الحقيقية.

رقصة السيوف لطرد الأرواح الشريرة هي جزء من ثقافة الآينو الآيلة للاندثار

وفي النهاية فزتُ بطبق حساء “يوكو-أوهاو”، حساء الغزال التقليدي لشعب الآينو، واستمتعت برقصة بالسيوف لطرد الأرواح الشريرة. ويقول صديقه “كايزاوا”: ثقافة الآينو آيلة للاندثار، ونبذل جهدنا لاستعادتها، فقد  كان هنالك تمييز شديد ضد شعب الآينو، وكان أجدادنا يحاولون إخفاء حقيقة أنهم من الآينو.

حماية التراث.. إحياء هوية الآينو المعرضة للاندثار

في أواخر الشتاء، في مارس/آذار يمكنك أن تسمع جذوع الأشجار وهي تمتص الماء، لقد تغيرت الأمور بفعل الإنسان، وها هو التغير المناخي يفعل الأفاعيل بالطبيعة العذراء، وكل هذا بما كسبت يدا الإنسان، علينا أن نعود إلى الطبيعة ونتكيف معها، علينا أن نأخذ من الطبيعة ما يكفينا، ولا نسرف في التدمير.

مع إصلاحات “مايجي” سنة 1868 أُجبر شعب آينو على الزراعة وصيد الأسماك التجارية بدل صيد الطرائد، مما دعا جد “كايزاوا” إلى حظر طقوس الآينو في بيته وتبنّي أسلوب الحياة اليابانية بالكامل، وقد عمل في القطاع العام عدة سنوات، ثم عاد إلى بيراتوري -مسقط رأسه- في 2011 ليعمل في الزراعة.

فاكهة “شيكيريبي” تستخدم كتوابل في مطبخ الآينو ومذاقها حامضي مقرمش وفيها حرارة لاذعة

وقد حرص “كايزاوا” على أن يريني فاكهة مقدسة في ثقافة الآينو، وتستخدم في مطبخهم، إنها “شيكيريبي”، وتستخدم كتوابل في الطبخ منذ قديم الزمان، ومذاقها حامضي مقرمش وفيها حرارة لاذعة. ثم تذوقت طبق “الكوسايو” من الفاصوليا ومسحوق الدخن وشيكيريبي، فالطعام جزء من هوية أي شعب ولا يمكن بحال أن تسلبهم هذا الجزء من ثقافتهم، لكن معظم أجزاء ثقافة الآينو اختفت، ويحاول كبارهم استعادة بعضها.

ويشكو “كايزاوا” من ذكريات التمييز قائلا: تعرضت في طفولتي لكثير من التمييز بصفتي من الآينو، فالآخرون لا يهمهم أن يتعبوا أنفسهم في التعرف إلى ثقافتنا، ويستقر في أذهانهم فقط أننا لا نشبههم، ولا يحاولون أن يجدوا الخيوط المشتركة بيننا وبينهم.

في بحثي عن قصص الطعام العالمي اكتشفت أنني أبحث عن قصص البشر أكثر، وليس الطعام هو الذي يصنع الإنسان، لكن الإنسان هو الذي بإمكانه تغيير ثقافة الطعام بأكملها.

وجبة “كومبو-سيتو” مع أعشاب البحر وجبة خفيفة عند سكان اليابان الأصليين في هوكايدو

فهذه “كانيه” تحرص -وقد بلغت 77 عاما- على تعليم الصغيرات في قرية ساماني ما لديها من ثقافة الطعام التقليدي لدى الأينو، وتقوم اليوم بتحضير وجبة “كومبو-سيتو” الخفيفة، مع أعشاب البحر في هوكايدو، فالطهي وسيلة للتعريف عن نفسك أو إيصال رسالة معينة، فالذي يقدم لك طعاما كالذي يحكي لك قصة، ويحب أن تسمعها منه، وأنا أحترم الشعوب التي تحب أن تعبر عن نفسها، وتنفض -عن طريق الطعام- ما تراكم من غبار على ثقافتها المفقودة.

مواقع الشمس.. نظام الصين الزراعي منذ آلاف السنين

لطالما أمْلت الفصول الأربعة على البشر كيف يعيشون وماذا يأكلون، وفي سلالة “هان” الحاكمة ابتكر الصينيون نظاما من الفصول القصيرة المحددة وفقا لموقع الشمس، ويتألف التقويم من 24 فترة، وقد حكم هذا التقويم الأنشطة الزراعية في الصين لأكثر من ألف عام، وهو أدق بكثير من الفصول الأربعة.

ففي مدينة باودينغ بمقاطعة خبي، وفي فصل “امتلاء السنابل” أو “شياومان” ترتفع درجة الحرارة إلى 35 مئوية، وتمتلئ فيه السنابل بالحبوب الناضجة.

في مدينة باودينغ وحين ترتفع درجة الحرارة إلى 35 مئوية، تمتلئ السنابل بالحبوب الناضجة

هناك التقيت “زيو”، وهو حاصل على شهادة في التعليم، لكنه يعمل مزارعا. يقول: ينبغي أن ننسجم مع الطبيعة في موسمنا الزراعي، حتى نحصل على محاصيل طيبة المذاق، فنحن لا نأكل شيئا في غير موسمه. وأنا أجعل حاجزا من النباتات الكثيفة ذات السيقان الطويلة بيني وبين جيراني، حتى لا تصل أسمدتهم ومبيداتهم الكيميائية إلى حقلي العضوي.

ينظف “زيو” حقوله من الأعشاب الضارة بيديه، بمعدل ثلاث ساعات يوميا، وقد علّمه والده أن لا يستخدم الأسمدة والمبيدات الكيميائية في الزراعة، ومع أنهم يحصلون على دخل أقل بسبب عدم استخدام المبيدات، فإنهم سعداء بالمحصول القليل الجيد الذي يجنونه. كما أنهم يختارون أكثر الطرق طبيعية لمعالجة الأرض، فيجب الحفاظ على نوعية هذه الحبوب غير المعدلة وراثيا، ويتعاونون مع مصانع محلية لإنتاج شعيرية “النودلز” من القمح غير المعالج وراثيا.

يتعاون المزارعون في مدينة باودينغ مع مصانع محلية لإنتاج شعيرية “النودلز” من القمح غير المعالج وراثيا

وفي فصل “مانتشونغ” أو فصل “الحبوب في السنبلة”، ويصادف السادس من يونيو/حزيران، يبدأ حصاد القمح، فالسنابل مليئة بقمح ناضج وجاف، وهذا الموسم -كما يقول زيو- أحسن بقليل من الموسم الفائت، وهو يأمل بأن يخفض هذا من سعر حبوبهم العضوية، حتى يقبل الناس على شرائها.

في رحلتي هذه، أدركت أن البشر تمكنوا من تجاوز تحديات الطبيعة، ببراعة ومرونة، وستستمر جواهر الحكمة العريقة هذه في تشكيل إرثنا المشترك في المطبخ لسنوات قادمة، وقد تعلمت أن نتكيف مع الطبيعة ولا نصادم فصولها، ونأخذ ما يكفينا منها، فهذا كفيل بأن لا يجوع أحد على سطح الكوكب.


إعلان