“القرآن عن ظهر قلب”.. أطفال أعاجم على منصة التتويج في مسابقة القرآن الكريم

لا يجد المخرج الأمريكي “غريغ باركر” حرجا في وصف الأطفال اليافعين الذين يحفظون القرآن الكريم عن ظهر قلب من دون أن يفهموا معانيه بـ”الأطفال المعجزة”، لأنهم لا يعرفون اللغة العربية ولا يحسنون الحديث بها، ومع ذلك فهم يحفظون قرابة 600 صفحة تضم بين طياتها 30 جزءا من القرآن، بواقع 114 سورة تحتوي على 6236 آية من الذكر الحكيم.

هذا الكتاب المقدس الذي نزل خلال 23 سنة تحفظه صبية من المالديف، أو صبي من طاجيكستان، أو فتى من السنغال خلال سنة واحدة، هذه هي المعجزة بحد ذاتها، والعمل العجيب الذي يثير الدهشة ويلفت الانتباه في كل مكان من هذا العالم.

لقد وقع اختيار المخرج الأمريكي “باركر” على الدورة الثامنة عشر لمسابقة القرآن الكريم العالمية القائمة على حفظ القرآن وتلاوته، التي تنظمها وزارة الأوقاف المصرية في القاهرة، ويحضرها الرئيس المصري في حفل الختام، لتتويج الفائزين الثلاثة الأوائل من بين 110 متسابقين من الجنسين، يمثلون نحو 70 دولة من دول العالم، يستضافون في القاهرة ويختبرون على مدى ثلاثة أيام من شهر رمضان المبارك، على أن يكون التتويج في ليلة القدر التي أنزل فيها القرآن هدى للناس ورحمة للعالمين، وذلك في فيلمه “القرآن عن ظهر قلب” (Koran by Heart).

أطفال المسابقة ورجال التحكيم والعائلة.. أبطال القصة

مع أن عدد المتنافسين في هذه المسابقة يصل إلى 110 متنافسين، فإن تركيز المخرج قد انصبّ على ثلاثة أطفال بعمر العاشرة يمثلون ثلاثة بلدان من قارتي آسيا وأفريقيا، وهم سعيدوف نبي الله محمد خان من طاجيكستان، ورفدة محمد رشيد من دولة المالديف الواقعة في المحيط الهندي، ومحمد جميل جيني من السنغال.

كما ركز الفيلم أيضا على متسابقين آخرين من مختلف دول العالم، من بينهم محمد مهدي من أستراليا، وسوزانا من إيطاليا، ونعمان أكبر هزراوي من جنوب أفريقيا، وياسر من مصر، وباسل من سوريا، وعبد الله سمارة سليمان من مصر أيضا، وآخرين لا يمكننا الوقوف عندهم جميعا، لأن مساحة الفيلم تمتد لثمانين دقيقة لا غير.

ورغم أهمية الشخصيات المتنافسة، فإن الخبراء وأعضاء لجنة التحكيم والمعلمين والآباء والأمهات لا يقلون أهمية عن الشخصيات الرئيسية، خاصة أن بعضهم مثير للجدل، مثل الدكتور سالم عبد الجليل وكيل وزارة الأوقاف المصرية، فهو يمثل التيار الوسطي المعتدل في مصر، كما أنه صحفي لديه بصمة إعلامية مهمة ينشر بواسطتها الاعتدال، وينبذ التطرف بكل أشكاله الدينية والمذهبية والعِرقية.

وهناك شخصية الباحثة الأمريكية الدكتورة “كريستينا نيلسون”، وهي مستشرقة وكاتبة ومتخصصة بعلم الموسيقى، وقد درست اللغة العربية في القاهرة، وصدر لها كتاب مهم يحمل عنوان “فن تلاوة القرآن” درست فيه القرآن “كظاهرة صوتية لا كنص مكتوب يماثل النصوص المرسلة التي سبقته”، إضافة إلى آراء المعلمين والآباء، ممن تركوا بصمتهم في هذا الفيلم الجميل الذي يحرّك مشاعر المُشاهدين، ويدفعهم إلى البكاء وذرف الدموع في بعض المَشاهد المؤثرة التي يزخر بها الفيلم وهو يخاطب عقول المتلقين ومشاعرهم في آن معا.

ثلاثي الفيلم.. مثابرة تصنع المستحيل في أكناف العائلة

لم يأتِ اختيار المخرج لهذه الدول الثلاث اعتباطا، فطاجيكستان والمالديف والسنغال هي دول علمانية، كما أن الثقافة السياسية فيها شبه ديمقراطية، الأمر الذي يشجّع على الدراسة العلمانية، ويحظر بالمقابل الترويج للمدارس الدينية التي يرون أنها قد تكون منطلقا لنشر الثقافة الأصولية المتطرفة.

يقدّم لنا المخرج نُبذة مُختصرة عن كل طفل على انفراد، لتشكل مدخلا رئيسيا لهذه الشخصية الموهوبة في الحفظ والتلاوة، وخلق الإحساس بالخشوع لدى السامع أو المتلقي، وقد رأينا أحد أعضاء لجنة التحكيم وهو يذرف الدموع، بينما كان يُنصت إلى سعيدوف نبي الله وهو يتلو آيات من الذكر الحكيم.

لم يكن سعيدوف نبي الله في أول الأمر يظن أنه يستطيع حفظ القرآن الكريم كله من أقصر سورة وهي “الكوثر”، إلى أطول سورة وهي “البقرة”، خاصة أنه لا يعرف اللغة العربية ولا يفهم معانيها، لكنه بالمثابرة والإيمان والعمل الدؤوب مع معلمه كوري محمد تمكن من ذلك، ونجح في حفظ القرآن الكريم الذي يتألف من 77439 كلمة، فأي ذاكرة عظيمة منحها الله لعباده المؤمنين لتحفظ القرآن برمته، حتى تلك الذاكرة التي لا يعرف صاحبها اللغة العربية أو يفهم معانيها الحقيقة والمجازية؟

حسنا فعل المخرج حينما ركّز على الطفلة المالديفية رفدة محمد رشيد، فالإسلام يساوي بين الذكر والأنثى، ولا يفرّق بين المرأة والرجل إلا في أمور محددة، وأسند إليها أدوارا متعددة، من بينها تعليم الرجال، فرفدة البالغة من العمر عشر سنوات أيضا سعيدة جدا لأنها حظيت بفرصة المشاركة في هذه المسابقة العالمية لحفظ القرآن الكريم وتجويده.

ولا تنكر هذه الطفلة الموهوبة أنها كانت فرحة ومبتهجة جدا حتى اليوم الذي غادرت فيه العاصمة المالديفية ماليه، لكن ما إن اقترب موعد المسابقة حتى شعرت بالتوتر والخوف والقلق، لأنها ليست لديها أي فكرة عن الأطفال الآخرين الذين سوف تتنافس معهم، لكي تحقق الحلم الكبير الذي يدور في مخيلتها الفتية اليافعة.

تفتقد رفدة أمها كثيرا، ولعلها المرة الأولى التي تسافر من غير والدتها، فقد اصطحبها والدها في هذه الرحلة التي أخذت طابعا دينيا وثقافيا وسياحيا في الوقت ذاته.

أما المتسابق الثالث فهو محمد جميل من السنغال الذي اقتدى بوالده، وهو إمام أحد الجوامع المحلية، وقد حثّ ولده محمد على أن يقرأ القرآن الكريم ويحفظه قبل أي شيء آخر. كما أن معلّمه الأستاذ أبو بكر كان يشجّعه على الدوام، ويقوّي عنده روح المنافسة، ويخبره بأنه لا يمثِّل السنغال فحسب، وإنما يمثل قارة أفريقيا برمتها، وعليه أن لا يخاف ولا يحزن، لأنه حفظ القرآن مثلما حفظه أي متسابق آخر، بغض النظر عن قوميته وبلده وجنسيته.

د. سالم عبد الجليل.. وكيل الوزارة وداعية الثقافة الوسطية

كنّا قد أشرنا إلى الدكتور سالم عبد الجليل وكيل وزارة الأوقاف المصرية، وينحصر دوره في هذه المسابقة باختيار الأسئلة وضوابط التقييم وإدارة الجلسات الفنية، ويرى بأن حفظ القرآن الكريم من قِبل أطفال لا تتجاوز أعمارهم العشر سنوات هو معجزة بحد ذاتها.

ولم ينسَ التذكير بأنه إعلامي وله دور مهم في نشر الثقافة الوسطية، ويرى أن التصرفات غير المسؤولة عند بعض المسلمين هي نتيجة لبُعدهم عن القرآن الكريم، أو عدم فهمهم للقرآن، أو فهمهم الخاطئ له، وهو يرى أن السارق والزاني وشارب الخمر والظالم والمعتدي والإرهابي هم جميعهم بلا استثناء بعيدون عن القرآن، أو لا يدركونه بشكل جيد، أو يفهمونه فهما خاطئا.

يؤمن الدكتور سالم بأن القرآن ليس كتاب تعبّد، وإنما هو كتاب عمل في الحياة، ويضرب أمثلة متعددة لتأكيد وجهة نظره من قبيل: كيف يتعامل مع الناس؟ وكيف لا يخلف الموعد؟ وكيف يعتذر إذا أخطأ؟ وكيف يلقى الآخرين بوجه سمح؟ ويرى بأن درجاتنا في الجنة تعتمد على ما نحصل عليه من القرآن الكريم.

د. سالم عبد الجليل داعية وإعلامي ينشر يدعم الثقافة الوسطية

تعتمد المسابقة على مجموعة من القواعد المتبعة، فمن يخطئ ويُصحح خطأه بنفسه يفقد نصف درجة، ومن يخطئ ويُصحح له أحد أعضاء لجنة التحكيم يفقد درجة كاملة، وعندما يُكرر المتسابقُ خطأه ثلاث مرات يُلغى السؤال، وبغية تحقيق الدقة والعدالة في التقييم تقوم اللجنة من فورها بإدخال الدرجات في الحاسوب، وهو الذي يقوم بعملية الحساب وإعطاء النتيجة لكل متسابق على حدة.

“حينما تستمع إلى القرآن فأنت تجرّب لحظة الوحي”

تقول الباحثة والمستشرقة الأمريكية “كريستينا نيلسون” إن المسلمين يؤمنون بأن القرآن هو كلام الله، وهو الرسالة السماوية الثالثة التي نزلت بعد التوراة والإنجيل، فالرسالة الأولى جاءت لليهود، والثانية للمسيحيين، والثالثة كُرست للمسلمين.

وبما أنها متخصصة بعلم الموسيقى وتتلو بنفسها القرآن الكريم، فلا غرابة أن تلامس الجوانب الصوتية واللحنية في كل آية تجوّدها أو تحلّلها أو تقرأها قراءة عادية، ولعلها تذهب أبعد من ذلك فتقول “حينما تستمع إلى القرآن، فأنت تجرّب لحظة الوحي أو الإلهام أيضا”، وهي تعني لحظة الكشف التي تجلى فيها صوت الروح الأمين المَلَك جبريل عليه السلام، بالوحي المُرسَل من قِبل الله إلى رُسُله لتبليغ رسالاته إلى الناس أجمعين.

وتتوقف قليلا عند قواعد التجويد والأصوات الخارجة من الصدر أو الحنجرة، فهي ترى أن التلاوة تعكس الإلهام الأول الذي مُنح إلى سيد الكائنات محمد ﷺ الذي خاطبه الله في “سورة العلق” بقوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذِي خَلَقَ)، فسمع الصوت من الروح الأمين جبريل، ثم تلاه على أصحابه، وبعد وفاته دوّنوا القرآن الكريم، لكنهم أرادوا أن يحفظوا الصوت، فدوّنوا قواعد التجويد اعتمادا على إلهام اللحظة التي يرتلّون فيها آيات الذكر الحكيم.

“إنه مسترخ تماما وهو يشعر بالغبطة والنشوة”

قد لا يُذيع الطفل سعيدوف نبي الله سرا حين يقول إنه تمرّن كثيرا قبل أن يبدأ دوره في المسابقة، لكنه أراد أن يتيقّن بأنه يتذكّر كل شيء في القرآن الكريم، لأنه كان قلقا وخائفا، والخوف سمة يشترك بها أغلب المتسابقين إن لم يكونوا جميعا، لكنه ما إن بدأ بالتلاوة حتى شعر بهدوء كبير، وأصبح الأمر سهلا ويسيرا. فعندما يتلو يغمض عينيه، ويرى الصفحات تترى أمام بصيرته، لذلك لم يفتح عينيه خشية أن يتشتت تركيزه، وما إن ينتهي من تلاوة صفحة حتى تظهر الصفحة الثانية في مخيلته، وهكذا دواليك.

سعيدوف نبي الله الفائز بالمرتبة الثالثة

لا تشك الخبيرة “كريستينا نيلسون” بقدرة سعيدوف في الحفظ والتجويد، فقد أدّى دوره بشكل جيد، وقالت إن حافظته ممتازة جدا، أمّا عن وضعه النفسي في أثناء القراءة، فقد وصفته وصفا دقيقا حينما قالت “إنه مسترخ تماما، وهو يشعر بالغبطة والنشوة”، أما عن الإيقاع الداخلي فقد كان جميلا بالنسبة لطفل في هذا العمر المبكر. وسوف يجوّد أمام الرئيس في ليلة التتويج.

ورغم هذا الخبر السار فإن المدرسة التي يدرس فيها سعيدوف قد أغلقتها الحكومة الطاجكستانية العلمانية، كجزء من فرض الإجراءات الصارمة ضد المتطرفين الإسلاميين، أما معلّمه كوري محمد فيخمّن بأن الحكومة الطاجيكية تحاول إيقاف انتشار التعليم الأصولي المتشدد، إذ يحوّل الطلاب إلى متطرفين يعارضون الحكومة العلمانية التي تستجيب لمنظومة القيم الغربية واشتراطاتها الفكرية، وهذا يعني أن سعيدوف نبي الله ليس بإمكانه أن يعود إلى مدرسته ويواصل تعليمه الديني.

يستذكر والد سعيدوف عندما كان في عمر ابنه بأنه لم يستطع مواصلة الدراسة بسبب الحرب الأهلية، فتمنى أن يحفظ ولده القرآن الكريم عن ظهر قلب، وبما أن الحكومة قد أغلقت مدرسة ابنه، فليس أمامه من حل سوى أن يسجّل ابنه في مدرسة جديدة في العاصمة دوشنبه التي تعطي دروسا أخرى إلى جانب تدريس القرآن الكريم.

لا يعرف سعيدوف حتى الآن القراءة والكتابة بالطاجيكية، وقد تركّز تعليمه خلال السنوات الماضية على تلاوة القرآن، ومع ذلك فإن والده يبدو سعيدا جدا لأن ابنه سيأخذ كل أنواع الدروس التي سوف تصنع له مستقبلا باهرا.

عبد الله سمارة.. حائز اللقب الذي وهبته أمه لله

رغم تشدّد غالبية الآباء مع أبنائهم، فإن بعضهم متسامح ويتعامل معهم بنَفَس ديمقراطي، كما هو الحال مع الأب مهدي الذي ترك لابنه محمد فرصة أن يصوم في شهر رمضان أو يفطر. لا يفكر والد محمد بفوزه في المسابقة، وإنما يريد أن يعرف مستواه، وأن يتحدى نفسه، ولم تخطر بباله فكرة المنافسة مع مسلمين آخرين.

ومع أن المتسابق المصري عبد الله سمارة سليمان الذي يبلغ من العمر 17 عاما قد توّج بالمركز الأول في هذه المسابقة العالمية، فإن تركيز المخرج لم ينصبّ عليه، ربما لكبر سنه بعض الشيء، فقصة الفيلم الرئيسية تتمحور على ثلاثة متسابقين قدِموا من ثلاث دول علمانية، كما أن أعمارهم لا تتجاوز عشر سنوات، وقد حفظوا القرآن الكريم في أقلّ من سنة واحدة، وهم لا يعرفون اللغة العربية، ولم يفهموا المعاني الكبيرة التي يزخر بها القرآن الكريم.

الباحثة الأمريكية كريستينا نيلسون

تؤكد أمارة والدة المتسابق عبد الله بأنها وهبت ولدها مذ كان طفلا في بطنها إلى الله، وربّته هي ووالده على حفظ القرآن كي يكون إنسانا صالحا، وينشأ تنشئة قويمة ينفع بها الأمّة.

لم تنتبه لجنة التحكيم إلى أن أغلب المتسابقين لا يعرفون اللغة العربية، ولا يفهمون كلام المحكّمين وتوجيهاتهم، الأمر الذي أربك المتسابقين، حتى أن بعضهم كان يبكي مثل السنغالي محمد جميل، لأنه لم يفهم ما يدور حوله، وقد حصل على درجة ضعيفة لا تتناسب مع قدرته على الحفظ والتجويد.

رفدة.. متسابقة خارقة تفرض نفسها بين الذكور

لم تأخذ اللجنة بنظر الاعتبار أن بعض المتسابقين كانوا أطفالا تتراوح أعمارهم ما بين 7-10، فلا غرابة أن تنام رفدة في الساعة العاشرة والنصف ليلا، ولم تستفق إلا في الثانية والنصف صباحا لترشق وجهها ببعض الماء، وتتوجه إلى منصة التجويد، وتحصل على درجة عالية جدا، رغم التعب الذي غالبها والنعاس الذي سيطر عليها.

وقد أثنى عليها د. سالم عبد الجليل، وأشاد بقدرتها على القراءة الجميلة، رغم أنها لا تعرف اللغة العربية، كما نوّه إلى أنها الأنثى الوحيدة التي تتسابق مع عدد كبير من الذكور. ولم ينسَ التأكيد على أن الإسلام لا يفرق بين المرأة والرجل، وأنّ عائشة رضي الله عنها كانت تعلّم الرجال المسلمين، ولم ترَ حرجا في ذلك. لقد حصلت رفدة على 97%، وهي أعلى درجة يحصل عليها متسابق في الجولة الأولى.

لا بد من الإشارة إلى أن والد رفدة متشدد جدا، ولا يريد لابنته أن تدرس شيئا آخر غير الدين وحفظ القرآن الكريم وتلاوته، وأما أمها شيملا فهي أكثر انفتاحا، وتتمنى لها أن تدرس العلوم والرياضيات، لأنها متفوقة في المواد العلمية، وتحصل على درجات كاملة في الامتحان، فلا غرابة أن تريد لها وظيفة مناسبة في المستقبل، لكن رفدة فاجأت أمها حينما أخبرتها بأنها تريد أن تصبح مستكشفة بحار.

المتسابقة رفدة محمد رشيد تحلم بأن تكون مستكشفة بحار في المستقبل

تتميز رفدة بصفات عدة منذ الصغر، فلقد تكلمت وهي ابنة عام واحد كما تقول أمها، وحين بلغت عاما ونصفا تعلمت الحروف، ثم تكشفت مخايل ذكائها، وظهر تفوقها في المواد العلمية.

محمد رشيد.. مستقبل غامض في حضن أب متشدد

يغتنم المخرج اللقاء بالرئيس المالديفي السابق مأمون عبد القيّوم الذي ظل في منصبة قرابة ثلاثين عاما، وقال إن الإسلام خدمهم كثيرا في الماضي بحدود القرن التاسع تقريبا، وقد مارس المالديفيون شكلا معتدلا من الإسلام، فكانوا يسمحون بذهاب المرأة إلى العمل، ويتيحون لها أن تتفاعل مع الرجال، لكنه انتقد نزعة العودة إلى التاريخ والخضوع للتأثيرات الأصولية المتشددة التي انعكست على المظهر الخارجي للمرأة المالديفية المعاصرة.

وقد التقى الرئيس عبد القيّوم بالمتسابقة رفدة، وتحدث معها عن مسابقة القرآن الكريم التي حدثت في المالديف، وفازت فيها بمراتب متقدمة.

ربما يكون محمد رشيد والد رفدة هو أكثر الآباء تشددا، مع أنه لم يتبّع الإسلام لأكثر من ثلاثين سنة مضت، لكنه ما إن رأى والده مستلقيا على فراش الموت يلفظ أنفاسه الأخيرة، حتى أيقنَ لحظتها بأن عليه أن يتبع دين الإسلام.

ومنذ ذلك اليوم بدأ يُطيل لحيته ولم يشذِّبها قط، وتغيّرت حياته كليا، وأراد لأطفاله أن يحصلوا على التربية التي يراها صحيحة، لكنه يرى أنّ المالديف حاضنة غير مناسبة في هذا المضمار، الأمر الذي دفعهُ للتفكير في الانتقال إلى بلد آخر من أجل تعليمهم الدين الإسلامي الصحيح الذي يتوافق مع الشريعة الإسلامية، وقد وجد أن اليمن هي أنسب البلدان التي ينهل منها أولاده العلوم الإسلامية، بينما كانت الأم تريدها أن تدرس شيئًا يتيح لها الحصول على وظيفة مرموقة، وأن تعمّق ثقافتها ومعرفتها يوما بعد يوم.

ينتقد محمد رشيد مصر، فرغم وجود تعليم جيد فيها، فإن الناس لا تلتزم بتعاليم الدين الإسلامي، ويتحدث عن ضرورة إطالة شعر اللحية ولبس الثياب الطويلة التي تغطّي القدمين وما إلى ذلك.

وفي مقابل هذه الآراء المتشددة يطل علينا د. سالم عبد الجليل لينفي النَفَس الاجتماعي عن التيار السلفي الذي يريد أتباعه أن يُبعدوا الإسلام عن الحضارة والمدنية، مثل تحريمهم إلى وقت قريب جهاز التلفاز، واعتبارهم الهاتف المحمول رجسا من عمل الشيطان، وانتقد من سمح لهم بإطلاق قنوات فضائية واسعة الانتشار، ومنحهم تراخيص العمل، وأغدق عليهم بالأموال حتى أصبح صوتهم أعلى من صوت رجال الدين الرسميين.

لا يستطيع المتسابق السنغالي محمد جميل أن يؤمِّن الاتصال الهاتفي مع أمه على مدى عشرة أيام، فالأصدقاء والمعارف يسألون عن أخباره، وهو في نظرهم أفضل من يعرف أحاديث الرسول ويرددها على مسامع الناس.

محمد جميل يرافق والده كل يوم ويقتفي أثره لكي يصبح إمامًا لأحد الجوامع المحلية في السنغال

لم يكن محمد جميل محظوظا، إذ أربكته العبارة التي ظهرت على شاشة الحاسوب، كما لم يفهم ما كان يقوله عضو لجنة التحكيم، وكانت النتيجة هي حصولة على درجة متواضعة جدا لا تتناسب مع قدرته في الحفظ أو التجويد، حتى أنه كان يبكي ويذرف الدموع في أثناء التجويد، الأمر الذي أثار عاطفة أحد المحكمين وأعطاه شرف التلاوة في واحد من أكبر جوامع القاهرة.

“لم أجوّد كل شيء بشكل صحيح، لكنني فعلت كل ما بوسعي”

لم يكن المتسابقون يعرفون بأن هناك جولة أخرى ثانية، الأمر الذي دفع المتسابقين ومرافقيهم إلى الذهاب في جولة سياحية لمشاهدة الأهرام والاستمتاع بركوب الجمال وما إلى ذلك. لم يبقَ منهم سوى 12 متسابقا، وعلى رأسهم رفدة وسعيدوف نبي الله، بعد أن انحسر دور محمد جميل.

ورغم قوة ذاكرة سعيدوف، فإنه لا يدعي ما ليس فيه، حتى أنه اعترف قائلا: لكي أكون صادقا، فأنا لا أعرف كل قواعد اللفظ والتجويد، لذلك فأنا لم أجوّد كل شيء بشكل صحيح، لكنني فعلت كل ما بوسعي.

ثمة مسألة نفسية مهمة جدا كان يقوم بها د. سالم عبد الجليل، وهي إظهار البهجة للمتسابقين، لأنها تمنحهم الراحة والطمأنينة، وتشجعهم على المضي في القراءة والتجويد.

وحينما انتهى آخر المتنافسين في التصفيات النهائية للمسابقة، أُعلنت النتائج التي لم تكن مفاجئة، وكانت المرتبة الثالثة من نصيب سعيدوف نبي الله محمد خان من طاجكستان، بينما حصلت المتسابقة المالديفية رفدة محمد رشيد على المرتبة الثانية.

المخرج الأمريكي غريغ باركر

أمّا المرتبة الأولى فكانت من نصيب المتسابق المصري عبد الله سمارة سليمان الذي يبلغ من العمر 17 سنة، وحضر الرئيس المصري السابق حسني مبارك حفل التتويج، وأشاد بموهبة الفائزين الثلاثة، وحثّهم على المضي في هذا المضمار.

مصائر الشخصيات.. خطط مشرقة وتحديات مقلقة

ما إن ينتهي الفيلم حتى نقرأ على الشاشة مصائر الشخصيات الرئيسية، وأولها عبد الله سمارة الفائز بالمرتبة الأولى، فقد بدأ يتدرّب لكي يصبح إماما ومعلما للأطفال الصغار الذين يريدون حفظ القرآن الكريم وتجويده.

أما محمد مهدي فهو يواصل تعليمه بمدرسة دينية في سيدني، لكن والده يفكر جديا بنقل العائلة إلى المغرب حتى ينشأ ابنه وسط ثقافة عربية وإسلامية. في حين تعمّق محمد جميل في تجويد القرآن وإتقانه، على أمل أن يصبح إماما لأحد الجوامع المحلية، مُقتفيا طريق أبيه.

وأما رفدة فما يزال والدها مُصرا على أن تكمل دراستها الدينية في اليمن، وأنها ستكون ربّة بيت، ولن تمارس أي مهنة أخرى. ومن أقواله اللافتة للانتباه أنّ “الرجل فرد، لكن المرأة أمة”. أما سعيدوف نبي الله فقد كان فرحا بعودته إلى مدرسته الجديدة في دوشنبه لأداء اختبارات القبول النهائي، خاصة أنه حصل على منحة كاملة تتضمن المأكل والمأوى، وسوف يزوره والده في نهاية كل أسبوع، ويحثه على تعلّم لغات أخرى كالعربية والفارسية والإنجلزية والروسية.

بقي أن نقول إن المخرج الأمريكي “غريغ باركر” قد أنجز عدة أفلام وثائقية، نذكر منها “معضلة مكافحة الإرهاب” (The Counter-Terror Dilemma) و”أشباح رواندا” (Ghosts of Rwanda) و”سيرجيو” (Sergio) و”فيلق الأخوة” (Legion of Brothers) و”السنة الأخيرة” (The Final Year).