“حمائم المليون دولار”.. جشع التجارة يقتل روح رياضة الحمام الزاجل

يألف الناس في الحياة اليومية رؤية الطيور في الشوارع والحدائق العامة وهي تلتقط الحبوب، ثم تمضي عائدة إلى أعشاشها، لكن ربما لا أحد منهم فكر يوما أن سعر الواحدة منها قد يصل إلى أكثر من مليون دولار.
هذا ما يكشف عنه الوثائقي الأيرلندي “حَمائم المليون دولار” (Million Dollar Pigeons)، إذ يدخل عالم تربية الحمام الزاجل ومسابقاته، ويكشف الإقبال الشديد من قبل مربيها على المشاركة في المسابقات الدولية التي تصل جوائزها إلى عدة ملايين من الدولارات، كما يُقبل كثير منهم على شراء الأنواع الجيدة المعروضة في المزادات بمبالغ كبيرة، مما حول رياضة تربية الحمام إلى تجارة عنوانها الربح، ولا شيء آخر.
يقابل صانع الوثائقي “جِفين فيزجيرالد” مجموعة من مربي الحمام في مناطق مختلفة من العالم، لينقل عنهم تفاصيل دقيقة حول تربية الحمام الزاجل والمراهنات المحلية والدولية الخاصة بها، ويجدهم جميعا متفقين على أن هواية تربيتها مفتوحة أمام الجميع، وأنها لا تفرق بين غني وفقير.
غير أن مسار الوثائقي يكشف عن وجود تنافس حاد يظهر بشكل جلي خلال مسابقاتها الدولية التي يجد فيها الهواة أنفسهم أمام منافسين كبار لا يقدرون على مجاراتهم، وذلك بسبب امتلاكهم أعدادا كبيرة من الحمام الزاجل الجيد الأصول، والقادر على المنافسة في مسابقات المسافات الطويلة التي يصل طولها إلى 600 كلم، وعلى الطير قطعها طيرانا، ثم العودة إلى نفس النقطة التي ينطلق منها.
“جون أوبراين”.. آخر رجال تربية الحمام المهددة بالانقراض
يقضي الوثائقي مع المربي الأيرلندي “جون أوبراين” وقتا طويلا لكونه يمثل الشريحة الفقيرة من مربي حمام الزاجل، وقد أخذ يتأثر بما يسمعه عن الأرباح الكبيرة التي يحصل عليها الفائزون في المسابقات الدولية، وعلى وجه الخصوص “مسابقة المليون دولار في جنوب أفريقيا” التي تعد الأكبر والأهم في حقل المسابقات.
يملك المربي الأيرلندي 60 حمامة زاجل فقط، وهو عضو في ناد محلي أغلب أعضائه من كبار السن الذين يشعرون أن رياضة تربية الحمام باتت مهددة بالانقراض، بسبب عدم اهتمام الجيل الجديد بها، وأن أولادهم يفضلون عليها الألعاب الإلكترونية، ولهذا أغلقت نوادٍ كثيرة أبوابها بسبب قلة الأعضاء المنتسبين إليها.
ينقل هذا الانطباع إلى بقية المربين في الولايات المتحدة وكندا وغيرها، ويجد أكثرهم يتفق مع ما ذكره له الأيرلنديون الهواة، ورغم ذلك ما زالت أنديتهم الصغيرة تواظب على تنظيم مسابقات محلية لأعضائها، لا تزيد المسافة التي تقطعها طيورهم خلالها على 150 كيلومترا، وهي مسافة تبدو ضئيلة جدا بالمقارنة مع مسابقة جنوب أفريقيا التي يقرر الوثائقي السفر إليها لمعرفة المزيد عنها.
معرفة الطريق بالقمر والرياح والجاذبية.. سر الحمام الزاجل
يقابل صانع الوثائقي مجموعة من منظمي المسابقة في جنوب أفريقيا، وكلهم من الرجال كبار السن، أما المسؤولة عنها فهي امرأة بيضاء تدعى “سارة بلاكشو” أخذت على عاتقها منذ 24 عاما إدارة المسابقة الدولية، وحققت فيها نجاحات كبيرة، وجعلت حلم المشاركة فيها يراود معظم مربي الحمام الزاجل في العالم.

يجري معهم صانع الوثائقي حديثا مشوقا عن السر وراء معرفة الحمام الزاجل للمكان الذي يعيش فيه، ويعود إليه رغم ابتعاده عنه مئات الكيلومترات. ويوردون له بعض النظريات العلمية، مثل قدراتها على معرفة مسارها من خلال استشعارها لمغناطيسية الأرض، وأخرى تؤكد على اتخاذها من موقع القمر نقطة تسترشد بها لتحديد مسار رحلتها وطريق عودتها منها، إلى جانب نظرية أخرى تميل إلى ترجيح فكرة معرفتها الغريزية بالرياح، وقوتها التي تستغلها من أجل حفظ طاقتها التي تساعدها على قطع المسافات الطويلة.
يؤكد المنظمون في الوقت نفسه أن لا أحد من العلماء قادر على حسم أي من تلك الاجتهادات بشكل قاطع، لكن المؤكد من خلال الخبرة المكتسبة من السباقات الطويلة أن الحمام الزاجل قادر على قطع مئات الكيلومترات طيرانا من دون توقف، ثم العودة إلى نفس المكان الذي ينطلق منه.
ألف دولار عن كل طير.. جوانب ربحية تفسد التسلية
تشرح مديرة مسابقة جنوب أفريقيا مزاياها، وأكثرها مدعاة للتباهي هو حجم المبالغ الكبيرة التي يحصل عليها الفائزون، فهي تصل أحيانا إلى أكثر من 5 ملايين دولار، إلى جانب كونها تجري في مكان واحد يتوافد عليه المتسابقون من كل أنحاء العالم، وفيه تجري عملية تدريب دقيقة لطيورهم المشاركة عدة أشهر، لتعتاد الطيور خلالها على المكان، وتتمرن بشكل تدريجي على قطع المسافات الطويلة المطلوب منها قطعها.
تفضح مقابلة مربي الحمام الأمريكي “جيم وارد” الجوانب الربحية في رياضة يفترض أن تكون قبل كل شيء هواية ممتعة ومسلية لا وسيلة لجني الأرباح، فمن شروط المشاركة في سباق جنوب أفريقيا أن يدفع المشارك لمنظميها ألف دولار عن كل طير، وقد اعتاد هو على إرسال ما بين 50 إلى 100 طير كل عام.

خبرة المربي “جيم وارد” التي جعلته واحدا من أشهر المتسابقين ومربي الحمام في العالم، علمته أن المشاركة بعدد أكبر من الطيور يضمن له فوزا أكيدا في السباق.
رياضة الطيور.. هوس صيني يختطف اللعبة من أباطرتها
يتباهى الأمريكي “جيم وارد” في مكتبه بعدد الأوسمة التي حصل عليها، وبالطيور الجيدة التي تربت في حقوله. ويدعو صانع الوثائقي إلى زيارة الحقل الذي ينمي فيه طيوره وطيور عائلته، وهو ينظم للصغار منها سنويا مزادا يحضره المتهافتون على شرائها، ويدفعون مقابلها مبالغ خيالية لا يمكن لأحد التصديق أنها سعر حمامة واحدة.
يكشف وجوده في المزاد عن إقبال صيني يصل إلى حد الهوس برياضة الطيور وتربية الحمام الزاجل، ويوثق شراء أحدهم حمامة زاد سعرها عن مئة ألف دولار. ويوصل التحري الوثائقي إلى أن أثرياء الصين الجدد باتوا الأكثر امتلاكا للحمام الزاجل الجيد، وأنهم يراهنون عليها بمبالغ كبيرة تجعل منافستهم غير ممكنة، حتى بالنسبة لأثرياء مربي الطيور.
يكشف الوثائقي أيضا عن الأرباح الهائلة التي تجنيها مديرة سباق جنوب أفريقيا جراء الإقبال الكبير على المشاركة فيه.
تعذيب الطيور.. جشع الأرباح يقتل الطيور في السماء
على الخط يدخل الناشطون البيئيون الذين يجدون في المسابقات الطويلة سببا في تعذيب الطيور واستغلالها تجاريا، دون مراعاة لكونها طيورا تُراد من وراء تربيتها التسلية والمتعة.
يبحث الوثائقي في ذلك الجانب، ويجد أن آلافا منها تموت سنويا خلال المشاركة، وأن التهافت عليها يدفع مربيها لإرسال أكبر عدد منها إلى جنوب أفريقيا، من دون الالتزام بالقوانين الطبية التي تفرض على الطير المشارك حصوله على شهادة تلقيح تضمن عدم نشر الأمراض والأوبئة بين الطيور المشاركة، كما أن كثيرا منها لا يصل إلى وجهته بسبب ضياعه في الطريق، أو موته تعبا، أو بسبب إصابته بصاعقة رعدية أثناء طيرانه الطويل.

لمعرفة المزيد عن ذلك الجانب يقابل الوثائقي طبيبا بيطريا مختصا بالحمام الزاجل، أكّد على أهمية إجراء اللقاحات اللازمة، وعلى ضرورة أن يستفسر المشاركون في المسابقات من البيطريين عن أفضل الطرق لحماية طيورهم من المرض.
“قلعة الحمام الزاجل”.. أسعار جنونية في سوق الطيور البلجيكية
يبدي البيطري ارتياحه لزيادة عدد المقبلين الأثرياء على شراء الحمام بأسعار كبيرة، لأنه بسببها يحصل جراء علاج المريض منها على مبالغ مجزية لم يحلم بها من قبل، ويشاطره فرحته بإقبال الأثرياء على شرائه مربوها في بلجيكا التي تعد المركز الأهم عالميا لرياضة تربية الحمام وبيعه في مزاداتها، وبجودتها سُميت “قلعة الحمام الزاجل”.
“بيبيا” واحد من أشهر المزادات المنظمة لعمليات البيع والشراء عبر الإنترنت، يشرف عليها مُربٍّ محترف يدعى “نيكولاس غيزلبيرت”. ويخبر صانع الوثائقي أن ثريا صينيا اشترى منه حمامة بمبلغ زاد عن 300 ألف دولار، وأن طيره الزاجل المسمى “أرماندو” هو الأغلى في العالم، بعد أن وصل سعره إلى 1.4 مليون دولار.
ويؤكد “غيزلبيرت” أن الرياضة قد غدت أكثر احترافية، وأن الطيور المباعة صارت تُكنى “ميسي” و”رونالدو”، إشارة إلى ارتفاع أسعارها، كما ترتفع أسعار اللاعبين المحترفين في سوق مبيعات الأندية الكروية.
“سارة بلاكشو”.. منظمة المسابقة التي تبخرت مع الجوائز
طغيان الطمع والجشع على رياضة تربية الحمام، ينعكس في سلوك المسؤولة عن تنظيم مسابقة جنوب أفريقيا “سارة بلاكشو”، فقد استغلت فترة انتشار وباء كورنا، لتترك المسابقة في عام 2020 من دون أن توصل للفائزين بجوائزها أموالهم المستحقة.
وقد أصيب الفائزون بالصدمة من سلوكها المشين، وساد بينهم شعور بأنها قد سرقتهم، بعد أن أغلقت كل وسائل الاتصال بها، واختفت من الصورة تماما، وهكذا كان شعور بقية العاملين معها، فقد خسروا بسبب هروبها كل رواتبهم وأموالهم التي استثمروها في المسابقة خلال أكثر من عشرين عاما.

وكان أكثر المتضررين من سلوكها هو الأيرلندي “جون أوبراين” الشغوف بالحمام وعالمه، لأنه بعد طول نقاش أقنع زملاءه في النادي بأهمية المشاركة في المسابقة، فجمعوا المبلغ المطلوب وأرسلوه إلى جنوب أفريقيا أملا بالفوز، لكن خبر اختفاء منظمة المسابقة أثار دهشتهم، وفي الوقت نفسه دفع المربي إلى التفكير بالمشاركة في مسابقة تايلاند العالمية التي أخذت سمعتها الطيبة تنتشر عالميا.
“باتايا”.. سمعة طيبة لمسابقة تمنح بصيص أمل لروح الرياضة
ينتقل الوثائقي إلى تايلاند ليتابع العمل الجاري منذ 3 سنوات في مسابقة “باتايا” للحمام الزاجل. اللافت هو إصرار مديرها التنفيذي على تعيين النساء فقط للعناية بالطيور المشاركة، لأنه على ثقة من أفضلية المرأة في مجال العناية بالحيوانات بشكل عام، والحمام الزاجل على وجه الخصوص.
يتابع الوثائقي تفاصيل المسابقة التي تعمل بنفس الأساليب التي كانت تعمل بها مسابقة جنوب أفريقيا، مع فارق تأكيد صاحب المشروع على مبادئ الثقة والأمانة والإخلاص في العمل، لكن ظلال الشك حول إمكانية تحويلها إلى مسابقة ربحية بالكامل تتأتى من إصرارها على تثبيت مسافة طويلة لطيران الحمام المتسابق، لا تقل كثيرا عن مثيلتها الأفريقية.
الملفت أنه رغم مشاركة النادي الأيرلندي في المسابقة التايلندية وعدم فوزهم بها، فإن الشغف برياضة تربية الحمام لم تفتر عندهم، لأنهم على ثقة من أن روح الرياضة الباحثة عن المتعة والتسلية ستبقى، بينما يأملون أن تتخلص نهائيا من جانبها الربحي الجشع.