موائد الأجداد.. سحر المطبخ الحلبي الفواح برائحة التوابل والمسك والبخور

 

في هذه الحلقة الأخير من سلسلة “موائد الأجداد” التي عرضتها الجزيرة الوثائقية خلال شهر رمضان، يقف بنا الباحث في التاريخ الإسلامي المظفر قطز تاج الدين على دُرَّةٍ أخرى من نفائس التراث العربي الإسلامي في فنون الطبخ والصحة، وهي موجودة كالعادة في مكتبات أوروبا، وعنوانها: “الوصلة إلى الحبيب في تصنيف الطيبات والطيب” لابن العديم.

“الوصلة إلى الحبيب”.. كتاب مبهر لم يكتشف من قبل

يُقلّب “فراس كريمستي” أمين مجموعة المخطوطات الشرقية في مكتبة غوتا البحثية صفحاتٍ لمخطوطة عربية نفيسة وهو يقول: أنا سعيد أن أعرض عليكم الآن هذه النسخة التي لم تستخدم من قبل في دراسة سابقة “الوصلة إلى الحبيب في تصنيف الطيبات والطيب” لابن العديم، انظر إلى هذا الوصف كيف يستخلصون العطور بالتقطير وتصعيد الصندل والمسك.

باحثون في مكتبة غوتا بألمانيا يعثرون على كتاب لابن العديم

إنها نسخةٌ لا تملك إلا أن تنبهر بكل تفاصيلها، وعدد كبير من الفصول والوصفات بين الأطعمة والعطور وحتى العلاجات، والمثير للدهشة أكثر أنها لم تكن مكتَشفة من قبل. والواضح أن كتب الطبخ العربي ليست مرتبطة بموضوع الغذاء فحسب، بل بالصحة أيضا، وهو تقليد ما زال متبعا في فهرسة الكتب العربية، فتوضع الوصفات في أبواب الصيدلة والطب.

كتاب “الوصلة إلى الحبيب في تصنيف الطيبات والطيب” لابن العديم

ومما يؤكد هذه الفرضية أن كتاب “الوصلة” كان جزءا من مخطوط أكبر عندما وصل إلى غوتا، وكان مجموعا إليه عمل آخر هو كتاب “حفظ الصحة وإصلاح المزاج وإزالة الأمراض الحادثة بالعلاج”، أي أن مستخدم الكتاب كان يتعامل معهما ككتاب واحد، قبل أن يصلا إلى غوتا ويفصلهما المفهرس الألماني إلى كتابين بموضوعين مختلفين حسب الفهرسة الأوروبية.

مطبخ حلب.. أطعمة شهية تفوح بروائح المسك والبخور

يقول خالد عزب خبير التراث العربي الإسلامي: ألِّف هذا الكتاب لعدة أسباب، أولها رغبة ابن العديم في توثيق المطبخ الحلبي في ظل كثرة المؤلفات عن المطابخ العربية في العالم الإسلامي، وأراد كذلك إفراد المطبخ الحلبي بصنعة لم يسبقه إليها غيره، وهي إدخال الدواء في الطعام، وإضفاء النكهات المتنوعة التي كانت تصل إلى حلب على أطباق مختلفة، حتى لا تملّ النفوس مذاقا أو نكهة واحدة.

مع دخول المغول حلب، نزح ابن العديم إلى القاهرة

ويصف “دانيال نيومان” رئيس قسم العربية والإسلام في جامعة دورهام، هذا الكتاب قائلا: يمكن تصنيف هذا الكتاب بلغتنا الحديثة على أنه الكتاب “الأكثر مبيعا في الأسواق”، بالنظر إلى عدد المخطوطات التي وصلتنا منه، حوالي 16 أو 17 نسخة، كان كتابا واسع الانتشار، وبالنسبة لعدد الوصفات فلدينا 630 إلى 700 وصفة، ويأتي هذا التفاوت نتيجة اختلاف العدد في النسخ المختلفة لدينا.

ويظهر في الكتاب استخدام العطور في تنظيف الأيدي وغسل الأواني، وأيُّها يستخدم مع ماذا، وليس الأمر كما اتفق، وكذلك إدخال البخور مع الحطب لإكساب الطعام نكهة خاصة، فتجتمع القرفة من الصين مع المسك من أعلى مرتفعات التبت وماء الورد من فارس، ليجتمع كل هذا الثراء والتنوع في النكهات مع توابل الهند في أطباق المطبخ الحلبي.

“المعشوقة” وصفة ملوكية تحضر بالعطور والتمور واللحم والمكسرات

فهذا طبق المعشوقة مثلا، طبق ثمين جدا، ويبدو أنه يُحضَّر لخاصة الخاصة، فالمسك وماء الورد يعطّر اللحم والإلية التي تحشى في تمر من أجود وأغلى الأنواع من الجزيرة العربية، ويُرشُّ عليها الفستق الحلبي، وتغطى بعسل النحل، إنها وجبة لا تقاوم.

رأس الرجاء الصالح.. فجر الرأسمالية يسحب البساط من المماليك

إن تدخل السلطة المركزية بالعصر المملوكي في شؤون الكارمية، كان عاملا داخليا أضعفهم، فأصبحوا تحت مظلة السلطان، مما أضعف قواهم التجارية، وأدى إلى انهيارهم في النهاية “كشبكة تجارية وسندات مالية”، ثم نشأت قوى أجنبية خارجية ساهمت في سرعة انهيار الكارمية، فدخلت إسبانيا والبرتغال على طريق التجارة بقوة، لإيجاد طرق بديلة تحرم المماليك من السيطرة على الطرق القديمة.

سفن عسكرية تتحرك جنبا إلى جنب مع سفن البرتغاليين التجارية لحمايتها

وجاءت محاولات “كريستوفر كولومبوس” في 1492 لاكتشاف العالم الجديد ظنا منه أنه قد وصل إلى الهند، ثم محاولات البرتغالي “فاسكو دا غاما”، بدعم من الملك “هنري”، للدوران حول أفريقيا عبر رأس العواصف، أو رأس الرجاء الصالح الآن، ونجاحه في الوصول إلى الهند، إلى حيث مصدر التوابل النفيسة، دون الحاجة إلى وساطة وابتزاز المماليك لهم.

وكانت سفن البرتغاليين التجارية تتحرك جنبا إلى جنب مع سفن عسكرية لحمايتها، وسفن فيها العلماء والجغرافيون لرسم خرائط العالم الجديد وتحديد تضاريسه ومناخله، وكل ما يتعلق بهذا العالم من علوم تخدم البرتغاليين في إرساء قواعد جديدة للتجارة والعلاقات الدولية، فيما يمكن تسميته بزوغ فجر الرأسمالية الجديدة.

سيطر البرتغاليون على تجارة التوابل والهيل والفلفل الأسود بشكل كامل

ثم وصلوا إلى إندونيسيا، ومنها جلبوا الزعفران وجوز الطيب الثمين جدا والنادر لمحدودية المساحة التي يزرع فيها. وبالتدريج أصبحت المنطقة الشرقية بأكملها تقريبا منطقة نفوذ برتغالية هولندية، وسيطروا على تجارة التوابل والهيل والفلفل الأسود بشكل كامل، وبهذا انهارت سيطرة الكارمية، وشحّت التوابل في الأسواق المصرية واختفى الفلفل الأسود تقريبا من موائد السلاطين والعامّة.

إحراق حلب.. ابن العديم يرثي مراتع الصبا

وكما كان موقع حلب الاستراتيجي ميزة لها، فقد جرّ عليها كثيرا من النكبات والويلات، من الصراع البيزنطي الأموي، إلى اجتياح المغول للمنطقة العربية، إلى الحملات الصليبية، وحتى الصراعات الداخلية بين سلاطين العرب والمسلمين أنفسهم. فطريق الحرير لم تكن دائما طريق التجارة والرفاهية، بل كانت طريق الحروب والدمار والدماء.

وقد عاصر ابن العديم فترة اجتياح المغول، ويقال إن المغول قد عرضوا عليه منصبا دبلوماسيا مهما، ولكنه رفض ذلك وآثر اللجوء إلى القاهرة، واستقبل فيها استقبالا يليق به بوصفه دبلوماسيا ومفكرا ومؤرخا وخطاطا، ويقال إنه قد حضر بشخصه تنصيب قطز أميرا على المماليك، ووصلت إليه أخبار جيش قطز وهو يهزم المغول في عين جالوت.

لكونها واقعة على طريق الحرير، أحرق المغول مدينة حلب.. ولكل زمان مغوله

فلما سمع باندحار المغول عاد إلى مدينته حلب، ولكنه فُجِع برؤية المدينة مدمّرة محروقة عن بكرة أبيها، مساجدها وأسواقها وبيوتها ومراتع الصبا وذكريات عائلته العريقة التي امتدت لأكثر من 200 عام، فكتب قصيدة ميميّة حزينة في رثائها، يقول فيها:

فيا حلبا أنّى ربوعك أقفَرتْ
وأعيتْ جوابا فهي لا تتكلمُ

وكنتِ لمن وافاكِ بالأمسِ جنة
فما بال هذا اليوم أنتِ جهنّمُ

يعز على قلبي المُعنّى بأنني
أرى ربعَكِ المأنوس قفرا ويعظمُ

أنوح على أهليك في كل منزلٍ
وأبكي الدجى شوقا وأسأل عنهمُ

ولكنما لله في ذا مشيئةٌ
فيفعل فينا ما يشاء ويحكمُ

قصيدة ابن النديم في رثاء مدينة حلب بعد تدميرها من قبل المغول

ثم عاد إلى القاهرة لأنه لم يحتمل فجيعته الكبرى في حلب، ومات هناك ودفن في جبل المقطم في مدافن الإمام الشافعي.

من المؤلم أن ابن العديم مات حزنا على مدينته ودياره، وما أشبه اليوم بالبارحة، فحلب اليوم يعاد تدميرها وحرقها كما أحرقها المغول من قبل.

عودة الغزاة.. ذهنية شرقية تغيّر المطبخ الأوروبي

أثناء الحملات الصليبية تأثر الجنود الصليبيون كثيرا بنوعية الطعام وطرق الطهي التي كان يتبعها العرب المسلمون في بلاد الشام، فأدهشهم هذا الرقيّ في المأكل والمشرب والملبس، وطريقة التفكير التي لم تكن تتاح للعامّة والجنود في أوروبا، وإنما احتكرها غصبا رجال الدين والنبلاء، فلما عادوا إلى بلادهم بدؤوا بالتململ والثورة على الأوضاع القائمة والطبقية المقيتة التي تفصل العامّة عن علية القوم.

مات ابن النديم كمدا على مدينته التي لم يجد من آثارها شيئا بعد اجتياح المغول لها

وبرز ذلك جليا في ظهور المطابخ الأوروبية المختلفة، وعلى رأسها المطبخ الفرنسي في أقاليمها المختلفة، وهنا يظهر تقصير الباحثين العرب في دراسة أنثروبولوجيا الطعام، وكيف أثّرت المطابخ العربية في الذهنية الأوروبية، حتى عندما كان يحاربون ويغزون بلاد العرب.

انتهت جولتنا مع الدكتور المظفر قطز تاج الدين على موائد الأجداد، ولسان حاله يقول: عندما بدأت رحلتي كنت أظن أنني سأتصفح مخطوطات للبحث عن وصفات طبخ قديمة، ولكنها أضحت أعمق بكثير مما تخيلت، وجعلتني أفكر فيما آل إليه التراث العربي من تفريط وإهدار حقّ من جهتنا نحن قبل غيرنا.

حوار مستمر بين المظفر قطز تاج الدين في بروكسيل ووالدته في مصر

إن تاريخنا يحوي شخصيات عظيمة لا نعرفها، ولم نحتفِ بها بالشكل الذي يليق بها، ولم نهتم بتراثها وننشر سيرتها بين الناس كما ينبغي، مثل ابن العديم الذي لم يصلنا إلا بعض أجزاء من كتبه، وضاع تراثه عبر الزمن.


إعلان