“وادي السلام”.. مقبرة النجف الكبرى ترسم آلام التاريخ وآمال الغد

أطفال يلعبون أمام مقبرة وادي السلام بالنجف في العراق

في العراق هناك الكثير من الذاكرات والذكريات والحكايات، ذاكرة شعبية وأخرى شعرية وثالثة نفطية ورابعة ثورية، وهناك ذاكرة الموتى.

يتناول فيلم “وادي السلام” الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية قصة رحمان أبو علي الشبلاوي، وهو دفّان ومرشد قبور في مقبرة وادي السلام بمدينة النجف العراقية، وقد ورث هذه المهنة من والده ويعمل بها مع ابنه.

في مقبرة وادي السلام بمدينة النجف العراقية، وقد ورث هذه المهنة من والده ويعمل بها مع ابنه.

“معيشتنا على الموتى”.. خبزة معجونة بالموت والحروب

يأخذنا أبو علي الشبلاوي في جولة بين الأموات، لنتعرف على تاريخ المقبرة وأبرز شخصياتها المدفونة فيها، وفي هذه الجولة نستكشف حقبا تاريخية للعراق على لسان أبو علي، وبناء على خلفية كل ميت، يقدم لنا شرحا عن الوضع السياسي والاجتماعي والفني والرياضي وحتى الديني للحقبة التي كان يعيش بها ذلك الشخص.

يقول أبو علي: أنا دفان، ومعيشتنا على الموتى، وهذه مهنتي، أصبحت أفرح كثيرا عندما لا يكون هناك موتى، حتى وإن كان رزقي على الدفن وخبرتي وخبزتي معجونتين بالموت والحروب والانقلابات والثورات. أنا فلاح لكني أزرع موتى، ولا أحصد حتى أرى القبر، وسيأتي يوم أُزرع فيه أنا، ولكن عندما أموت أتمنى أن أدفن بوادي السلام، لأن أكثر من نصف أيام عمري قضيته بين صخورها وقبورها، فأنا أرى بعيوني كما ترون، وأنقل لكم الحكايات مثل ما سمعتها، والعهدة على الراوي.

مدينة النجف بالعراق حيث مقام سيدنا علي بن أبي طالب ومقبرة وادي السلام

فكثير من الناس القادمين من مختلف مدن العراق وأنحاء العالم تجلب موتاها لتدفن قرب مقام علي بن أبي طالب في النجف.

صيانة المدافن وحفظ مواقعها.. مهنة ملوك المقابر

مثل باقي المجتمعات، فإن الناس هنا لديها طقوسها الخاصة وعاداتها وتقاليدها، مثل غسل الميت والتكفين، والدفن جزء من هذه الطقوس، ومن بعد أن يوارى الميت في الثرى يعودون إلى المقبرة بصحبة أشخاص يعرفون بالدفّانين.

يقول الشبلاوي: اشتغلت في هذه المهنة خلال الحرب الإيرانية العراقية، وتابعت العمل فيها بينما كنت أكمل دراستي، وواصلت الحفر والدفن للموتى، وتعلمت كل تفاصيلها. في مقبرة وادي السلام أكثر من 3 آلاف دفّان، وكلهم من مدينة النجف، وليس هناك أي غرباء، فحتى الحفارون كلهم من المدينة نفسها.

مقبرة “وادي السلام” بمدينة النجف بالعراق واحدة من أكبر مقابر المسلمين في العالم

الدفان هو شخص تتعاقد معه عائلات الأموات ليصبح مسؤولا عن دفنهم وصيانة القبور والحفاظ عليها، وهناك قبور يكتب عليها اسم الدفان، حتى يعلم أقرباء وعائلات الميت من الذي دفن فقيدهم، ليسألوه إذا أرادوا الاستفسار عن أي شيء أو زيارة القبور. يقول الشبلاوي: بداية عملي دفّانا كانت مع توسعة المقبرة، وانتقلت من أجدادنا حتى وصلت لنا، واليوم بعد أن كثرت الحروب والأزمات تطورت مهنة الدفان وأصبحت لها مكاتب ومقرات.

الدفان، رجل يعرف أماكن القبور وأسماء الموتى، ويقف عل القبور بعد كل دفن لتلقين الميت وإلقاء الدرس

تكتب أسماء الموتى -بحسب الشبلاوي- في سجلات هذه المكاتب، ويُدون اسم المتوفى وتاريخ الوفاة ومكان الوفاة، وعندما يريد أحد من أقاربه زيارته يدله الدفان أو أحد العاملين لديه إلى مكان وجود قبره. وقد تطور الموضوع بعد ظهور الهواتف وكاميراتها، فباتوا يصورون القبر ويدخلون البيانات في برنامج معين يساعدهم على تنظيم أمورهم.

رموز القبور.. مقبرة ضخمة تتسع اتساع تاريخها العريق

قد نتساءل كيف يعرف الدفانون مكان القبور في هذه المقبرة المترامية الأطراف؟ يقول الشبلاوي إنهم موجودون في هذه المقبرة منذ عشرات السنين، وهم يستخدمون الرموز إذا كان المتوفى رجل دين أو أديبا أو فنانا، وقد يتحول قبر الشخص إلى رمز، ويعرفه جميع العاملين في هذه المهنة.

ويقول الفنان العراقي ناظم الشبلاوي: الفنانون في العراق إرث كبير ووثيقة تاريخية، وكل فنان له تاريخه، ويمر بحقبة زمنية معينة، ويترك بصمته فيها.

لتسهيل العثور على قبور الأقرباء في مقبرة وادي السلام، يسجل اسم الدفان على لوحات المقابر

ناظم هو ابن عم رحمان الشبلاوي وهو أحد الممثلين المشهورين في السينما والتلفزيون ويتردد على المقبرة دائما ليزور قبور أصدقائه الفنانين الذين توفوا في الفترة الأخيرة، وتضم مقبرة السلام قبور فنانين وساسة ومذيعين وإعلاميين، ولهذا فإنها توسع دائما بين الفينة والأخرى.

كان الدفان سابقا يدل أهل الميت على قبره سيرا على الأقدام، ومع اتساع المقبرة بات لزاما عليه استخدام السيارة واستعمال الهاتف للتعرف على موقع القبر. وهناك قطاعات أخرى تعمل في موضوع دفن الموتى، كالحدادين وصنّاع الرخام والخطاطين والمصورين.

زخرفة المدافن.. زينة تعكس التاريخ وتريح الزائرين

يقول الشبلاوي: بالنسبة لنوع البناء والقبر فهو يعود لأهل المتوفى، وهم يختارون النوعية بحسب إمكانياتهم وميزانيتهم. وقدر الإمكان نحاول أن نقدم إضافات للقبر، حتى يرتاح أهل الميت عند زيارته.

ويقول العامل في المقبرة عبد الرحيم عباس: شكل القبور وزخرفتها يتطوران مع الوقت، وبسبب كثرة الموتى الذين يريد ذووهم دفنهم في مقبرة السلام، فقد ضاقت وتضاءل حجم القبر فيها، حتى تكون هناك مساحة للجميع.

تنتشر مكاتب تسجيل الموتى وبيع القبور بكثرة بالقرب من مقبرة وادي السلام بالنجف

يعرفنا الشبلاوي على الدفان المخضرم نجاح مرزة أبو صيبع، فقد عمل معه لتسجيل المقبرة في منظمة اليونيسكو، ويقول: كلما احتجت معلومة تاريخية، كان هذا الرجل مرجعي.

ويقول أبو صيبع: يقال في الروايات المعتبرة، من حضر كفنه وقبره أطال الله بعمره، فالله يمنحه طول العمر لأنه يفكر دائما بالموت، ولهذا يقوم بالأعمال الصالحة، وهذا أساس التنظير لشراء القبور وتحضيرها للناس وهم أحياء، ويبني بعض الأشخاص سراديب بقدر عدد عائلته أو حتى أكثر.

وادي السلام.. برزخ يحمل في بطنه كل ضحايا العراق

في القرن العشرين كان قطار الموت أوفى أصدقاء العراق، فكل محطة في هذا القطار أخذت حصتها من مدن العراق، وتركت مقابر بوادي السلام، بدءا من الحروب والصراعات بين الأحزاب والطوائف الدينية، إلى الاعتراضات والمظاهرات، مرورا بالانتفاضات، حتى أن تشييع الجنائز كان يخلّف قتلى وجنائز أخرى.

مهن رائجة تخدم المقبرة وساكنيها كالخطاط وبائع البلاط والدفان والحفار

ومن أهم حوادث تاريخ العراق ثورة عام 1920، وقد شكلت هذه المقبرة ملاذا آمنا للثوار الذين كانوا يهربون من الموت ويختبؤون في القبور، والآن باتت قبورهم شاهدة عليهم. وهناك من دفنوا في ناصية شارع بالنجف، وسميت الناصية باسمهم وهي “دوار ثورة العشرين”.

وفي غزو العراق 2003 أصبحت مقبرة وادي السلام مسرحا للاشتباكات، ولحق بها دمار كبير وعلت فيها أصوات المدافع والطلقات وغارات الطائرات وانكسر صمت الأموات.

في مقبرة وادي السلام قبور لمشاهير وفنانين وإعلاميين وسياسيين كثر، لا يعرف أماكنهم سوى الدفانين

فتزايُد أعداد الضحايا بشكل كبير وتوسّع المقبرة، أديا إلى ضم أحد معسكرات الجيش المجاورة، وصارت الناس تدفن موتاها على سطح الملاجئ وداخلها، وكانت الحكومة العراقية تفتح طرقات في المقبرة، وكان عليها إزالة كثير من القبور، وضاعت خلال هذه العملية قبور كثيرين مثل الفنانين والشخصيات المشهورة التي تركت بصمة كبيرة في العراق وخارجه.

تخفيف عذاب القبر.. ملاذ الهاربين من الذنوب في أرجاء العالم

يقول الشبلاوي: هناك روايات تقول إن من يدفن في هذه الأرض يخفف عنه عذاب القبر، ولهذا يأتي الناس من بقاع الأرض لدفن موتاهم هنا، لأن هذه الأرض لها خصوصية وكرامات، ومن هذه الكرامات أنها أصبحت مصدر دخل لآلاف العائلات، وهذا غير موجود في العالم.

ويضيف: عائلات الموتى تنفق آلاف الدولارات لنقل جنائزهم من أمريكا ودول أوروبية ومختلف أنحاء العالم إلى العراق، ليدفنوا في مقبرة وادي السلام. فوجود قبور الأجانب في مقبرة وادي السلام يثبت أن المقبرة ليست فقط للعراقيين، بل إنها احتضنت جميع الأموات من مختلف أنحاء العالم.

تتوافد جنازات الموتى من العراق وخارجها ليدفنوا في مقبرة وادي السلام بالنجف

ويمضي بالقول: هناك كثير من الناس يوصون أن يدفنوا بعد موتهم في النجف، وذووهم يلبون هذه الوصية وينقلون الرفات إلى مقبرة وادي السلام.

فأعداد المدفونين في مقبرة وادي السلام كبيرة جدا -وفقا للشبلاوي- ولا يمكن إحصاؤها، لأنه من قبل لم يكن هناك تسجيل، ناهيك عن فترات الحروب والكوارث والأزمات التي مرت على العراق.

حرب الإرهاب والفيروس.. سيل من الأرواح يغرق المقبرة

جاءت هذه المرة حرب من نوع آخر، وهي حروب التنظيمات الإرهابية التي كانت تقتل الناس ببشاعة، وخلفت آلاف القتلى، وهذا كله أدى إلى توسعة المقبرة أكثر. ويروي أبو علي قصة حادثة إرهابية حصلت في شهر رمضان عام 2015، فقد دخل إرهابي إلى أحد مساجد البصرة وفجر نفسه في المسجد، ونتج عنه استشهاد عدد من المصلين.

في حرب العراق الممتدة، ألوف من القتلى سقطوا ودفنوا في مقبرة وادي السلام

وصار العراق يعادل الموت، وأصبحت مقبرة وادي السلام الشاهد العيان والصامت في نفس الوقت لسلسة لا تنتهي من القتل والموت، وصار الاسم العائلي لبعض الأسر العراقية يجلب لهم الموت، وصارت حصتهم في الحياة -في أفضل الأحوال- قبر واحد بمقبرة وادي السلام.

وبعد حروب وأزمات وانفجارات توالت على الشعب العراقي الكوارث، وفي مقدمتها وباء كورونا وانتشاره في العالم عامة والعراق خاصة، وغيّر هذا الوباء “حياتنا ومجتمعنا، وحتى عملنا كدفانين”.

خلّف الوباء عشرات آلاف القتلى في العراق، وكان ضروريا توسعة المقبرة مرة أخرى، وشن كورونا حربا ضروسا على العراقيين، ولكنها من نوع جديد لم يعتد عليه أبناء الرافدين، ولم يعرفوا كيفية التعامل معها ومواجهتها.


إعلان